"معيط" يوجه بإتاحة نصف مليار جنيه لدعم سداد أجور العاملين بالصناديق والحسابات الخاصة بالمحافظات    السبت .. جامعة النيل تفتح أبوابها للطلاب وأسرهم الراغبين في التعرف على كلياتها    العمل تنظم فعاليات "سلامتك تهمنا" بالمنشآت الحكومية في المنيا    «المالية»: نصف مليار جنيه تمويلًا إضافيًا لدعم سداد أجورالعاملين بالصناديق والحسابات الخاصة بالمحافظات    خطة النواب تناقش مشروع موازنة البرامج والأداء للهيئة العامة للتنمية الصناعية    انطلاق «عمومية المنشآت الفندقية» بحضور رئيس إتحاد الغرف السياحية    كيفية الحفاظ على كفاءة التكييف في فصل الصيف    تفاصيل خطة الاحتلال الإسرائيلي للرد على الاعتراف الأوروبي بدولة فلسطين    يديعوت أحرونوت: وزارة الخارجية الإسرائيلية تدرس سلسلة من الإجراءات العقابية ضد أيرلندا وإسبانيا والنرويج    بعد العثور على خاتم الرئيس الراحل إبرهيم رئيسي.. ما سر ارتداء الخواتم في إيران؟    حقيقة مفاوضات الزمالك مع نجم نهضة بركان المغربي    عاجل..توني كروس أسطورة ريال مدريد يعلن اعتزاله بعد يورو 2024    "الرجل الأول والعقد".. كواليس رحيل بوتشيتينو عن تشيلسي    هاني شكري: الكاف المسؤول عن تنظيم نهائي الكونفدرالية ونتمنى فوز الأهلي بدوري الأبطال    محافظ الإسماعيلية يتابع جهود مديرية التموين    المشدد 7 سنوات للمتهم بقتل ابن زوجته بالقليوبية    ترقب المصريين لموعد إجازة عيد الأضحى 2024: أهمية العيد في الحياة الثقافية والاجتماعية    انتقاما من والده.. حبس المتهمين بإجبار شاب على توقيع إيصالات أمانة بالمقطم    تطورات الحالة الصحية للفنان عباس أبو الحسن.. عملية جراحية في القدم قريبا    المتحف القومي للحضارة يحتفل باليوم العالمي للمتاحف    فرقة طهطا تقدم "دراما الشحاذين" على مسرح قصر ثقافة أسيوط    أدعية الحر.. رددها حتى نهاية الموجة الحارة    افتتاح ورشة "تأثير تغير المناخ على الأمراض المعدية" في شرم الشيخ    «مواني البحر الأحمر»: تصدير 27 ألف طن فوسفات من ميناء سفاجا ووصول 742 سيارة لميناء بورتوفيق    غادة عبد الرازق تعود للسينما بعد 6 سنوات غياب، ما القصة؟    جوارديولا: أود مشاركة جائزة أفضل مدرب بالدوري الإنجليزي مع أرتيتا وكلوب    تريزيجيه جاهز للمشاركة في نهائي كأس تركيا    بإجمالي 37.3 مليار جنيه.. هيئة قناة السويس تكشف ل«خطة النواب» تفاصيل موازنتها الجديدة    «التعليم»: قبول ملفات التقديم للصف الأول الابتدائي 2024 للأطفال البالغين 6 سنوات    رئيس حزب الجيل: فخور بموقف مصر الحاسم تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة    رئيس جهاز القاهرة الجديدة يبحث مطالب ومقترحات سكان حي الأندلس    تراجع جديد.. سعر الريال السعودي اليوم الأربعاء 22-5-2024 مقابل الجنيه المصري بمنتصف التعاملات    لمواليد برج القوس.. اعرف حظك في الأسبوع الأخير من شهر مايو 2024    بروتوكول تعاون بين نقابة السينمائيين واتحاد الفنانين العرب و"الغردقة لسينما الشباب"    « وتر حساس » يعيد صبا مبارك للتليفزيون    الأزهر يطلق صفحة مستقلة بفيس بوك لوحدة بيان لمواجهة الإلحاد والفكر اللادينى    فدوى مواهب تخرج عن صمتها وترد على حملات المهاجمين    الأكبر سنا والمربع السكني.. قرارات هامة من «التعليم» قبل التقديم للصف الأول الابتدائي 2024    لمدة يومين.. انطلاق قافلة طبية إلى منطقة أبوغليلة بمطروح    الصحة: برنامج تدريبي لأعضاء إدارات الحوكمة في مديريات الشئون الصحية ب6 محافظات    التكييف في الصيف.. كيف يمكن أن يكون وسيلة لإصابتك بأمراض الرئة والتنفس؟    حفظ التحقيقات حول وفاة طفلة إثر سقوطها من علو بأوسيم    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 22-5-2024 في المنيا    قمة عربية فى ظروف استثنائية    صدمه القطار.. مصرع تلميذ أثناء عبوره «السكة الحديد» بسوهاج    رئيس جهاز مدينة 6 أكتوبر يتابع أعمال التطوير بالقطاعين الشرقي والشمالي    وزير الإسكان يتابع موقف مشروعات المياه والصرف الجاري تنفيذها مع شركاء التنمية    هكذا تظهر دنيا سمير غانم في فيلم "روكي الغلابة"    استطلاع رأى 82% من المواطنين:استكمال التعليم الجامعى للفتيات أهم من زواجهن    الرئيس الصيني: السياحة جسر مهم بين الشعبين الصيني والأمريكي للتواصل والتفاهم    سيدة «المغربلين»    دبلوماسي سابق: الإدارة الأمريكية تواطأت مع إسرائيل وتخطت قواعد العمل الدبلوماسي    قرار جديد من الاتحاد الإفريقي بشأن نهائي أبطال إفريقيا    رئيس نادي إنبي يكشف حقيقة انتقال محمد حمدي للأهلي    طريقة صنع السينابون بالقرفة.. نكهة المحلَّات ولذَّة الطعم    مأساة غزة.. استشهاد 10 فلسطينيين في قصف تجمع لنازحين وسط القطاع    هل تقبل الأضحية من شخص عليه ديون؟ أمين الفتوى يجيب    هل ملامسة الكلب تنقض الوضوء؟ أمين الفتوى يحسم الجدل (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صروح الرحمة فى الحضارة الإسلامية.. البيمارستان
نشر في المصري اليوم يوم 08 - 09 - 2009

لولا الأقواس الحجرية المتبقية لاكتمل مشهد المكان الخرب، هذا ما يبدو عليه ما تبقى من بيمارستان المؤيد شيخ حموى. البيمارستان من أعمال الخير الجليلة التى تميزت بها الحضارة الإسلامية، تماماً مثل الأسبلة والخانقوات. لم يكن الطب نشاطاً من الأنشطة المستهدفة للربح، كان العلاج كله مجاناً، ليس هذا فقط إنما أيضاً كفالة الظروف الخاصة بالمريض حتى يتم شفاؤه تماماً ويعود إلى تجارته أو نشاطه أياً كان.
«بيمارستان» كلمة فارسية تتكون من جزأين: الأول «بيمار» أى مريض والآخر «ستان» أى مكان.. إنه المستشفى كما عُرف منذ بداية القرن التاسع عشر. أول مستشفى عرفته مصر على النظام الأوروبى فى عصر محمد على، مستشفى أبوزعبل، ويعتبر كلود بك الفرنسى هو منشئ النظام الصحى فى مصر على الأسس الحديثة وله كتاب مهم عن سنوات إقامته فى مصر، تُرجم وطُبع أكثر من مرة.
وخلال زيارتى إلى مارسيليا اكتشفت أنه مدفون فى مكان كان مخصصاً للحجر الصحى للقادمين من الخارج، ويُستخدم الآن كمركز ثقافى، ويوجد به متحف صغير يضم قطعاً أثرية عاد بها من مصر، وبالطبع يمتد فى القاهرة شارع شهير يحمل اسمه، وإن كان الشارع عُرف حتى نهاية الأربعينيات باعتباره المركز الرئيسى للدعارة فى القاهرة إلى أن ألغيت رسمياً بمبادرة من نائب البرلمان وقتئذ سيد جلال.
عرفت البيمارستانات فى الحضارة العربية كأبرز أعمال الخير، ليس من أجل العلاج فقط، إنما كمعاهد للطب، ولتعليم الأطباء. عُرف الطب فى مصر منذ آلاف السنين بوسائله المتقدمة، وفى العصور القديمة أجريت عمليات جراحية دقيقة، لعل أبرز مثال لها ما تم بالنسبة لعمال الأهرام الذين أصيبوا أثناء عمليات البناء، إذ يتضح من هياكلهم العظمية المتبقية أنه تمت عمليات جراحية فى العظام، بعضها فى الجماجم والأعمدة الفقرية، وهذا يدحض أى زعم بالعبودية، فالذين بنوا الأهرام كانوا معززين مكرمين، ولم يكونوا عمال سُخرة، إنما كانوا يسهمون بحماس فى بناء صرح له صلة بالعقيدة الدينية وليس مقبرة
فى الحضارة العربية كان الطب يمارسه أفراد، وكان ثمة موروث شعبى طويل. بعد الإسلام بدأت فكرة البيمارستان فى الظهور، وكان نوعين: الأول ثابت، أى يمارس الأطباء العمل فى مكان مخصص لهم، والآخر محمول، وهو الذى ينقل من مكان إلى مكان حسب ظروف الأمراض والأوبئة والحروب أيضاً.
وعبر الزمن استقر المضمون والشكل، كان البيمارستان ينقسم إلى قسمين منفصلين عن بعضهما، قسم للذكور وآخر للإناث، كل منهما مجهز بالمعدات والأدوية، وله أطباء وممرضون وفراشون، داخل كل قسم قاعات للأمراض المختلفة.
يذكر ابن أبى أصيبعة فى كتابه «طبقات الأطباء» ونقل عنه الدكتور أحمد عيسى فى كتابه الشامل عن البيمارستانات فى الإسلام، الذى طبع فى مصر خلال الأربعينيات، يذكر أن الأقسام كانت للأمراض الباطنية، وقاعة للجراحة، وقاعة للكحالة «العيون» وقاعة للتجبير، أما القسم الباطنى فبداخله قسم للمحمومين وهم المصابون بالحمى، ولمرضى الأمراض العقلية، وأذكر أنه خلال زيارتى لبيمارستان حلب الذى مازال سليماً، وفى حالة جيدة، أننى توقفت طويلاً فى قسم الأمراض العقلية المصمم طبقاً لحالات المرضى، فالحالات الخفيفة فى البداية، أماكن فسيحة، الضوء فيها كاف، الفتحات فسيحة، لكن الحالات المستعصية فى الداخل، عندئذ يتحول المكان إلى ما يشبه الزنازين.
يلحق بالبيمارستان صيدلية تسمى الشرابخاناه، وكان الرئيس العام يسمى ساعور البيمارستان، أى المشرف العام، و«ساعور» كلمة سريانية الأصل.
يقول القلقشندى فى موسوعته «صبح الأعشى فى صناعة الإنشا»- عاش فى القرن الخامس عشر الميلادى - إن الشرابخاناه هى الحواصل المعبر عنها بالبيوت، كلمة «خاناه» تعنى «بيت»، من هنا نجد كلمات مثل الطبلخاناه «بيت الآلات الموسيقية» والطشت خاناه «بيت الأوعية الخاصة بالاستخدام». كان لكل بيمارستان بيت الشراب الخاص به، وكان مزوداً بالمواد اللازمة لصناعة الأدوية، وكان الدواء يصرف للفقير تماماً مثل الأمير،
أما التكاليف فيتم تغطيتها من الوقف المخصص، وعندما نقرأ حجة وقف السلطان منصور بن قلاوون الخاصة بمنشآته فى بين القصرين، ومنها البيمارستان الذى مازالت بقاياه قائمة، ومنها أقدم سقف خشبى على الإطلاق فى مصر، ويقوم على أرضه الآن مستشفى متخصص فى طب العيون، يعتبر الأقدم فى الشرق الأوسط، افتتح عام 1910 فى القرن الماضى - لم تترك حجة الوقف أدق التفاصيل إلا وتعرضت لها.
كان نظام العلاج ينقسم إلى نوعين، الأول خارجى، أى يجىء المريض ويكشف عليه الطبيب، ثم يتسلم دواءه وينصرف عائداً إلى بيته، أما إذا كانت حالته متقدمة فيتم حجزه فى القسم الداخلى، حيث يقيم إقامة كاملة، وكان لكل طبيب نوبة معروفة ومواعيد محددة. من أساليب العلاج المتقدمة التى كانت موجودة فى مستشفى قلاوون، العلاج بالموسيقى، كانت توجد فرقة من الموسيقيين المحترفين يقومون بعزف مقطوعات موسيقية تهدئ الأعصاب، وكان البيمارستان مثل كلية الطب، حيث يتم تعليم الطب من خلال علاج المرضى وعرض الحالات، ويتم منح الطبيب إجازة ممارسة المهنة من البيمارستان.
يورد الدكتور أحمد عيسى نصاً لإحدى هذه الإجازات، أورده كاملاً لأنه نص جميل يدلنا على مصادر غير تقليدية للنثر العربى:
(هذه صورة ما كتبه الشيخ الأجل عمدة الأطباء ومنهاج الألباء الشيخ شهاب الدين ابن الصايغ الحنفى، رئيس الأطباء بالديار المصرية، إجازة للشاب المحصل محمد عزام، أحد تلامذة الشيخ الأجل والكهف الأحول الشيخ زين الدين عبدالمعطى، رئيس الجراحين على حفظه لرسالة الفصد «فصد الدم» كما سنبينه:
الحمد لله، ومنه أستمد العناية
الحمد لله الذى وفق من عباده من اختاره لخدمة الفقراء والصالحين وهدى من شاء للطريق القويم والنهج المستقيم على ممر الأوقات والأزمان إلى يوم الدين، وبعد فقد حضر عندى الشاب المحصل شمس الدين محمد بن عزام بن.... «كلمات مفقودة» على المؤذن الجروانى المتشرف بخدمة الجراح والمتقيد بخدمة الشيخ الصالح بقية السلف الصالحين العارفين وشيخ طائفة الجراحين بالبيمارستان المنصورى هو الشيخ عبدالمعطى المشهور بابن رسلان، نفحنا الله ببركاته ورحم أسلافه العارفين الصالحين وعرض على جميع الرسالة اللطيفة المشتملة على معرفة الفصد وأوقاته وكيفيته وشروطه وما يترتب عليه من المنافع المنسوبة والرسالة المذكورة للشيخ الإمام العلامة التمام شمس الدين محمد بن ساعد الأنصارى شكر الله سعيه ورحمه وأسكنه بحابيح جناته بمنه وكرمه، عرضاً جيداً دل على حسن حفظه للرسالة المذكورة وقد أجزئه أن يرويها عنى بحق روايتها وغيرها من الكتب الطبية..).
إلى هنا وينتهى الجزء الذى تبقى من الرسالة، كانت الأمور منظمة، صارمة، وكان المحتسب يراقب عمل الأطباء ويشرف عليه ويطبق العقاب على المخالفين.
قبل اللجوء إلى التاريخ لمعرفة ما كان عليه البيمارستان المؤيدى الذى أقف فى أطلاله، قرب القلعة، نعود إلى كتاب الدكتور أحمد عيسى الذى يخصص فيه فصلاً لبيمارستانات مصر. يقول إن أقدمها كان فى زقاق القناديل أحد أزقة الفسطاط، وكان يوجد أيضاً آخر اسمه المعافر والتسمية ترجع إلى بنى المعافر من قبائل العرب، أما المعروف بالعتيق فأنشأه أحمد بن طولون سنة 259ه - 872 ميلادية، أنفق عليه ستين ألف دينار، وكان يشرف عليه بنفسه ويركب لمتابعته كل أسبوع، بعض المصادر تؤكد أنه الأول من نوعه فى مصر.
لقد اشترط ابن طولون ألا يعالج فيه جندى أو مملوك، وعمل حمامين أحدهما للرجال والآخر للنساء، حبسهما على المارستان وغيره، واشترط أنه فى حالة حضور العليل تنزع عنه ثيابه وكل ما معه ويحفظ عند أمين المارستان وتسلم إليه ملابس خاصة ويفرش له ويغذى ويراح بالأدوية والأغذية والأطباء حتى يبرأ، فإذا أكل فروجاً وأَُمر بالانصراف أعطى ماله وثيابه.
وفى سنة 262ه - 875م، كان ما حبسه على المارستان والعين والمسجد فى الجبل الذى يسمى تنور فرعون أعياناً كثيرة، وكان بلغ ما أنفق على المارستان ومستغله ستين ألف دينار، فكان يركب بنفسه فى كل يوم جمعة ويتفقد خزائن المارستان وما فيها والأطباء وينظر إلى المرضى وسائر المعلولين والمحبوسين من المجانين. دخل مرة حتى وقف عند المجانين فناداه واحد منهم مغلول، مقيد:
«أيها الأمير، اسمع كلامى، ما أنا بمجنون، وإنما عُملت علىّ حيلة.
وفى نفسى شهوة لأكل الرمان، أريد رمانة كبيرة».
أمر له أحمد بن طولون برمانة فأحضروها له، فرح بها وهزها فى يده، وفجأة قذف بها بكل ما أوتى من قوة إلى صدر أحمد بن طولون، نضحت على صدره ولو تمكنت منه لقتلته، أمرهم أن يشددوا عليه الحراسة، ولم يعد بعد ذلك إلى البيمارستان.
يقول السخاوى المؤرخ إن ابن طولون بنى إلى جانب جامعه البيمارستان وكان يضم مكتبة تحتوى على مائة ألف مجلد، ولما آلت الدولة الطولونية إلى الزوال بخروج شيبان بن أحمد بن طولون آخر ملوكها من مصر ليلة الخميس، ليلة ليالى ربيع الأول 292ه، ودخلها محمد بن سليمان الكاتب من قبل المكتفى بالله، أخذ الشعراء فى رثائهم والتحسر عليهم فنظموا القصائد الطوال فى ذلك، ومن بين المراثى قصيدة للشاعر سعيد القاضى يرثى فيها البيمارستان الطولونى:
ولا تنس مارستانه واتساعه
وتَوْسعة الأرزاق للحَوْل والشَهرْ
وما فيه من قُوّامه وكُفّايه
ورِفْقِهم بالمعتفين ذوى الفَقْر
فللميّت المقبور حسنُ جهازه
وللحىّ رِفْقُ فى علاج وجَبْر
وكان مما ألحقه ابن طولون بالمكان صيدلية فيها أنواع الأدوية المختلفة، وكان يخصص طبيباً يوم الجمعة ليجلس على سبيل الاحتياط خشية أن يقع تعب ما أو أزمة مفاجئة لأحد المصلين، وكان الأطباء المعالجون من المسلمين والأقباط. من البيمارستانات الكبرى ذلك الذى بناه صلاح الدين الأيوبى «567ه - 1171م»، استولى على القصر الفاطمى الذى كان يضم قاعة بناها العزيز بالله سنة 384ه - 994م فجعلها السلطان صلاح الدين بيمارستاناً، ويذكر القلقشندى أنه زوده بطلسم يمنع دخول النمل، ومن الرحّالة المشهورين الذين دخلوه المغربى ابن جبير، الذى وصفه قائلاً:
«ومما شاهدناه فى مفاخر هذا السلطان، المارستان الذى بمدينة القاهرة، وهو قصر من القصور الرائعة، حسناً واتساعاً، أبرزه لهذه الفضيلة تأجراً واحتساباً، وعين قيماً من أهل المعرفة، وضع لديه خزائن العقاقير ومكّنه من استعمال الأشربة وإقامتها على اختلاف أنواعها، ووضعت فى مقاصير ذلك القصر أسرّة يتخذها المرضى مضاجع كاملة الكَسْى».
من أشهر البيمارستانات فى تاريخ الطب بمصر ذلك المعروف بالمنصورى، وهو جزء من مجموعة المنصور قلاوون فى النحاسين «بين القصرين»، وسوف أرجئ الحديث عنه الآن، إذ إننى سأتوقف طويلاً أمام مجموعة قلاوون عندما أصل إليها فى سعيى خلال شارع المعز لدين الله.
مازلت فى باب الوزير، فى البيمارستان المؤيدى، قبل أن أتحدث عنه فاتنى أن أذكر شيئاً عن باب الوزير، كان هناك سور يفصل بين الجبانة والمنطقة السكنية، كان ذلك جزءاً من سور القاهرة، غير أن الوزير نجم الدين محمود بن على بن شروين المعروف ب«وزير بغداد» وقت أن كان وزيراً للملك الأشرف كجك بن الناصر محمد بن قلاوون 742ه لمرور الناس من الجبانة إلى البيوت وبالعكس، ومع الزمن عرف بباب الوزير، هكذا اتصلت الحياة اليومية للناس بمراقد الموتى، ومع الزمن تداخلت المسافات وتقاطعت الطرق.
أعود إلى البيمارستان المؤيدى: يقول المقريزى فى موسوعته الرائعة، الجميلة:
«هذا البيمارستان فوق الصوة تجاه الطبلخاناه بقلعة الجبل، حيث كانت مدرسة الأشرف شعبان ابن حسين التى هدمها الناصر فرج بن برقوق وبابه هو حيث كان باب المدرسة».
يذكر المقريزى أن المرضى نزلوا به اعتباراً من جمادى الآخرة 821ه، وكان ينفق عليه من الأوقاف المخصصة للجامع المؤيدى المجاور لباب زويلة، فلما مات المؤيد عام 824ه تعطل العمل به، وهذه ظاهرة مملوكية لاتزال مستمرة، فالمنشأة التى يؤسسها الحاكم تحظى بالعناية طوال مدة حكمه، وبمجرد رحيله قد يتطرق إليها الإهمال حتى تزول تماماً إلا إذا كان لها صلة عضوية بحياة الناس ومصالحهم، عندئذ تجرى المحاولات لتغيير اسمه أو معالمه وربما وظيفته، ومن الأمور المشابهة التى عاصرها جيلى، الحملة التى جرت مع بداية حكم الرئيس أنور السادات ضد السد العالى، وكانت حملة مملوكية بامتياز، إذ كان القائمون عليها وبها يعرفون أنهم يقدمون على أمر يلقى قبولاً من الحاكم، فى الوقت نفسه يبدى هو عدم ارتياحه.
جرى تغيير اسم بحيرة ناصر إلى بحيرة السد العالى، وترددت أقاويل عن موقف خلال زيارة رئاسية أزيل بعدها تمثال نصفى للرئيس جمال عبدالناصر، واللوحة التذكارية لاكتمال السد، ومثل ذلك كثير لكن لا أحد يتعظ.
بعد أن مات المؤيد شيخ أُهمل البيمارستان بحجة عدم وجود بند للصرف عليه من الأوقاف. أُخرج المرضى منه وأُغلق وصار منزلاً للرسل الواردين من ملوك الشرق لقربه من ملوك الشرق، ثم تحول إلى مكان لشرب الخمر وممارسة الفاحشة ومربط للخيول، ثم تحول إلى خرابة. وفى عام 1894 ميلادية زارت لجنة حفظ الآثار العربية المكان، وأعدت تقريراً عنه باعتباره أثراً يستحق العناية والحفظ، وتمت أعمال كشف عن واجهة البيمارستان، غير أن الإهمال عاد إلى المكان وهو الآن مقلب زبالة، فسبحان مدبر الأحوال ومغيرها!
يذكر على باشا مبارك تفاصيل الوقف الذى يخص البيمارستان المؤيدى فى موسوعته الخطط، وهذا يناقض السبب الذى من أجله أهمل البيمارستان وكان سبباً لزوال وظيفته، ويبدو أن السبب كراهية الناس للسلطان المؤيد الذى دس السم لابنه الصارمى إبراهيم حتى لا يرتقى الملك بعده ثم ندم على ذلك ندماً شديداً، مما أدى إلى موته غماً وحزناً بعد ستة شهور من وفاة الابن الذى احتضر بالسم البطىء، والآن يمكن للداخل إلى مسجد المؤيد الجميل المجاور لباب زويلة أن يرى قبر الأب وإلى جواره قبر الابن الأصغر حجماً، كلاهما يرقد فى الثرى، ولهذا تفصيل مثير أستعيده مما دوّنته لغرابته،
خاصة ما جرى لابن السلطان المؤيد البالغ من العمر ستة شهور، والذى نصبه المماليك سلطاناً على مصر وجرى له فيما تلى ذلك ما جرى وهذا ما سأذكره غداً، خاصة أن مئذنتى المسجد فوق باب زويلة، الباب الذى عُلقت فوقه رؤوس العديد من المشنوقين أشهرهم طومانباى السلطان الشهيد، وهذه المآذن صارت معلماً بالنسبة للقادم من ناحية باب الوزير أو المتجه إليه، غير أن ما جرى للسلطان المؤيد ولولديه الكبير والطفل من الأمور العجيبة، وهذا ما سأفصّله غداً بإذن الواحد الأحد الباقى أبداً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.