السعادة سلعة بشرية نادرة، شهرتها من شهرة الموت، وبهجتها حلم يبحث عنه كل إنسان فى كل زمان ومكان.. الجميع يطلبها ويبحث عنها ويتلمسها فى أشياء وفلسفات وأمنيات وأفعال أيضا. لكن خطيئة البشرية الكبرى أنها تصورت أن السعادة مرتبطة بالمال، كيف والسعادة أقدم من المال وأخلد من المال؟!.. هكذا فكر الفيلسوف البريطانى برتراند راسل، وكتب عام 1930 كتابه الصغير المهم «اقتناص السعادة»، الذى تناولها فيه بطريقته الفريدة التى تجمع بين الوضوح والعمق. كتب راسل عن المنغصات، التى تحول دون السعادة، وعن الوسائل التى تساعد على تحقيقها، وقال إن المنافسة من أهم منغصات السعادة.. «فالناس تخوض صراعات عنيفة فى الحياة ليس لأنهم لا يملكون طعام الإفطار، بل لأنهم يريدون أن يحققوا نوعا من التفوق على جيرانهم، وإذا تأملنا - والكلام لراسل- حياة شخص ثرى يمتلك بيتا فاخرا وزوجة جميلة وأولادا جذابين، فسنرى أنه يستيقظ باكرا، ويتركهم نياما ليسرع إلى عمله، ويتولى تصريف مؤسسته ويستخدم مختلف الأساليب لحل مشاكل العمل، ويستجمع حكمته ومهارته لاستقطاب العاملين والموظفين لديه، يملى الرسائل ويتحدث هاتفيا مع كل الرجال المهمين، يدرس السوق، يتناول غذاءه مع شخص يأمل فى عقد صفقة معه ويثابر على هذا المنوال، وعندما يصل إلى البيت بعد الظهر يكون التعب قد ناله. وعلى العشاء يتظاهر أمام أولاده وزوجته بأنه فى أحسن حال قبل أن يسرع إلى غرفته.. ويناااااام. مثل هذا الرجل يعيش سباقا لا نهاية له إلا القبر.. ماذا يعرف مثل هذا الشخص عن أطفاله، عن زوجته؟ وما نصيبه الحقيقى من السعادة، بل من الحياة ذاتها؟ يجيب راسل: مثل هذا الشخص يسعى إلى النجاح من أجل النجاح وفى هذه الحالة ستظل حياته مركزة أكثر مما يجب ومكدرة وقلقة. جذور المتاعب تصدر عن الاهتمام المتزايد للتسابق على النجاح التنافسى باعتباره مصدراً رئيسياً للسعادة، ولا أنكر أن الشعور بالنجاح من مصادر السعادة وأن المال كفيل لدرجة كبيرة بزيادة سعادة الفرد، لكنى لا أعتقد أنه إذا ما تجاوز هذا الحد المعين لا يكون عاملا من عوامل سعادته، فالنجاح والمال ليسا سوى عنصرين من عناصر السعادة، وسيكون الثمن غاليا إذا ضحينا بجميع العوامل الأخرى للحصول عليهما. بعد 75 عاما على كتاب راسل لم يفقد الكتاب الصغير قيمته، وأكدتها أبحاث وتجارب كثيرة من بينها دراسة للمفكر البريطانى ريتشارد لايارد، أحد أهم الشخصيات الاقتصادية فى الاتحاد الأوروبى، مدير مركز متابعة الأداء الاقتصادى بلندن، المستشار المقرب لرئيس الوزراء السابق تونى بلير، وقد كتب لايارد فى عام 2005 كتابا من أكثر الكتب مبيعا فى العالم بعنوان: «ثمن السعادة» قال فيه: إن النمو الاقتصادى لا ولن يسهم فى جلب المزيد من السعادة، لأننا مهتمون على الأغلب بوضعنا النسبى (أى مستوى دخلنا عندما نقارنه بالآخرين). إن حقيقة كون أحدهم يجنى دخلاً أكبر- مما يجعله أكثر سعادةً- تجعل الآخرين أقل سعادة، الأمر الذى يضطرهم إلى العمل بجد أكبر للحفاظ على وضعهم الحالى النسبى. فى النهاية فإننا جميعاً أكثر ثراءً، ولكننا لسنا أسعد من ذى قبل، حيث إننا لا نستطيع جميعاً أن نصبح أكثر ثراءً من الآخرين. وهذا يعنى أن البحث عن الثراء لن يؤدى أبدا إلى مستقبل أفضل، بل إلى مزيد من الجرى واللهاث وراء حلم قد نحقق منه اليسير، لكننا نخسر سعادتنا وحياتنا نفسها، خاصة أن المؤشرات الاقتصادية فى الخمسين عاماً الماضية تؤكد أن معدلات الثراء الفردية ارتفعت فعلا فى العديد من المجتمعات، ومع ذلك ارتفعت معها معدلات الجرائم ومشاكل الاكتئاب وإدمان الكحول والمخدرات. وأضاف لايارد: صحيح أن غالبية الناس يشعرون بالتعاسة إذا كانت مواقعهم أسوأ من الآخرين، لكن هذا يحدث بسبب التنافس المقيت الذى يجعل من حياتنا مجرد «سباق فئران». فكلما اعتاد الناس على دخل أعلى، يبحثون عن دخل إضافى، وبالتالى يمضون وقتا أكثر فى العمل، مما لا يتناسب مع الحفاظ على سعادتهم. والتقليل من العمل الشاق وتوفير وقت أكبر للأمور التى تجعلنا أكثر سعادةً، مثل العائلة والأصدقاء.. ببساطة لأن المال قد يشترى بعض الاحتياجات من ملبس وغذاء وكماليات، لكنه أبدا أبدا لا يشترى السعادة؟