«يا مسجون كَسَّرِ الصخرة، للصخرةِ سبع ة أبواب، شوف فين الباب واضربْ»، هكذا كان يزعقُ السجّانُ الخشن فى وجه المفكر المصرى الكبير «محمود أمين العالم»، وهو يلوّحُ بالسوط. السوطُ الذى نالَ من ظهر العالِم ورفاقه من مثقفى ومفكرى ومناضلى وثوّار مصرَ فى معتقلات 59 الشهيرة. هذا أثناء النهار، أما فى المساء، فكان العالمُ يدعو السجّانَ إلى زنزانته لكى يعلّمَه القراءةَ والكتابة، وطبعا يسرِّبُ فى وعيه حقوقَه المهدَرةَ عند حاكمه وعند الحياة. أندهشُ وأهتفُ فى عجبٍ: يا أستاذ محمود، يجلدُك بالنهار، وتمحو أميّتَه بالليل! فيقول، وابتسامته الرائقةُ الشهيرةُ تُشرِقُ وجهَه: طبعا يا فاطمة، كلٌّ منّا يؤدى دورَه. هو يظنُّ أننى مجرمٌ يستحقُ العقاب؛ لأن رؤساءه أفهموه أنّى «شيوعى» يعنى: كافر وعدو الوطن، ولذلك جلْدُه لى واجبٌ يؤديه بإتقان، وأما واجبى، وحقُّه عندى، فهو تعليمُه وتثقيفه هو وسواه ممن جعلتهم الدولةُ جهلاءَ أُميّين كى تسوسَهم وتبطشَ بهم أعداءها من مثقفين يكافحون من أجل تحقيق الديموقراطية والعدالة لمثله من الأميين والفقراء. أسألُه: يعنى لم تكره سجّانَك؟ فيجيبنى: «مطلقا، بالعكس، هو ضحيةُ التغييب والجهل، بل أحبّه وأشفقُ عليه، وأصغى إليه إصغاءَ التلميذِ لأستاذه وهو يتأمل الصخرةَ، ثم يشيرُ بإصبعه على مكامن ضعفها لأهبطَ بمِعولى عليها فتتحطم، ذاك عملى فى عقوبة الأشغال الشاقة. لا تتفتتُ الصخرةُ إلا من نقاط ضعفها السبع، أبوابها السبعة. يعلمنى بالنهار كيف أفتتُ الصخور، وأعلمه بالليل كيف يفتتُ أسوارَ العتمة من حوله.» ثم يقضى الأستاذُ الجميل ليلَه الطويل بالزنزانة فى كتابة القصائدِ على الحائط، ولم تزل تلك القصائدُ موجودةً فى سجن القلعة، ترفض الحيطانُ أن تمحوها! هذا هو محمود أمين العالم، الذى فقدناه بالأمس، من أسفٍ، لتسقطَ من صندوق جواهرنا أيقونةٌ حُرّةٌ نادرةٌ، ليت مصرَ تقدرُ أن تعوضها! جاءنى شابٌ فى أحد المؤتمرات لأتوسّط له أن يصافحَ الأستاذ. فقلتُ: «اذهبْ إليه وحدَك، فليس أكثر تواضعا ورُقيًّا من العلماء، وهو عالِمٌ أى عالِمٍ!» لكن حياءَ الشاب منعه، فذهبت وقلت: «هذا الشابُ يودُّ مصافحتك يا أستاذ.» فينهض العالمُ الجليل من مقعده ويصافحه فى نبلٍ قائلا: «أنا اسمى محمود أمين العالم.» فأغتاظُ وأقولُ: «يا أستاذنا لا تقدّمْ نفسَكَ، فتلك صفعةٌ لنا، وأنتَ مَنْ أنت!» فيضحك قائلا: «بطلى بَكش يا بنت، هو أنا عملت حاجة؟ إنتو اللى حتعملوا وتصلحوا البلد دى!» يسيرُ فى الشارع فيسلّم على البواب والسائس ويسأل عن أولادهم ويسمع شكاواهم! فأى رجلٍ هذا الذى فقدنا! أما الطُّرفةُ التى لا أنساها فكانت يوم نشر «الأهرام» خبرا عن كتابى: «الكتابة بالطباشير»، تحت عنوان: «العالم يحذّر من كتاب ناعوت». وكان الأستاذُ قد كتب مقدمةً فاتنة لكتابى تحت عنوان «تحذيرٌ ومقاربة»، أعتبرُها، وأبدا، وسامًا فوق صدرى أفاخرُ به العالمين. حذّرَ الأستاذُ محمود فى مقدمته القارئَ من القراءة السطحية غير العميقة لهذا الكتاب. يومها أيقظنى رنينُ الهاتف فى السادسة صباحا، لأجد أمى تصرخ: «هببتى إيه فى كتابك الأخير؟ وليه بيحذّروا الناس منه؟!» والحكاية أن «الأهرام» لم يضع كسرةً تحت اللام فى كلمة «العالِم»، فقرأتها أمى: «العالَم يُحذّر من كتاب ناعوت!»، وارتعبتْ. أستاذى الجميل، سلامٌ عليك، وقبلةٌ على يدك! [email protected]