فى مشهد تظهر فيه البيوت الطينية والعشش المتناثرة لا تراه إلا فى النهار، المزارعون الكادحون فى حقولهم، وفى جانب من المشهد يطرح الصيادون شباكهم فى مياه النهر لتخرج بالخير الوفير، فتحت مياه النهر أرزاق البشر، مما تنتظره الأفواه، وعلى الضفة الأخرى من النهر رست المراكب النيلية المقبلة من أعالى مصر، المحملة بالأوانى الفخارية التى صنعها الأحفاد من طمى النهر، الذى صنع منه الأجداد أوانيهم كما أن المراكب ذاتها تحمل من خيرات النهر ما لذ وطاب، من سردين وأسماك مملحة يقف الحمالون صفاً واحداً فوق حواف المراكب، متطلعين إلى الشاطئ، يقذفون البضاعة من يد ليد ليستقر بها المقام على عربات الكارو، أما الباشا الكبير مؤسس الأسرة العلوية فكان يتبوأ مقعده الوثير فى قصره بالقاهرة وعن يمينه وشماله أعضاء المجلس المخصوص والنظار والمتخصصون فى الرى والزراعة والسدود، من المصريين والفرنسيين ليصلوا لإجابة عن سؤال كثيراً ما جال فى خاطر الباشا محمد على وهو كيف نتحكم فى مياه النيل ونوزعها بالتساوى؟ كانت أراضى الوجه البحرى تروى بطريقة الحياض، كرى الوجه القبلى فلا يزرع فيها إلا الشتوى ولا يزرع الصيفى إلا على شواطئ النيل أو الترع المتفرعة منه، أما منطقة رأس الدلتا فكانت مزيجاً من الأراضى الزراعية الخضراء والبور الصالحة للزراعة وبعض البقع الرملية، وبعد انتهاء جلسة محمد على بأيام قليلة خرج بعض الرجال وبحوزتهم أوراق وخرائط واقتربوا قاصدين عزبة المناشى مروراً بمثلث بطن البقرة، وإذا بمهندس فرنسى يقف فى تلك المنطقة ويصيح قائلا: (هذه هى القناطر فرد عليه أحد المصريين المرافقين له : الخيرية) إذن فلقد كانت هذه هى إشارة البدء الأولى لتحقيق الحلم الذى طالما راود الباشا، وهو أن تكون لديه مياه للرى الدائم للزراعات الصيفية توطئة لتحقيق طموحه الأكبر، وهو أن يقيم محلجاً للقطن بالقرب من القناطر فينقل القطن الخام من المحافظات المجاورة إلى هذا المحلج، وكان يرى أن ضبط مياه النيل شىء مهم للانتفاع بها ولإحياء الزراعة الصيفية فى الدلتا، وذلك كله بإنشاء قناطر كبرى فى نقطة انفراج فرعى النيل المعروفة ببطن البقرة، وتواصلت جلسات العمل والمشاورات حول كيفية البناء وعدد الفتحات وكيفية جلب العمال من المحافظات وميعاد بدء العمل، وافق محمد على باشا على مشروع المهندس الفرنسى لينان، ولكن ظهرت على الساحة السياسية أحداثاً شغلته عن مشروع القناطر الخيرية، وكانت الجيوش المصرية منشغلة بحروبها التى تؤمن أمنها القومى وتوسيع سلطان وسلطات الباشا بين الشام والأناضول، إلى أن فرغ لمشروع القناطر، وما إن بدأ العمل فى المشروع حتى توقف سريعاً فى فبراير عام 1835، حيث انتشر وباء الطاعون فى مصر وفتك بكل عمال القناطر والمهندسين ورؤسائهم الأجانب، فيعود محمد على لأموره السياسية والحرب والاهتمام بنظام التعليم، استجابة لمقترحات رفاعة الطهطاوى، ثم عاود الاهتمام بمشروعه النهضوى الملح، لكنه استبدل مشروع لينان، بمشروع آخر لمهندس فرنسى يدعى موجل بك، سنة 1843 وبعد أن استقر الرأى على مشروع موجل، ظل قيد التنفيذ لمدة 4 سنوات، حتى وضع محمد على حجر الأساس للمشروع فى أبريل 1847، على بعد مئات الأمتار من مشروع لينان، وتألف المشروع من قنطرتين كبيرتين على فرعى النيل يوصل بينهما برصيف كبير وشق ثلاث ترع كبرى أو (رياحات ثلاثة) وهى رياح المنوفية ورياح البحيرة ورياح الشرقية والتى عرفت فيما بعد بالتوفيقى. وما إن انخفضت مياه النيل، حتى أقيمت الخيام على شواطئ الترع الثلاث أو (الرياحات) وكانت مراسى المراكب تستقبل الأحجار وورش الطوب الأحمر، كما بنيت أكشاك المهندسين والملاحظين فى مثلث بطن البقرة المعروف بعزبة شلقان، فتواجد عشرات الآلاف من البنائيين والحمالين وعمال المحاجر يقطعون الأحجار لقوالب متساوية وعمال نقل الطوب الأحمر، كما تواجدت بعض النسوة ليبعن الخبز والعصيدة وبدأ المهندس موجل فى صب فرشة القناطر بحفر مجرى مستطيل ثم إلقاء «المونة» بأرضيته التى تبدأ من بطن البقرة وحتى المناشى كما كانوا يحجزون المياه عن موقع عملهم من خلال السدود الترابية الناتجة من الحفر، وأنشئت مدقات وطرق لنقل الحجارة المقطعة والطوب إلى حيث يعمل البناؤون وهناك على ضفاف النهر أكوام من الأحجار الضخمة التى جلبت من طرة والبساتين، وما إن أوشك العمل على الانتهاء حتى توفى محمد على، فى، 1848 فتوقف العمل ثانية وبعدها بشهور تولى عباس باشا الأول حكم مصر، ولم يكن يهتم كثيرا بمشروع القناطر، فسار فى عهده ببطء شديد، وفى عام 1850 عمل المهندس موجل على إنشاء قنطرة فم الرياح المنوفى، وألح على عباس لإتمام القناطر على فرعى رشيد ودمياط، لكنه رفض واضطر موجل لشرح أهمية المشروع لعباس عارضاً عليه تقريراً مشتملاً على النفقات ودب الشك فى قلب عباس باشا، وأمر بإعفاء موجل من استكمال المشروع عام 1853، ليكمله مستر جون فولر، وبعدها بعام توفى عباس وتولى سعيد باشا الحكم وعادت الحياة فاستكملت قناطر فرعى رشيد ودمياط، ولم يترك موجل مصر ويرحل ناسيا مشروعه وعاد إليها مرة اخرى، وهو فى الخامسة والسبعين من عمره وعينته الحكومة مهندساً مستشاراً للقناطر.