إذا كان التنوير يعنى ألا سلطان على العقل إلا العقل نفسه فمعنى ذلك أن وأد التنوير هو وأد للعقل. والسؤال إذن: ما معنى وأد العقل؟ لغة: الوأد هو الدفن حياً، والدفن حياً يعنى الخنق، والخنق عصر الحلق حتى الموت، وإذا كان الحلق هو الذى تخرج منه حروف الهجاء عند النطق، فمعنى ذلك أن الخنق هو خنق النطق، وإذا كان لفظ «منطق» مشتق من لفظ «نطق»، فالخنق إذن إبطال المنطق.. ومعنى ذلك أن ثمة تماثلاً بين الخنق وإبطال المنطق. والسؤال إذن: ماذا نخنق لكى يتحقق إبطال العقل؟ نخنق البرهان، أى نخنق العملية الذهنية التى نقوم بها للتدليل على صحة فكرة أو فسادها، وقد تم خنق البرهان على يد ابن الصلاح الشهرزورى الذى كان يعتبر، فى القرن السابع الهجرى، من أكبر أئمة الحديث.. أفتى فقال: «وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر.. شر، وما يزعمه المنطقى للمنطق من أمر البرهان فقد أغنى الله عنه كل صحيح الذهن.. ومَنْ زعم أنه يشتغل مع نفسه بالمنطق والفلسفة لفائدة يزعمها فقد خدعه الشيطان ومكر به». والسؤال بعد ذلك: إذا كان الاشتغال بالبرهان زندقة فبماذا نشتغل؟ نشتغل بألفاظ تغنينا عن البرهان وهى على النحو الآتى: مؤامرة وخيانة وعمالة. ومعنى هذه الألفاظ الثلاثة أنك إذا دخلت فى حلبة الحوار من أجل إقناع محاورك وعجزت عن إقناعه فأنت إزاء أحد أمرين: إما أن تعلن عجزك وتحاول بعد ذلك أن تكون على وعى بضرورة إصلاح هذا العجز، وإما أن تقنع بأنك من ملاك الحقيقة المطلقة وأن محاورك متآمر أو خائن أو عميل فى حده الأدنى أو أنه زنديق وكافر وملحد فى حده الأقصى. وتأسيساً على ذلك تم وأد التنوير، ونمثل لما نقول من أحوال مصر الثقافية فى القرنين التاسع عشر والعشرين. ففى القرن التاسع عشر أرسل محمد على بعثة علمية إلى فرنسا بقيادة رفاعة الطهطاوى من أجل نقل الثقافة الغربية وذلك بترجمتها. وإثر انتهاء زمن البعثة نشر رفاعة كتاباً عنوانه «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز» (1834). جاء فيه «أن حكماء باريز لهم فى العلوم الحكمية حشوات ضلالية مخالفة لسائر الكتب الدينية. من ثم فمن يرد الخوض فى لغة الفرنسوية المشتملة على شىء من الفلسفة أن يتمكن من الكتاب والسنة وإلا ضاع يقينه». يقول ذلك وقد ترجم مدة إقامته فى فرنسا اثنى عشر كتاباً أو شذرة، وقرأ روح القوانين لمونتسكيو وعقد التأنس والاجتماع الإنسانى لروسو ومعجم الفلسفة لفولتير، وكل هذا يعنى أن رفاعة وهو ينقل ثقافة التنوير، فى فرنسا فى القرن الثامن عشر، كان يدعو فى الوقت نفسه إلى عدم تمثل هذه الثقافة. ولهذا أخطأ ألبرت حورانى فى كتابه «الفكر العربى فى العصر الليبرالى» حين قرر أن فكر التنوير الأوروبى قد ترك أثراً فى رفاعة وفى العقل المصرى بفضل رفاعة. أضف إلى ذلك أن مخطوط كتاب «تخليص الإبريز» كانت به فقرات حذفها هو بنفسه.. من هذه الفقرات فقرة تتحدث عن إثبات علماء الإفرنج لدوران الأرض حول الشمس، وكان مكانها فى المقالة السادسة فى آخر التعريف بالجغرافيا الفلكية. والسؤال بعد ذلك هو على النحو الآتى: ماذا يعنى تحذير رفاعة الطهطاوى من قراءة أفكار التنوير وحذفه لنظرية دوران الأرض؟ يعنى أنه من الأفضل إبطال إعمال العقل فى الفلسفة وفى العلم، ويشير إلى هذا المعنى زكى نجيب محمود فى كتابه «تجديد الفكر العربى»، يقول: «إن السماء قد أمرت وعلى الأرض أن تطيع، وأن الخالق قد خطط وعلى المخلوق أن يقنع، وأنه إذا ما تعارضت الآخرة والدنيا كانت الآخرة أحق بالاختيار، العلاقة بين الطرفين ليست بالأخذ والعطاء، بل هى علاقة الحاكم والمحكوم، والحاكم مطلق السلطان، تلزم عن هذه حقيقة ثانية هى أن قوانين الأشياء والظواهر فى الطبيعة قد تطرد أو لا تطرد بحسب ما يشاء لها الحاكم السماوى المطلق، وإذا كانت هذه هى الصورة الكونية فلابد أن تكون كذلك هى الصورة لحياة الإنسان فى مجتمعه، فلصاحب السلطان أن يريد وعلى الناس أن يطيعوا». أنا أزيد هذا المعنى إيضاحاً بالقول إن حركة الإخوان المسلمين هى الداعية له بل هى المؤسسة له استناداً إلى فكر ابن تيمية «1263 - 1330» الذى يؤثر السمع على العقل ويُكفر من يستعين بالعقل فى فهم النص الدينى. هذا هو ما فعلناه بالتنوير، والسخرية هنا أننا احتفلنا بمرور مائة عام على «التنوير» فى مصر فى عام 1992، وتصويب هذا الخطأ يكمن فى قولنا إننا فى ذلك العام قد احتفلنا بمرور مائة عام على «وأد العقل».