من أهم المزايا التى وفرها تعدد الوسائط المعرفية والوسائل الاتصالية إتاحة معرفة المعلومات الأساسية والتمكين من رسم الخرائط المعرفية حول أى موضوع من الموضوعات، ما يسمح بأن نشكل مواقفنا الفكرية وفقها ... بيد أن الانقطاع المعرفى الواضح عن المعلومات الأساسية واجتهادات الذين سبقونا المبدعة: محليا وعالميا، وجديد العالم فى شتى المجالات يجعل مواقفنا الفكرية تكاد تكون جامدة ونمطية وكأن العالم لا يتغير... فالتفسيرات جاهزة وحاضرة لا وفق فهم الظاهرة من داخلها ولكن بحسب تحيزاتنا الأيديولوجية... والاختلاف يعنى الاقتتال والخروج على الآخر فى «تجريدة» عسكرية كى يعود إلى صوابه أو القتل المعنوى أو المادى... لذا ليس من الغريب أننا لم نزل نناقش قضايا كنا قد ناقشناها منذ مائة عام وكنا نظن أنها حسمت.. ولا عجب أننا نجتر مواقف فكرية نتصور أنه لا ينبغى المساس أو الاقتراب منها فهى صحيحة مهما طال الزمن حتى لو قامت على معلومات خاطئة ولكن مع غياب المعرفة الصحيحة والتشبث بها يجعل منها حقائق فى أذهاننا نحن فقط... (2) وتشير النظرة السريعة على حواراتنا المختلفة إلى أن هناك خللا ما فى مقارباتنا للإشكاليات التى تثار فبدلا من أن نغتنم الفرصة لأن تكون هذه الحوارات بداية لتأسيس جديد من منطلق أن الواقع دائم التغير ومن ثم لابد من إعادة النظر فيما يستجد.. فإننا نعيد النقاش بنفس المفردات وبنفس التحيزات وبنفس المسلمات وكأن لا شىء يتغير وكأن الواقع لم تطله أية تغيرات.. وأى مراجعة لنوعية القضايا التى نوقشت منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا سوف تؤكد ما أقول سواء فيما يتعلق بنا فى الداخل أو فيما يتعلق بقضايا الخارج... الأمر الذى يؤكد أن هناك شيئاً ما فى منظومتنا الفكرية يحتاج إلى مراجعة وإدراك أن التقدم يبدأ بإعمال العقل وتطوير النظام الفكرى لكى يكون منفتحا ومتجددا... ففى عصر ثورة المعلومات، وزمن تضاعف المعرفة والتجدد التكنولوجى لابد من فهم أن اللحاق بالمتقدمين يبدأ بتغيير نظامنا الفكرى ليتجاوز التنميط، والرؤى الساكنة للوقائع والأحداث، والإجابات الجاهزة التى تتم استعادتها من الماضى الذى لم يختبر ولم يعرف ما تعرفه الخبرة الإنسانية المعاصرة ...إلخ...أو بلغة أخرى نقول: تجاوز الزمن الذى تكتسب فيه «مذكرة التلخيص» السلطة على المرجع المعتمد، وتجاوز مرجعية السلف المطلقة إلى مرجعية التجدد الدائم، وهجر الحياة فى معية الأساطير بالانتصار للعلم والعقل. (3) لقد كان الدكتور زكى نجيب محمود محقا منذ 30 سنة عندما أطلق دعوة لإحداث ثورة فكرية فى حياتنا الفكرية (راجع كتاب مجتمع جديد أو الكارثة).. ففى البدء يعطى مثلا ليوضح فكرته فيقول: إنه قد تكون لدينا أنوال قديمة لنسج القماش، ونزيد من كمية القماش المنسوج ونوسع دائرة توزيعه، ونكثر من إنتاجه ليشمل كل الناس والفئات ونغير من ألوانه وزخارفه... ولكن يظل السؤال : أيجوز لنا فى مثل هذه الحالة أن نقول إن ثورة حدثت فى صناعة النسيج؟ أم أن الثورة فى هذه الصناعة لا تحدث بهذه الأمور وحدها، وإنما تحدث بأن تتغير الأنوال نفسها بما هو أحدث، ليتغير نوع القماش الناتج تبعا لذلك؟ هذا ما رآه الراحل زكى نجيب محمود منذ ثلاثين سنة، فربما زادت حصيلة الفكر كميا وتنوعت طرائق توزيعها على شرائح الشعب، لكن «أنوال» التفكير باقية معنا على عهدها القديم.. فها هى تتعدد منابر الرأى بأشكالها المتنوعة الفضائية والإلكترونية والمطبوعة كل يوم وتكثر الحصيلة الفكرية بالتالى ولكن بقيت النوعية المنتجة فى أكثرها تميل إلى الاجترار وإعادة الإنتاج بامتياز والترويج للأساطير والارتحال إلى الغيب، والانشغال بالفروع وبالتافه من الأمور.. فمادامت «أنوال» النسيج باقية على حالها، فقد تحدث تغيرات كثيرة على السطح. ولكنها تغيرات لا ترقى إلى أن تكون ثورة فكرية بأى حال من الأحوال لأن الثورة هى فى أن تتغير الأنوال.