العبارة الواردة فى هذا المقال، مشتقة - مع تحوير - من عبارة أخرى جرت مجرى الأمثال، وهى: «مَنْ تمنطق تزندق». ومغزاها أن ثمة علاقة عضوية بين المنطق والكفر، وهذه العلاقة ثمرة فتوى لإمام من أكبر أئمة الحديث اسمه ابن الصلاح الشهرزورى «مات سنة 643 ه». سئل هذا الإمام: هل الشارع أباح الاشتغال بالمنطق تعلماً وتعليماً؟ وهل يجوز استعمال الاصطلاحات المنطقية فى إثبات الأحكام الشرعية؟ وماذا يجب على ولى الأمر فعله بإزاء شخص من أهل الفلسفة معروف بتعليمها فى مدرسة من المدارس العامة؟ وجاء جوابه على النحو الآتى: إن الفلسفة أُس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومَنْ تفلسف عميت بصيرته واستحوذ عليه الشيطان، وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة ومدخل الشر شر. وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشرع، ومَنْ زعم أنه يشتغل مع نفسه بالمنطق والفلسفة لفائدة يزعمها، فقد خدعه الشيطان ومكر به، ومن ثم فالواجب على السلطان أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء وسجنهم، ومنذ ذلك التاريخ والاشتغال بالمنطق محرم على المؤمن الصحيح الإيمان. ثم جاء ابن تيمية «مات سنة 729 ه» وألف كتاباً عنوانه: «نصيحة أهل الإيمان فى الرد على منطق اليونان» لخصه جلال الدين السيوطى «مات 911 ه»، فقال إن المنطق - وهو من علوم اليهود والنصارى - محرم الاشتغال به. وأنا أظن أن بداية هذا التحريم مردودة إلى تلك المناظرة التى دارت بين أبى سعيد السيرافى «مات 368 ه» الشارح لكتاب سيبويه، والذى قال عنه إنه «قرآن النحو» وبين «أبى بشر متى بن يونس» (مات 326 ه)، رئيس المنطقيين فى عصره، وقد دارت المناظرة حول المفاضلة بين النحو والمنطق. كان رأى السيرافى أن أرسطو وضع المنطق على لغة أهله وهم اليونان، وبالتالى فهو مرفوض لأن لغة العرب غير لغة اليونان، ولغة العرب تقوم على الإعراب، ووظيفة الإعراب فهم المعنى، واشتقاق لفظ الإعراب يدل على ذلك، فنقول أعرب الرجل عما بنفسه، إذا عبر عما بداخله، أما أبوبشر متى بن يونس، فقد رأى أن المنطق مرتبط بالعقل، والعقل يحتوى على معان مجردة لا علاقة لها بلغة دون أخرى، فعندما نقول أربعة وأربعة ثمانية، فهذا القول عند جميع الأمم، على الرغم من تباين لغاتها. وتأسيساً على ذلك كله، يمكن القول بأن ثمة تياراً متصلاً من السيرافى إلى ابن تيمية، وإذا كان ابن تيمية أساس فكر الإخوان المسلمين، فالتيار إذن ممتد إلى القرن الواحد والعشرين، وهو الذى دفعنى إلى صياغة عنوان هذا المقال، وهى صياغة صالحة لهذا الزمان، وهاك الأدلة. فى عام 1265ه أصدر رفاعة الطهطاوى، كتاباً عنوانه: «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز»، جاء فيه أنه ترجم اثنتى عشرة شذرة من مؤلفات فلاسفة التنوير، ومع ذلك فإنه يحذر القارئ من قراءة هذه الشذرات لأنها محشوة بكثير من البدع، وهو لهذا يشترط لقراءتها أن يكون القارئ مسلحاً بالإيمان، وبدون ذلك فإن اعتقاده سيفتر ويضيع يقينه. وإذا كان ذلك كذلك فمن حقنا التساؤل: لماذا ترجم؟ الجواب: استجابة لمطلب نابليون من محمد على. ولماذا حذر؟ الجواب: استجابة لمطلب محمد على. وهكذا يقع رفاعة فى تناقض غير مشروع لأنه لا يحفل بمقتضيات المنطق، لذا لزم أن تنطبق عليه العبارة الواردة فى عنوان هذا المقال. وفى عام 1997 ذهبت جماعة من المثقفين إلى إسرائيل لمقابة القيادات الفلسطينية من أجل المساهمة فى تدعيم مسار السلام، فالتقت بفيصل الحسينى، رئيس بيت الشرق فى القدسالشرقية، وفى نهاية اللقاء سألنا الحسينى: هل تريد حضورنا مرة أخرى؟ أجاب: تعالوا ومعكم ألف. وهوجمت الجماعة بعد عودتها إلى القاهرة وأدينت بدعوى أنها جماعة مارقة وخارجة على إجماع الأمة.. وهنا تناقض غير مشروع لأن صاحب القضية يريد الجماعة لمساندته هو ومن معه، وفى الوقت نفسه الجماعة موضع هجوم من غير أصحاب القضية، لذا لزم أن تنطبق على هؤلاء المهاجمين العبارة الواردة فى عنوان هذا المقال.