زيارة مهمة من وفد جامعة الدفاع الوطني الباكستانية ل مشيخة الأزهر    أوقاف شمال سيناء تعقد برنامج البناء الثقافي للأئمة والواعظات    بيانات سوق العمل الأمريكية تهبط بالدولار .. و«الإسترليني» يتعافى    مدير مركز مصر لريادة الأعمال تؤكد أهمية الاستثمار في التعليم والصحة    بنك التعمير والإسكان يحصد 5 جوائز عالمية في مجال قروض الشركات والتمويلات المشتركة    «الأونروا»: الأوضاع في رفح الفلسطينية تزداد مأساوية وقتامة يومًا بعد يوم    منظمة العفو الدولية: الحكومات التي تمد إسرائيل بالسلاح تنتهك اتفاقية الإبادة    البيت الأبيض: سيتعين على بايدن اتخاذ قرارات بشأن شحنات الأسلحة إلى إسرائيل إذا اجتاحت رفح    أحمد الطاهري: المفاوض المصري يعمل على تقريب وجهات النظر لوقف الحرب    قرار لا رجعة.. سلوفينيا تعتزم المصادقة على قرار الاعتراف بدولة فلسطين    الإسماعيلي يفلت من كمين الداخلية بهدف في الوقت القاتل بالدوري المصري    تشكيل النصر أمام الأخدود.. رونالدو يقود الهجوم    أمينة عرفي تتأهل إلى الدور الثاني من بطولة العالم للاسكواش    لطلاب الشهادة الإعدادية بالدقهلية.. عرض النماذج الاسترشادية للامتحانات    إصابة 4 أشخاص في حادث تصادم على طريق جمصة- المنصورة بالدقهلية    أحمد العوضى يحسم الجدل: طلاقى من ياسمين هو انتهاء نصيب وليس انتهاء حب    روبي تتصدر ترند X قبل 24 ساعة من إصدار «الليلة حلوة»    البيت الأبيض: حماس تعانى الآن خسائر بشرية ومادية أكثر من أى وقت مضى    خالد الجندي ب"لعلهم يفقهون": أركان الإسلام ليست خمس فقط    أمين الفتوى: «مطالب الزوجة الزيادة تجعل الزوج ضعيف الإيمان مرتشيًا» (فيديو)    "الخارجية" تستضيف جلسة مباحثات موسعة مع وزير الهجرة واللجوء اليوناني    تفاصيل مشروع تطوير عواصم المحافظات برأس البر.. وحدات سكنية كاملة التشطيب    «الهجرة» تكشف عن «صندوق طوارئ» لخدمة المصريين بالخارج في المواقف الصعبة    مصطفى غريب يتسبب في إغلاق ميدان الإسماعيلية بسبب فيلم المستريحة    "فاصل من اللحظات اللذيذة" يتجاوز حاجز ال 49 مليون جنيه إيرادات    لمواليد برج العقرب والسرطان والحوت.. توقعات الأسبوع الثاني من مايو لأصحاب الأبراج المائية    30 مايو الحكم على حسين الشحات في التعدي علي لاعب نادي بيراميدز    مصرع سائق في انقلاب سيارتين نقل على الصحراوي الشرقي بسوهاج    هل من زار قبر أبويه يوم الجمعة غُفر له وكُتب بارا؟.. الإفتاء تجيب    رئيس الوزراء يتابع جهود إنشاء مركز جوستاف روسي لعلاج الأورام فى مصر    متحور كورونا الجديد «FLiRT» يرفع شعار «الجميع في خطر».. وهذه الفئات الأكثر عرضة للإصابة    وزير الصحة يشهد فعاليات المؤتمر العلمي السنوي لهيئة المستشفيات التعليمية    فصائل عراقية: قصفنا هدفا حيويا في إيلات بواسطة طائرتين مسيرتين    محافظ الشرقية: الحرف اليدوية لها أهمية كبيرة في التراث المصري    مساعد وزير الصحة: تسليم 20 مستشفى نهائيا خلال العام الحالي    قوات الدفاع الشعبى تنظم ندوات ولقاءات توعية وزيارات ميدانية للمشروعات لطلبة المدارس والجامعات    بعد قرار سحبه من أسواقها| بيان مهم للحكومة المغربية بشأن لقاح أسترازينيكا    على معلول يحسم مصير بلعيد وعطية الله في الأهلي (خاص)    نشرة «المصرى اليوم» من الإسكندرية: تأجيل محاكمة المتهمين بأحداث سيدي براني وسموحة يصطدم ب«زد»    بعد ظهورها مع إسعاد يونس.. ياسمين عبد العزيز تعلق على تصدرها للتريند في 6 دول عربية    "الخشت" يستعرض زيادة التعاون بين جامعتي القاهرة والشارقة في المجالات البحثية والتعليمية    وزير الصحة: دور القطاع الخاص مهم للمساهمة في تقديم الخدمات الطبية    حكم هدي التمتع إذا خرج الحاج من مكة بعد انتهاء مناسك العمرة    محافظ الغربية يوجه بتسريع وتيرة العمل في المشروعات الجارية ومراعاة معايير الجودة    "العمل": تحرير عقود توظيف لذوي الهمم بأحد أكبر مستشفيات الإسكندرية - صور    تأجيل محاكمة المتهمين في قضية فساد التموين ل 8 يوليو    وزيرة التضامن تشهد انطلاق الدورة الثانية في الجوانب القانونية لأعمال الضبطية القضائية    السيسي يستقبل رئيس وزراء الأردن    مستشفى العباسية.. قرار عاجل بشأن المتهم بإنهاء حياة جانيت مدينة نصر    القبض على المتهمين بغسيل أموال ب 20 مليون جنيه    21 مليون جنيه.. حصيلة قضايا الإتجار بالعملة خلال 24 ساعة    دفاع حسين الشحات يطالب بوقف دعوى اتهامه بالتعدي على الشيبي    جهاد جريشة يطمئن الزمالك بشأن حكام نهائي الكونفدرالية أمام نهضة بركان    معدل التضخم السنوي لإجمالي الجمهورية يسجل 31.8% في أبريل الماضي    مصدر عسكري: يجب على إسرائيل أن تعيد النظر في خططها العسكرية برفح بعد تصريحات بايدن    اليوم.. وزير الشباب والرياضة يحل ضيفًا على «بوابة أخبار اليوم»    دعاء الامتحانات مستجاب ومستحب.. «رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري»    تامر حسني يقدم العزاء ل كريم عبدالعزيز في وفاة والدته    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د.نوال السعداوى تكتب: لماذا يشكر الأمريكيون «الله والمسيح» الخميس الأخير من نوفمبر؟
نشر في المصري اليوم يوم 03 - 12 - 2008

أشرقت شمس الخريف كالمعتاد فى مدن الجنوب الشرقى للمحيط الأطلنطى، ومنها مدينة أطلانطا عاصمة ولاية جورجيا، حيث أعيش منذ عامين وأكثر، يشتد الدفء وتشرق الشمس كما قالت «أندرونيكا»، لأن يوم الخميس الأخير من نوفمبر كل عام هو عيد الشكر لله والمسيح، يرسل الله والمسيح الشمس إلينا لأننا نقدم لهما الشكر فى عيد الشكر،
 هكذا تقول أندرونيكا وهى «تبربش» بعينيها، تذكرنى «البربشة» بحركة العينين لكثير من رجال ونساء الأديان فى كل البلاد، وهذه التمتمة وتلاوة بعض الآيات المقدسات من الكتب الدينية السائدة. أندرونيكا عضوة متحمسة للكتلة المسيحية السائدة تحت حزام الكتاب المقدس فى الجنوب، أحب أن أشاكسها:
لماذا يا أندرونيكا يشكر الأمريكيون الله والمسيح الخميس الأخير كل نوفمبر؟
سألتها قبل أن تسافر إلى أسرتها فى نيويورك بالأمس، فعيد الشكر هو عيد أمريكى بحت، لا يشاركهم الأوروبيون أو المسيحيون فى العالم هذا الشكر «كما يحدث فى عيد الكريسماس أو عيد ميلاد المسيح»، هو عيد عائلى بحت، يحتفل به أفراد العائلة وحدهم دون ضيوف أجانب أو من خارج العائلة، سافر الجميع منذ الأمس إلى عائلاتهم فى جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، أصبح الحى الجامعى «يسمونه الكامباس» لى وحدى، تبدو الوحدة نعمة لا يحظى بها إلا من ينشدها،
وكنت أنشد الوحدة منذ طفولتى، كرهت الضجيج الناتج عن الزحام، فى البيت كان العدد كبيرًا والزحام شديدًا، أشد منه الزحام فى المدرسة والشارع ومكان العمل وأى مكان آخر يذهب إليه الإنسان: النادى، السينما، المسرح، القطارات، الأتوبيسات، المراحيض العامة، حتى المدافن والقبور مزدحمة بالموتى، وكم شقيت فى العمل سنوات الشباب والكهولة لأشترى مقبرتى دون شريك!
نعم، كرهت الشريك منذ طفولتى، مثل الآلهة العظام فى التاريخ لا يقبلون الشركة أو المشاركة أو الشراكة، حسب لغة خبراء التنمية الرأسمالية الحديثة وما بعد الحديثة، كانت القرية فى طفولتى هادئة لكنها أصبحت أكثر ضجيجًا من المدينة، فوق كل بيت من الطين النىء أو كوخ من التبن المعجون بالروث، مكبر صوت «ميكروفون» يصرخ ليل نهار بأصوات لا يمكن التقاطها من شدة ارتفاعها، منها التواشيح والدعوات، والابتهالات فى المآتم والكوارث، ومنها الطبول والرقص والغناء فى حفلات الزواج أو الطلاق..
 نعم، شهدت فى قريتى حفلاً أقامته زوجة حصلت على الطلاق بعد خمسة عشر عامًا من الدوخان على المحاكم.
قالت لى هذه الزوجة التى تربطنى بها صلة الرحم: الطلاق.. نعم يا دكتورة، الوحدة خير من جليس السوء.
كم من أزواج وزوجات يعيشون معا فى تعاسة خوفًا من الوحدة، مع أن الوحدة نعمة، لا يعرف قيمة الوحدة إلا من يعيشها، نحن نخاف الوحدة مثل الموت لأننا لا نعرفهما، لأننا لا نعيشهما، تمهلت وأنا أمشى أستمتع برحيق الخريف، رائحة أوراق الشجر الساقطة تفرش الأرض بألوان الطيف،
 أدوس عليها برفق، أخشى أن تموت تحت قدمى، أحس بها تتحرك مثل كائنات حية، مثل الأسماك الصغيرة الفضية الذهبية فى بحيرة صافية يلمع قاعها تحت الشمس، تنتفض ورقة الشجر الحمراء بلون دم الغزال، الانتفاضة النهائية.. هذا الرحيق الأخير قبل الرحيل، تتركز خلاصة الحياة فى هذا الشذى لحظة الموت!
الذين لم يعرفوا الوحدة لم يعرفوا قمة الوداع المبدع للأشياء الساقطة فى الطريق، وإن كان ورقة شجر صغيرة تلفظ نفسها الأخير، أو سحلية تبرق عيناها متألقة تحت الضوء قبل الذوبان فى الأرض، لا يعشق الوحدة إلا من يعيشها مثل الحب،
 وقد سألتنى أندرونيكا ذات يوم: ألا تشعرين بالوحدة وأنت هنا فى الغربة بعيدًا عن الوطن والأهل؟ وقلت لها: الوحدة أحد الأوهام مثل الموت، لولا جمال الموت لما كانت الحياة جميلة، ولولا روعة الوحدة لما كان عمق التأمل والإبداع والخلق والتقدم، لكنك يا أندرونيكا لم تردى على سؤالى: لماذا الشكر فى عيد الشكر؟
 قالت أندرونيكا: أعترف لك يا دكتورة أننى أشعر بالغربة وسط عائلتى فى نيويورك أكثر من هنا فى أطلانطا، هنا أشعر أننى قريبة من الله والمسيح، أبى وأمى وإخواتى فى نيويورك لا يؤمنون ولا يذهبون إلى الكنيسة، ولا يشكرون الله والمسيح فى عيد الشكر! الشكر لهما واجب!
لماذا يا أندرونيكا؟
- لأن الله والمسيح نصرا المهاجرين الأوائل الذين جاءوا إلى أمريكا!
- على من انتصر المهاجرون الأوائل؟
وتسكت الفتاة التى تحمل شهادة عالية فى التاريخ الأمريكى، ثم تقول: انتصروا على السكان الأصليين!
- وهل إبادة السكان الأصليين بواسطة المهاجرين عمل إنسانى يستحق الشكر يا أندرونيكا؟
تسكت أندرونيكا طويلاً ثم تقول، بالطبع لا، لكن الله والمسيح لا يساندان إلا القضايا الإنسانية العادلة، ألا ترين فى كلامك يا أندرونيكا بعض التناقض؟ نعم هناك تناقض يا دكتورة لكن التاريخ متناقضا والحياة أساسها التناقض،
ثم إن النصر يكون دائمًا للأرقى من الأجناس البشرية، تصورى لو أن الهمج والبرابرة انتصروا على الأوروبيين.. لولا انتصار أوروبا على غيرها من البشر لما حدثت النهضة الفكرية والعلمية التى نعيشها اليوم، لماذا نتكلم فى أمريكا اللغة الإنجليزية؟ لأن الأنجليز الذين هاجروا إلى أمريكا تغلبوا على غيرهم من المهاجرين الآخرين.
تغلبوا بماذا يا أندرونيكا؟
تغلبوا بالعلم والذكاء والتقدم، سألتها: هل هذه هى دراستك للتاريخ؟ قالت: نعم، كان الإنجليز أول من جاءوا إلى أمريكا وتمكنوا من السيطرة على الآخرين، وأصبحت اللغة الإنجليزية هى السائدة.
رغم دراستها التاريخ لم تعرف أندرونيكا أن التاريخ يكتبه المنتصرون دائمًا، وأن الإنجليز لم يكونوا أول المهاجرين إلى أمريكا، جاء أوائل المهاجرين إلى أمريكا من فرنسا عام 1564، سبقوا الإنجليز بخمسين عامًا إلى شاطئ النخيل فى فلوريدا،
 هربوا من الحرب بين الكاثوليك والبروتستانت التى أغرقت أوروبا بالدماء منذ عام 1560، كان الفرنسيون أول من أقاموا عيد الشكر لله والمسيح فى أمريكا لنجاتهم من الحرب فى فرنسا، وأنشأوا مستعمرة كاثوليكية باسم كارولين،
لكن الله والمسيح نصرا البروتستانت على الكاثوليك، تم ذبح الفرنسيين فى كارولين بتهمة الإلحاد، وسُقط من التاريخ الأمريكى تحت زحف الإنجليز دورهم: المهاجرون الفرنسيون الذين بدأوا عيد الشكر،
 لكن لسوء حظهم ما إن شكروا الله والمسيح على إنقاذهم من الموت فى فرنسا حتى تم ذبحهم فى أمريكا مع مئات الفرنسيين الذين نجوا من السفن الغارقة، يغرق تاريخ المسيحية فى أوروبا وأمريكا بالدم المراق خلال الصراع على الحكم والثروة بين الكاثوليك والبروتستانت، لأكثر من قرنين من الزمان.
وقالت أندرونيكا: هذه صراعات سياسية ليست لها علاقة بالدين المسيحى الذى يدعو إلى المحبة والتسامح وإعطاء خدك الأيسر لمن يضربك على خدك الأيمن، أنا أشعر بالراحة والسلام حين أذهب إلى الكنيسة وأستمع إلى تلاوة الإنجيل وأحاديث القسيسة ماريون،
 أصبحت المرأة تحتل مثل الرجل منصب القس المقدس فى الكنيسة، لأن المسيح لم يفرق بين الرجال والنساء، وهذا هو السبب أن المرأة الأمريكية تساوت مع الرجل فى جميع القوانين، أنا أشعر أننى يمكن أن أصبح رئيسة أمريكا مثل باراك أوباما،
لكنى أفضل أن أصبح قسيسة فى الكنيسة هنا فى أطلانطا مثل سيستر ماريون.. هذه المرأة قديسة أتعرفينها يا دكتورة؟ ألم تسمعى عنها؟ إنها على صلة بالله والمسيح، يتقبل الله والمسيح دعاءها لإنقاذ المحرومين من الأب والأم،
وقد تقبل الله دعاءها العام الماضى أيام الجفاف وأنزل المطر على أطلانطا وجورجيا! أصبح صوت أندرونيكا يشبه صوت مجذوب قريتى الأبله الملىء بالقمل،
حين كنت طفلة فى الأربعينيات من القرن الماضى، وكانت جدتى الفالحة تضربه بالعصا وتضحك عليه قائلة إنه بلا عقل لأنه يؤمن بالخزعبلات، كما أنه حرامى أيضًا يسرق أكفان الموتى ويبيعها فى السوق مدعيًا أنه أحد أولياء الله.
لا أنسى صورة كبيرة للقسيسة «باستو ماريون كروم» رأيتها فى جريدة النيويورك تايمز «14 نوفمبر 2007» تتقدم مئات الرجال والنساء فى قلب مدينة أطلانطا، عاصمة ولاية جورجيا، فى صلاة لله والمسيح، طلبًا لإنزال المطر، هذا حدث فى أمريكا فى القرن الواحد والعشرين.
وقالت أندرونيكا: تقبل الله والمسيح صلاتها ونزل المطر بعد أيام قليلة، بالضبط يوم عيد الشكر الماضى الخميس 22 نوفمبر 2007، هذا يوم تاريخى هنا فى أطلانطا يا دكتورة، لأن الأمطار هطلت من السماء بأمر الله والمسيح، بعد شهور عسيرة طويلة من الجفاف وانعدام الماء،
 ليس للزرع فقط بل مياه الشرب لنا نحن البشر، فى أطلانطا على الأقل خمسة ملايين من السكان يشربون الماء القادم من بحيرة لانيز، وهى منخفض تتبخر منه المياه عامًا وراء العام، إن غاب المطر عدة شهور قد يعم الجفاف، وقد تلجأ حكومة ولاية جورجيا المحلية إلى عمل بطاقات لتوزيع الماء على الناس، إذا غضب الله والمسيح على سكان جورجيا ولم ينزل المطر.
تذكرت بطاقات التموين لتوزيع السكر والزيت فى بلادنا على الفقراء والطبقات العاملة، لا أزال احتفظ فى سجل تاريخ مراهقتى ببطاقتى التموينية للحصول على حصتى المقررة كل شهر من الصابون والزيت والسكر والأرز، كنت أمشى من شقتى الصغيرة بالدور الخامس فى شارع مراد بالجيزة إلى بقالة «اليمانى» على ناصية الشارع، حاملة حقيبة كبيرة من القماش الدمور، داخلها أكياس وزجاجات بلاستيك فارغة،
 أعود بها ثقيلة على ذراعى خفيفة على قلبى، كانت سعادتى للحصول على حصتى المشروعة من التموين أكثر من سعادة الحب أو الجنس غير المشروع.
أما القس «الباستور أوك سوو بارك»، فكنت أرى صورته طوال العام 2007 فى جريدة النيويورك تايمز، على رأس مقاله الكبير شبه الأسبوعى، يحتل صفحة كاملة، يتحدث فيها عن المعجزات السماوية الناتجة عن صلاته المنتظمة، كنت أتابع هذه المقالات باندهاش: كيف تنشر هذه الأوهام على الناس فى أمريكا فى القرن الواحد والعشرين؟!
 أحد هذه الأوهام المنشورة فى النيويورك تايمز «10 سبتمبر 2007»، أن القس أوك سوو بارك كان يقيم مركزًا يلجأ إليه بعض المحتاجين، فوق جبل ديدوك، وأنه من المئات من الناس بذلوا الجهود وآلاف الدولارات والعمال والمهندسين وأدوات العلم لحفر الأرض بحثًا عن ينبوع ماء، دون جدوى،
 لم تكن هناك قطرة ماء رغم أن الحفر توغل فى بطن الأرض عميقًا جدًا، وأخيرًا لجأ القس أوك سوو بارك للصلاة، والدعاء لله بأن يرسل الماء، وفجأة بعد الصلاة ! هوب! انبثق الماء من بطن الأرض كالنافورة! ويختم القس مقاله الطويل مؤكدًا أن الإيمان والصلاة أكثر فاعلية من أدوات العلم.
وقد أردت أن أسأل هذا القس سؤالاً ملحًا: لماذا يا سيدى لم تلجأ للصلاة منذ البداية قبل إنفاق الجهود العلمية والأموال على عمليات الحفر فى الأرض؟
أصحاب العقول وأصحاب الدقون
منذ أيام قليلة، خلال الشهر الماضى أكتوبر 2008 صدر قرار من الفاتيكان بطرد قسيس أمريكا، أفنى من عمره ستة وثلاثين عامًا فى خدمةالدين «اسمه روى بورجيوس» أقسى عقاب يمكن أن يناله قسيس، حتى القساوسة من الرجال الكبار، الذين اغتصبوا أطفالاً لم يتعرضوا لهذا العقاب! فماذا كانت جريمة هذا القس؟
كانت جريمته أنه وافق على صعود المرأة فى الكنيسة إلى منصب القسيس! أعطاه رجال الفاتيكان فرصة للندم أو الاعتراف بالخطأ والتراجع عنه لينجو من العقاب، إلا أن هذا القس الذى قارب السبعين عامًا رفض التراجع ورفض الندم، ورد على الفاتيكان قائلا بصوت عال غير هياب:
من أنتم يا رجال حتى تدّعوا أن الله منحكم منصب القسيس ولم يمنحه للنساء؟
لقد خدم هذا القسيس «روى» الدين المسيحى فى بلاد متعددة، وسافر فى حملات تبشيرية إلى بوليفيا والسلفادور، عاد منهما إلى بلده أمريكا ليناضل ضد التفرقة، من أجل السلام والعدالة الاجتماعية، جمع من حوله آلاف النساء والرجال، يعارضون التسليح والحروب، ينادون بإلغاء الفروق بين البشر، وقال القس روى للصحف:
حين جاءنى الخطاب فى 21 أكتوبر من الفاتيكان شعرت بالغثيان، ثم أفاق القس من غمته، ورد على الخطاب قائلاً: لن أندم! يشعر روى بالقوة فى مواجهة الفاتيكان، فهو ليس وحده فى هذه المعركة، معه أعداد كبيرة من النساء والرجال فى أوروبا وأمريكا منذ عام 2002،
بعد أن بدأت النساء داخل الكنائس ينظمن أنفسهن فى قوة سياسية مناهضة للتدين التقليدى الذكورى، وحصلت بعض النساء على منصب القسيس فى بعض الكنائس فى أوروبا، وقد اتهم البابا حينئذ تلك الكنائس بالردة والخروج على المعلوم من الدين، وأعلن البابا يوحنا الثانى قائلاً:
لقد اختار المسيح الرجال فقط ليكونوا قساوسة، لهذا لا يحق لأى كنيسة إعطاء هذا المنصب المقدس للنساء!
فقد روى الكثير من الميزات المالية والدينية التى يحظى بها القس، لكنه لم يتراجع، وبكى أبوه البالغ خمسة وتسعين عامًا لضياع مستقبل ابنه، لكنه أعلن برباطة جأش:
أعاد الله ابنى «روى» سالما من حرب فيتنام، ومن أحراش بوليفيا والسلفادور، وسوف يحمى الله ابنى فى معركته الأخيرة ضد الفاتيكان، من أجل المساواة بين الرجال والنساء وإلغاء الفروق كلها بين البشر!
لماذا لا يتحلى كل رجال الدين والسياسة بهذه الصفات الإنسانية التى تحلى بها روى وأبوه؟ لماذا لا يكون الله هو رمز العدل والمساواة لدى كل رجال الأديان؟ لماذا يتحول الله لدى بعض الرجال «وبعض النساء» إلى وسيلة للتفرقة بين البشر، على الأخص بين النساء والرجال؟
لماذا فى هذا القرن الواحد والعشرين أصبح الدين أداة للبطش والتكفير والقتل والتفرقة بين الناس؟
فى بداية القرن الماضى، أدركت جدتى الفلاحة التى لم تدخل المدارس أن ربنا هو العدل عرفوه بالعقل.. هل المشكلة فى المدارس الرديئة؟ هل تفقد مناهج التعليم الذكاء الفطرى لدى التلاميذ والتلميذات؟
 هل هى مناهج السياسة، أم مناهج التعليم الدينى، أم أنها الدولة منذ نشوئها تحمى مصالحها وحكامها بالبوليس والدين ونظام التعليم..
 هذا الثالوث المقدس الذى قامت عليه الدولة والعائلة الأبوية منذ نشوئهما فى العصور العبودية حتى اليوم، فى الشرق والغرب والشمال والجنوب؟!
لم يدرك أوباما أهمية النهوض بالتعليم فى أمريكا، لم يحظ النهوض بالتعليم إلا بالبند الخامس من برنامجه الرئاسى، رغم أن التعليم الجيد بالمدارس الجيدة هو الذى رفع أوباما إلى ما هو عليه من قدرة فكرية وثقافية، هذه القدرة التى أقنع بها الجماهير من النساء والشباب.
 إن الأصوات التى حملت أوباما إلى كرسى الحكم لم تكن لرجال الدين، بل لأصحاب وصاحبات العقول الشابة المتحررة من رواسب الفكر المتخلف والتقاليد البالية،
 هل يتخلى أوباما عمن حملوه إلى البيت الأبيض ليخدم القوى السائدة فى أمريكا من أصحاب الأموال وأعوانهم من أصحاب الذقون فى الكنائس؟ هل يخدم أوباما هذه القوى ويضحى بالعدل كما يفعل أغلب الحكام فى أغلب الدول منذ نشوء ما عرف باسم الدولة؟
يؤكد أساتذة التاريخ القديم والحديث أن تفوق أوروبا وأمريكا على البلاد الأخرى لم يحدث إلا بسبب النهضة العلمية، وتغلب أصحاب العقول على أصحاب الذقون، هنا أتذكر مقولة أبى علاء المعرى: سكان العالم قسمان، قسم لهم عقول وليس لهم ذقون، وقسم لهم ذقون وليس لهم عقول!
سمعت أبى يردد هذه المقولة منذ طفولتى، وكان لابد لمؤلفات أبى العلاء المعرى وابن رشد أن تدَّرس للتلاميذ والتلميذات فى بلادنا، إلا أن هذه المؤلفات منعت فى مدارسنا، وأخذها الآخرون فى أوروبا، ساعدت مع أمثالها من الكتب المتقدمة على أن تُحدث النهضة الفكرية فى أوروبا ومنها إلى أمريكا،
أما نحن فقد أصبحت العصا لمن عصا، والحرق فى نار الجحيم هو عقاب المفكرين والمفكرات، وأصبح أبوالعلاء وابن رشد من الكفار الملحدين. وللحديث بقية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.