كلامنا اليوم عن الجهاد وأغاليطه، وعن حب الاستشهاد وحواديته، يأتى استكمالاً لما ذكرته فى مقال الأسبوع الماضى عن (الفرقة الأرثوذكسية الناجية)، الذى استكملتُ فيه ما ذكرته قبلاً عن (المتأسلمين والمتأقبطين)، وهو ما كان بدوره استكمالاً لمقالى الذى نُشر هنا بعنوان (القبطيةُ صناعةٌ عربيةٌ إسلامية).. بعبارة أخرى، فإن وجهات النظر والرؤى التى أطرحها فى هذه المقالات هى رؤى متراتبةٌ، متراكبةٌ، يكملُ بعضها بعضاً. وهى لا تزعم أنها جاءت بالحق الذى لا يأتيه البطلانُ من بين يديه ولا من خلفه، بل هى مجرد رؤى تتأسَّس على وقائعَ تاريخيةٍ فعلية جدّاً، وجِدّ مجهولة ومُدهشة! وبالتالى، فربما أصيبُ فيما أراه جانبَ الصواب، وربما أجانبه، مثلما هو الحال، مع كل فكر إنسانى. وما مرادى الأخير، إلا تبيانُ أسرار الخلاف بين أهل القبلة وأهل الصليب، تفادياً لأهوال الاختلاف وويلاته التى من شأنها أن تعصف بأهل مصر، كلِّهم، سواء كانوا مسيحيين خلقيدونيين (أى روم أرثوذكس) أو إنجيليين (أى بروتستانت) أو مونوفيزيين (أى أقباط) أو كانوا مسلمين من أهل السُّنَّة (الذين هم أغلبيةُ الناس فى مصر) أو كانوا من غير ذلك كله.. لأن القنبلة التى تنفجر وسط الحشد- ونحن نعيش فى وطن الحشود- لا تفرِّق نارها بين مؤمن وملحد، ولا تختار شظاياها القاتلةُ أتباعَ مذهبٍ معين. ومن هذه الزاوية أقول إن الفكرة الوهمية عن امتلاك اليقين الوحيد، وبُطلان أى يقين لدى المخالفين. أعنى مفهوم (الفرقة الناجية) الذى هو إسلامىٌّ فى ظاهره، ودينىٌّ عامٌّ فى جوهره، هو أمرٌ من شأنه أن يؤجِّج الخلاف بين المتعصبين والمهووسين دينياً، من أولئك أو من هؤلاء.. من المتأسلمين أو من المتأقبطين.. وهما الفريقان، أو بالأحرى: رؤوس الفريقين، اللذان دلَّت مجريات الأمور الأخيرة على أنهما يعملان فى الخفاء، ثم لا يلبثان أن يتفاعلا معاً، ويتصاعدا بالخلاف ويصعِّداه إلى أفق الجحيم التعصُّبى، العصابى، الذى يكتوى بأهواله المجتمع كله، ويزدادُ تخلُّفاً على تخلُّفٍ. وقد اعتقد البعض، بعد قراءة المقال السابق، أننى كُنت ضد (الأقباط) ثم صرت ضد (الإسلاميين) أيضاً! وهو أمرٌ لم يخطر لى ببال. فما كنتُ قطُّ، ولا أظننى سأكون يوماً، ضد أولئك ولا هؤلاء.. وليس لدى (مُضَادَّة) لأى فريقٍ منهما، وإنما غايتى كشف الأهوال التى يقدح شرارها المتأسلمون والمتأقبطون.. وأؤكِّدُ هنا، وأكررُ، ما سبق أن ذكرته فى مقالاتى السابقة من اعتقادى العميق بأن: «ما كلُّ الإسلاميين والمسلمين متأسلمون، وما كُلُّ (الأقباط) متأقبطون». لكن النار التى يقدحها اليوم كُلُّ متأسلم وكلُّ متأقبط (مشعلو الحرائق) قد تلتهب وتلتهم الجميع، إلا هُم، لأنهم سوف يهربون إذا احتدم اللهب.. وثمة إشارةٌ واجبة، ملخَّصها أننى حين تحدثت عن تخلِّى المتأسلمين والمتأقبطين عن الاستمساك بالهوية المصرية، بزعم أن «الإسلام وطن» وبزعم العبارة الشهيرة «مصر ليست وطناً نعيش فيه، بل وطن يعيش فينا» لم يكن مقصودى عنوان المجلة التى تصدرها الطريقة الصوفية العزمية، أو قائل العبارة الشهيرة. وإنما كان مرادى توجيه الأنظار إلى أن «تخلية» مصر من فكرة الوطن الفعلى، لصالح أفكار «خيالية» أو عبارات طنَّانة رنَّانة، هى مسألةٌ خطيرةٌ لا أراها حسنة النية.. ولسوف أعاود الكلام فى ذلك، ضمن مناقشتى لما أثارته مقالاتى الست المنشورة هنا فى المقالة التالية (الأخيرة من هذه السُّباعية) التى ستنشر هنا يوم الأربعاء القادم إِنْ أَذِنَ اللهُ. نأتى الآن إلى مسألتىْ «الجهاد و حب الاستشهاد» وهما المسألتان اللتان أرى فيهما- وقد أكون مخطئاً- دعوى عريضةً يزعمها المتأسلمون والمتأقبطون، وشعاراً منهاراً يرفعونه ويخايلون به الناس، لتبرير غايات خفية لا يعلمها إلا الله والراسخون فى أغلال الغل، من أقطاب المتأسلمين والمتأقبطين- على اختلافهما- تحت زعم أنهم وحدهم (أهل الفرقة الناجية) و(أصحاب العقيدة القويمة). وقد يتوهم كثيرون، أن الدين الإسلامى ينفرد من بين (الأديان الثلاثة) بالدعوة إلى الجهاد، أى الحرب باسم الدين. وقد وضعت «الأديان الثلاثة» بين قوسين، لأننى أرى أنها على الحقيقة دينٌ واحدٌ له ثلاث تجليات كبرى، ولكل منها تجليات فرعية أخرى تسمى: المذاهب العقائدية، الفرق والجماعات، الكنائس، المدارس الدينية.. أو غير ذلك! المهم، أن الدعوة إلى الجهاد ليست مقصورة بحالٍ من الأحوال على الدين الإسلامى، ففى اليهودية أنموذجٌ رهيبٌ لها يُعرف اصطلاحاً لدى دارسى التوراة باسم حروب الربِّ. وهى الحروب التى قادها يهوشع بن نون، وأباد خلالها ثلاثين مملكة بفلسطين.. باسم يهوه.. باسم الربِّ.. باسم الإله التوراتى الذى أعطى الوعد (العهد) القديم، لأبى الأنبياء إبراهيم. وهناك أنموذجٌ يهودىٌّ رهيب، آخر، يشاهده الناس فى أيامنا هذه على شاشات التليفزيون، فى غزة وجنوب لبنان وقانا وكفر قاسم ودير ياسين وشاتيلا وبحر البقر.. إلخ، وكلها من وجهة النظر اليهودية «حروبٌ مقدسة» وجهادٌ مستميت لإخلاء الأرض الموعودة من ساكنيها.. لأن الإله التوراتى منح (الأرض) لشعبه المختار، من دون أن ينتبه إلى أن أناساً آخرين، غير مختارين، يسكنونها. وليس ذلك بغريب على (إله التوراة) الذى يحمل أسماءً كثيرة: يهوه، إلوهيم، رب الجنود، أهيه الذى أهيه.. إلخ، فهو حسبما يتجلَّى عندهم فى التوراة، لا يكف عن إثارة المشكلات بين البشر ! مع أنه، بحسب الاعتقاد اليهودى العام، هو الذى خلق البشر.. وقد تناولتُ هذه المسألة بالتفصيل فى كتابى الأخير: اللاهوت العربى وجذور العنف الدينى (مقدمة الكتاب، الفصل الأول : جذور الإشكال). والديانة المسيحية، بصرف النظر عن المذاهب العقائدية التى صرنا نسمِّيها (الكنائس) تحفل أناجيلها الأربعة والرسائل الملحقة بها (أعمال الرسل) بآيات المحبة المشهورة من مثل: أحبوا أعداءكم.. إذا لطمك أحد على خدك.. أعطوا ما لقيصر.. الله محبة.. المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام.. إلخ ! هذه النصوص المسماة (العهد الجديد) قياساً على أن كتب اليهود هى (العهد القديم) فيها الكثير من الوقائع التى لا يمكن أن تحمل على جناح المحبة، وإنما هى نوعٌ من الجِهاد. ولا أقصد هنا جهاد يسوع المسيح ضد «الشيطان» وإغواءاته الكثيرة، وإنما أقصد وقائع من نوع صرخة يسوع المسيح فى اليهود (الفاسدين) حين قَلَبَ عليهم الطاولات وهو فى ثورة عارمة، من أجل الحق الذى جَاَء ليبشِّر به.. تقول الآيات : «ثُمَّ دَخَلَ يسوعُ الهيكلَ وأَخَذَ يطردُ الباعة ويقولُ لهم، جاء فى الكتاب بيتى بيتُ الصلاة، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص.. رأى فى الهيكل بَاعةَ البقرِ والغنمِ والحمامِ، والصيارفَة جالسين إلى مناضدهم، فجدل سوطاً من حبال وطردهم كلهم.. ومنع كل مَنْ يحمل بضاعة أن يمرَّ من الهيكل )متى 21: 12، لوقا: 19: 45، يوحنا 2: 13، مرقس 11: 15) . ومع أن حياة يسوع المسيح (الإنجيلى) تعدُّ مثالاً للتواضع والوداعة والرحمة الربانية، إلا أن هناك أيضاً فى حياته (الإنجيلية) وقائع بعكس ذلك، منها أنه لَعَنَ شجرة تين مُورقة: «قَصَدها راجياً أن يجد عليها بعض الثمر، فلما وصل إليها ما وجد عليها غير الورق، لأن وقت التين ما حان بعد.. فقال لها: لن تثمرى إلى الأبد ! فيبست التينة التى لعنها» متى 21: 18، مرقس 11:18-21( ومنها أنه زعق فى معلمى الشريعة وعلماء اليهود قائلاً : يا أولاد الأفاعى.. أيها الحيات أولاد الأفاعى )متى 12:34- 23: 33، ومنها أنه قال بوضوح فى إنجيل متى، وإنجيل لوقا : «لا تظنوا أنِّى جئت لأحمل السلام إلى العالم، ما جئتُ لأحمل سلاماً بل سيفاً، جئتُ لأفرق بين الابن وأبيه، والبنت وأمها، والكنَّة وحماتها، ويكون أعداء الإنسان أهل بيته.. جئتُ لألقى ناراً على الأرض، وكم أتمنى أن تكون اشتعلت، وعلىَّ أن أقبل معمودية الآلام، وما أضيق صدرى حتى تتم. أتظنون أنى جئتُ لألقى السلام على الأرض ؟ أقول لكم: لا، بل الخلاف.. (متى 10: 34- لوقا 12: 49)». ولا أريد أن يتبادر إلى الأذهان هنا، أننى أنقدُ (أو أنقضُ) النصوص المسيحية المقدسة –حاشا لله- أو أجترئ على ما يعتقده أى إنسان أيَّا كان. فما مرادى بإيراد هذه النصوص والوقائع، إلا تبيان أن المسيحية مثلما هو الحال فى كل دين فيها نصوصٌ قد تبرِّر الجلال مثلما تعبِّر عن الجمال، وقد تفيدُ الرحمة والجبروت معاً.. وبخصوص الدعوة المسيحية (الكرازة) إلى نَشْر الديانة بين الناس جميعاً، هناك قول المسيح لتلاميذه (الرسل / الحواريين) اذهبوا وبشِّروا جميع الأمم! وقول بولس الرسول فى رسالته الثانية إلى تيموثاوس (الإصحاح الثانى): احتمل المشقَّات، كجندىٍّ صالح ليسوع المسيح.. هناك إذن حرصٌ مسيحى على نشر البشارة (الديانة) بل هو تكليفٌ واضح يدعو للمضى قُدُماً فى دعوة الناس جميعاً إلى طريق (الخلاص) ويدعو لاحتمال المشقَّات مثلما يحتملها الجنود. ولذلك، لم يجد المسيحيون الغربيون بأساً فى حمل السيف باسم الدين، فظل العالم عدة قرون يكتوى بنيران الحروب الصليبية، وبغيرها من الحروب التى قادتها الرغبة فى نشر (الديانة) فى العالم، مع أن السيد المسيح قال : مملكتى ليست من هذا العالم . إذن، الجهاد ليس مفهوماً إسلامياً خاصاً، ولكنه مفهومٌ دينى عام، أصيلٌ، فى اليهودية والمسيحية والإسلام.. فإذا عرفنا ذلك، فلابد أيضاً من أن نعرف أن الجهاد بحسب الأصول الإسلامية، هو جهادان: أكبر وأصغر. وقد ورد فى الحديث الشريف، أن الجهاد الأصغر هو القتال.. أما جهاد النفس، فهو الجهاد الأكبر . وقد أدَّت التفرقة الإسلامية المبكرة بين هذين الجهادين (الأصغر والأكبر) إلى فروق كبيرة بين تراث هذا الجهاد وذاك. فمن خلال الاجتهادات الفقهية المتوالية، اجتمع تراثٌ فقهى عُرف فى مجال الدراسات الإسلامية باسم (فقه الجهاد) وهو الباب الفقهى الذى يؤطِّر السعى الجهادى، بالمعنى الحربى، ويحدِّده بضوابط ومعايير كان بعض القادة الفاتحين يلتزم بها، والبعض الآخر يصرف عنها النظر ! فمن أمثلة الحالة الأولى، ما نراه فى الواقعة التالية التى رواها البلاذرى فى فتوح البلدان، قال : أتى قتيبة بن مسلم «بخارى» فاحترس أهلها منه، فقال لهم دعونى أدخلها فأصلى ركعتين، فأذنوا له فى ذلك، فأكمن لهم قوماً.. وغدر بأهلها.. فوفد قوم من أهل سمرقند على الخليفة عمر بن عبد العزيز، ورفعوا (اشتكوا) إليه أن «قتيبة» دخل مدينتهم وأسكنها المسلمين، على غدر، فكتب الخليفة إلى عامله «نائبه» يأمره أن ينصب لهم قاضياً ينظر فيما ذكروه، فإن قضى بإخراج المسلمين، أُخرجوا. فنصب لهم «جُميع بن حاضر الباجى» قاضياً، فحكم بإخراج المسلمين على أن ينابذوهم على سواء (أى يحاربون حرباً عادلة، بعد إنذار) فَكَرِهَ أهلُ مدينة سمرقند الحرب، وأقروا المسلمين، فأقاموا بين أظهرهم».. انتهى النص، ولن ينتهى الدرس ! وتجب الإشارة هنا إلى أن سمرقند وبخارى، صارتا فى الزمن الإسلامى عاصمتين كبيرتين، واستقرت البلادُ هناك بعد قرون طوال من التقلُّبات السلطوية الدموية التى جرت قبل وصول الإسلام إلى هناك، فلما استقر الأمرُ بأيدى المسلمين صارت تلك البلاد حواضر ومراكز حضارية كبرى.. ومن سمرقند نقل العرب والمسلمون صناعة الورق، وأتاحوها للناس جميعاً، فأحدثت على المستوى الحضارى العالمى، طفرةٌ لا تقل أهميةً عن طفرة المعلوماتية المعاصرة. ما علينا من ذلك الآن، ولنعد إلى مفهومىْ الجهاد (الأصغر، والأكبر) وما تراكم حولهما من تراث هائل.. فنقول والله (الرب) المستعان : أدى مفهوم الجهاد الأصغر إلى النتاج الفقهى المسمى اصطلاحاً «فقه الجهاد»، فما الذى أدَّى إليه مفهوم الجهاد الأكبر فى تاريخ الإسلام، أعنى مفهوم : جهاد النفس؟.. منذ القرن الهجرى الأول، بدأت النشأة الأولى للتصوف الإسلامى كطريقٍ روحىٍّ يهتم اهتماماً خاصاً بإصلاح عيوب النفس . والنفس الإنسانية، حسبما ذكر الصوفية السابقون، جُبلت على خصال مذمومة كالكسل وحُب الراحة والتنعُّم والجهل والميل للأمور الدنيوية.. إلخ، ولو ترك الإنسان العنان لنفسه، مالت به إلى حيث تشتهى. لكن النفس الإنسانية كما قال الإمام البوصيرى فى (البردة) هى كالطفل: إن تهمله شبَّ على حب الرضاع، وإن تفطمه ينفطم. وهذا (الفطام) المشار إليه، هو الجهاد الأكبر الشاق على النفس. ولذلك، فالعملُ جهادٌ شاق، وتحصيلُ العلم جهادٌ شاق، ومخالفةُ نوازع الهوى جهادٌ شاق، ومواصلة الجهود جهادٌ شاق.. إلخ . لكن إخواننا من المسلمين المعاصرين الذين أعطوا لأنفسهم مؤخراً اسم (المجاهدين) تركوا الجهاد الأكبر هذا، ونذروا أنفسهم للجهاد الأصغر.. الأسهل.. الأَهْوى.. الأَسْيس! بل ولم يلتزموا أصلاً بفقه هذا الجهاد الأصغر، فجنحوا إلى إصلاح حال البلاد بقتل العباد، ولجأوا إلى المغارات والكهوف، فارِّين من «الحكومات» التى رأوها على اختلافها ظالمة، وهاربين من بلادهم التى صارت بحسب مذهبهم كافرةً فاسدةً. وقد اختاروا الحل الأسهل، كيلا يصبروا ويصابروا ويجاهدوا الجهاد الحقيقى (الأكبر) الذى من شأنه إصلاح أحوال البلاد والعباد، وهو ما يقتضى الاحتمال والكدَّ والجهد من أجل تحصيل العلوم والمعارف، والصبر على العمل المنظم، ومخالفة أهواء النفوس.. ولأنهم يائسون من الحياة، فهم يطلبون الموت لغيرهم، بل ولأنفسهم إن احتكم الأمر! آملين أن يحصِّلوا فى الآخرة، ما فقدوه فى الدنيا. ومن جهة أخرى، يروِّج (المتأقبطون) ويردِّدون على مسامع أتباعهم الذين يطلقون عليهم اسم (شعب الكنيسة) الكثير من حواديت حب الاستشهاد، باعتبارها جزءاً أساسياً من تاريخ الكنيسة القبطية! فيتغنَّون أمام المعاصرين بصلابة المستشهدين، الذين رحَّبوا بالموت فداءً للعقيدة القويمة (الأرثوذكسية)، فيجعلون منهم نماذج إنسانية مؤهلة للاحتذاء.. مع أن «عقيدة حب الاستشهاد» لم تكن مخصوصة بجماعة معينة، ولا تختص بها (كنيسة) دون أخرى. والخطاب المتأقبط يربط دوماً بين القدِّيسين والشهداء، وكأن كل شهيدٍ قديس، وكل استشهادٍ قداسة- وهذا عندى عجيب- مع أن الأمر كله جرى فى زمن قديم، وكان مرهوناً بظروف تاريخية محددة وليس بصُلب الديانة، وكان الداعى إليه هو اضطهاد بعض أباطرة الرومان لليهود والمسيحيين لأسباب اقتصادية وسياسية فى المقام الأول، وليست عقائدية.. وفى مواجهة (الاضطهاد) ابتكر الآباء الأوائل فكرة (حب الاستشهاد) وفكرة الترحيب بالموت لتبيان استهانة «المؤمن» بالقتل والتعذيب فداءً للديانة أو العقيدة القويمة. والمدقِّق فى تواصل الماضى بالحاضر، يظهر له أن الظروف التاريخية التى دعت إلى حب الاستشهاد، اختلفت بعد إعلان المسيحية ديانةً رسميةً للإمبراطورية البيزنطية (سنة 391 ميلادية) وقد مَرَّ على ذلك ستة عشر قرناً من الزمان.. ويظهر له أنه بعد استقرار الإسلام بمصر، استقرت الكنيسة المونوفيزية (القبطية) ولم نسمع عن مذابح قام بها المسلمون ضد المسيحيين.. ويظهر له أنه فى زماننا الحالى، توجد مماحكات ومناوشات ومشكلات عقائدية بين الجهَّال من المسلمين والمسيحيين، بسبب الخطاب المتأسلم الذى يتفاعل معه الخطاب المتأقبط.. لكن الحال- وإن احتاج إلى حَلٍّ- لا يستدعى تقنيات دفاعية من نوع الترويج لحواديت حب الاستشهاد، المؤثِّرة، الحزينة، المؤلمة.. التى تملأ القلوب حسرةً.. والتى تُعلى من قداسة المقدسين.. والتى فات زمانها وصارت فى حُكم التاريخ القديم! لكن المتأقبطين تعجبهم آثار هذه الحكايات المؤلمات، و لذلك فقد ظلُّوا إلى اليوم يدعون إلى ما يدَّعون. والمدقِّق فى تواصل الماضى بالحاضر، يظهر له أن الآباء الكبار الذين كانوا يتغنون بحب الاستشهاد، لم يستشهدوا.. كانوا دوماً يشحنون (الشعب) بالحواديت، فيقذفون الناس الممتلئين بهذه الفكرة نحو الهلاك، ثم يهربون هم. وتاريخ الآباء ملىء بوقائع (الهروب) الذى أدى إلى استشهاد أتباع الكنيسة، حتى إن أحد مشاهير الآباء ظل هارباً قرابة أربعين سنة (فى القرن الرابع الميلادى) وهرب غيره ثلاثة عشر عاماً، حتى أدركه عمرو بن العاص بعهد أمان، فعاد إلى كرسيِّه سالماً بعدما كان أخوه والألوف من أتباعه قد استشهدوا، مدفوعين بحب الاستشهاد دفاعاً عن الديانة.. ولن أزيد فى بيان هذه النقطة، ولن أذكر أسماء الآباء الذين دفعوا الناس للموت، وهربوا هم- بوَهْم الدفاع عن العقيدة القويمة- وكأن على أتباعهم، وليسوا هم، أن يرحِّبوا بالموت فى سبيل الرب.. فى سبيل المذهب.. فى سبيل ما يراه الآباء حقاً! فليرحمنا الله برحمته الواسعة.