المفتي: نكثف وجود «الإفتاء» على مواقع التواصل.. ونصل عن طريقها للشباب    روسيا تبدأ تدريبات لزيادة جاهزية الأسلحة النووية التكتيكية في الجنوب    دبلوماسي سابق: الإدارة الأمريكية تواطأت مع إسرائيل وتخطت قواعد العمل الدبلوماسي    أول تعليق من تعليم الجيزة على تسريب امتحان العلوم قبل بدء اللجان    توافد طلاب أولى ثانوى بالجيزة على اللجان لأداء الكيمياء في آخر أيام الامتحانات    طالب إعدادي يصيب 4 أشخاص بطلقات نارية أمام مدرسة في قنا    ما حكم ذبح الأضحية في البلاد الفقيرة بدلا من وطن المضحي؟    النشرة الصباحية من «المصري اليوم».. أيرلندا تعتزم الاعتراف بفلسطين.. وإطلاله زوجة محمد صلاح    استشهاد 10 فلسطينيين جراء قصف إسرائيلي على غزة    نتنياهو: لا نخطط لبناء مستوطنات إسرائيلية في غزة    «ما فعلته مع دونجا واجب يمليه الضمير والإنسانية».. أول رد من ياسين البحيري على رسالة الزمالك    بورصة الدواجن اليوم بعد آخر انخفاض.. أسعار الفراخ والبيض الأربعاء 22مايو 2024 بالأسواق    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الأربعاء 22 مايو 2024    بالصور.. معايشة «البوابة نيوز» في حصاد اللؤلؤ الذهبي.. 500 فدان بقرية العمار الكبرى بالقليوبية يتلألأون بثمار المشمش    الأزهر ينشئ صفحة خاصة على «فيسبوك» لمواجهة الإلحاد    فضل يوم النحر وسبب تسميته بيوم الحج الأكبر    سيارة انفينيتي Infiniti QX55.. الفخامة الأوروبية والتقنية اليابانية    إبراهيم عيسى: التفكير العربي في حل القضية الفلسطينية منهج "فاشل"    أرقام تاريخية.. كبير محللي أسواق المال يكشف توقعاته للذهب هذا العام    رئيس نادي إنبي يكشف حقيقة انتقال محمد حمدي للأهلي    قرار جديد من الاتحاد الإفريقي بشأن نهائي أبطال إفريقيا    اليوم.. ختام مهرجان إيزيس الدولي لمسرح المرأة بحضور إلهام شاهين وفتحي عبد الوهاب    أترك مصيري لحكم القضاء.. أول تعليق من عباس أبو الحسن على اصطدام سيارته بسيدتين    عاجل.. حلمي طولان يصب غضبه على مسؤولي الزمالك بسبب نهائي الكونفدرالية    سفير تركيا بالقاهرة: مصر صاحبة تاريخ وحضارة وندعم موقفها في غزة    تحرك برلماني بشأن حادث معدية أبو غالب: لن نصمت على الأخطاء    افتتاح أول مسجد ذكي في الأردن.. بداية التعميم    تصل إلى 50%، تخفيضات على سعر تكييف صحراوي وقائمة كاملة بأحدث أسعار التكييفات    دراسة: 10 دقائق يوميا من التمارين تُحسن الذاكرة وتزيد نسبة الذكاء    «أعسل من العسل».. ويزو برفقة محمد إمام من كواليس فيلم «اللعب مع العيال»    نشرة التوك شو| تفاصيل جديدة عن حادث معدية أبو غالب.. وموعد انكسار الموجة الحارة    جوميز: لاعبو الزمالك الأفضل في العالم    بينهم طفل.. مصرع وإصابة 3 أشخاص في حادث تصادم سيارتين بأسوان    "رايح يشتري ديكورات من تركيا".. مصدر يكشف تفاصيل ضبط مصمم أزياء شهير شهير حاول تهريب 55 ألف دولار    أهالي سنتريس يحتشدون لتشييع جثامين 5 من ضحايا معدية أبو غالب    الأرصاد: الموجة الحارة ستبدأ في الانكسار تدريجياً يوم الجمعة    إيرلندا تعلن اعترافها بدولة فلسطين اليوم    دبلوماسي سابق: ما يحدث في غزة مرتبط بالأمن القومي المصري    عاجل.. مسؤول يكشف: الكاف يتحمل المسؤولية الكاملة عن تنظيم الكونفدرالية    جوميز: عبدالله السعيد مثل بيرلو.. وشيكابالا يحتاج وقتا طويلا لاسترجاع قوته    حظك اليوم برج العقرب الأربعاء 22-5-2024 مهنيا وعاطفيا    «الثقافة» تعلن القوائم القصيرة للمرشحين لجوائز الدولة لعام 2024    ب1450 جنيهًا بعد الزيادة.. أسعار استخراج جواز السفر الجديدة من البيت (عادي ومستعجل)    وثيقة التأمين ضد مخاطر الطلاق.. مقترح يثير الجدل في برنامج «كلمة أخيرة» (فيديو)    الإفتاء توضح أوقات الكراهة في الصلاة.. وحكم الاستخارة فيها    نائب روماني يعض زميله في أنفه تحت قبة البرلمان، وهذه العقوبة الموقعة عليه (فيديو)    النائب عاطف المغاوري يدافع عن تعديلات قانون فصل الموظف المتعاطي: معالجة لا تدمير    طريقة عمل فطائر الطاسة بحشوة البطاطس.. «وصفة اقتصادية سهلة»    بالصور.. البحث عن المفقودين في حادث معدية أبو غالب    أبرزهم «الفيشاوي ومحمد محمود».. أبطال «بنقدر ظروفك» يتوافدون على العرض الخاص للفيلم.. فيديو    موعد مباراة أتالانتا وليفركوزن والقنوات الناقلة في نهائي الدوري الأوروبي.. معلق وتشكيل اليوم    وزيرة التخطيط تستعرض مستهدفات قطاع النقل والمواصلات بمجلس الشيوخ    شارك صحافة من وإلى المواطن    إزاى تفرق بين البيض البلدى والمزارع.. وأفضل الأنواع فى الأسواق.. فيديو    هل ملامسة الكلب تنقض الوضوء؟ أمين الفتوى يحسم الجدل (فيديو)    قبل قدوم عيد الأضحى.. أبرز 11 فتوى عن الأضحية    المتحدث باسم مكافحة وعلاج الإدمان: نسبة تعاطي المخدرات لموظفي الحكومة انخفضت إلى 1 %    خبير تغذية: الشاي به مادة تُوسع الشعب الهوائية ورغوته مضادة للأورام (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصيد الحجر.. بنيان الرضا وعمارة السكينة فى «السلطان حسن» (3) المحراب.. باب الروح
نشر في المصري اليوم يوم 23 - 08 - 2009

المحراب من رخام، بابه مغطى بالنحاس المنقوش، أطباق نجمية من اثنى عشر جزءاً كل منها مستقل بذاته، متصل بما يليه، الدائرة موزعة على مصراعى الباب، هكذا النقوش الغزيرة التى تغطى مصراعى النافذة الضخمة المؤدية إلى القبة.
هنا أتوقف، بالتحديد أمام المحراب، أستدير متمهلاً، أتطلع صوب القبة الخشبية فى المنتصف، دائماً فى المنتصف نجد الماء، الماء أصل كل شىء حى، له المركز، تظلله قبة كتب عليها من الداخل سورة الكرسى.
أعبر القبة بالبصر، أسافر بالنظر إلى الإيوان الغربى، تتوسطه نافذة تصل البيمارستان بصحن المسجد، الإيوان مخصص للمذهب الحنبلى، الجدران شاهقة الارتفاع، خالية من الزخارف، فقط دائرة قرب النهاية العلوية، دائرة دقيقة الزخارف، منمنمات من الجبس والحجر، دائرة مشبعة غزيرة، مشعة بالإيحاء، السلطان حسن بشكل عام قليل الزخارف، ولكن الزخارف الموزعة فيه وضعت وفقاً لمقياس رهيف، شديد التأثير،
يبهرنى ذلك التوازن بين الزخارف السابحة فى الأعالى، على هذا الارتفاع وسط سديم من الفراغ وبين التكوين الهائل للعمارة، توازن لا مثيل له، حضور تلك الدائرة فى إطار هذا الفراغ الهائل يمنحها قوة حضور هائلة، إنه نغم قوى، رقيق، جميل، فى ظل الصمت الذى يوازيه تلك المساحة الخلو من أى خدش، لذلك كان الظهور القوى لتلك الدائرة الحاوية للأغصان والأوراق والدوائر، العدم يؤدى إلى الحضور، العدم لا يؤدى إلى عدم.
ثمة دائرتان مماثلتان على نفس الارتفاع، نفس المستوى، دائرة فى الإيوان المالكى والأخرى مواجهة لإيوان المذهب الشافعى، من هنا تنبع النغيمات الخفية وتتواصل موسيقى البناء، لا يمكن تحديد بدايتها أو نهايتها، تماماً مثل شكل الدائرة المتكرر هنا بأكثر من صورة، وأكثر من حجم وهيئة، غير أن اللحن يبزغ فجأة قوياً، يطغى على الموجودات المحيطة، إنه حنو الإيوان الغربى على القبة التى تعلو موضع الماء فى المنتصف.
القبة استدارة
استدارة علوية تحيط بالاستدارة النابعة من دائرة القبة
زاوية يمكن من خلالها الإصغاء إلى الموسيقى الخفية التى تسرى فى عمارة المكان، قبة الميضأة فى المنتصف، عندما أدخل إلى البيمارستان وأتوقف أمام النافذة التى تصله بالصحن المكشوف، أرى القوس الحجرى الأعظم محتوياً القبة، استدارة تحيط باستدارة فى حساسية مرهفة ودقة مستنفرة لكل ما هو رقيق داخل الإنسان.
ثمة استدارة أخرى من داخل البيمارستان، إنها أعلى المحراب، كل شىء بقدر، الصحن يجسد رحلة الحياة، سماء وأرضاً، وانعكاس الكواكب والنجوم على الأرضية التى أعبرها على مهل بعد تأمل العلاقة بين المئذنة القبلية والقبة فى منتصف الصحن التى تظلل المياه، تعامد واتصال مرهف بين استقامة المئذنة ودائرية القبة، بين الاستقامة والانحناء، بين المستطيل والتكوير، بين النوعين المتضادين والمكملين لبعضهما البعض.
عبور الصحن يعنى اجتياز الحياة، إذ أصل إلى المحراب فى الإيوان الشرقى المتجه إلى الكعبة فكأنى اجتزت أيامى وقاربت الختام، أتأهب لدخول القبة، القبة حيث المثوى الأبدى تحت مركزها، إنه الضريح، الهدف الحقيقى لكل من أنشأ مسجداً أو مدرسة، أن يرقد فى ثراها، أن يذكره الناس، أن يبقى اسمه ملفوظاً، معروفاً، إنه نفس المضمون المصرى القديم.
أتوقف عند العتبة.
العتبة الفاصلة
■ ■ ■
أتأهب للدخول إلى الحيز المعتم، المظلل بالعدم، أتذكر دخولى عبر الباب الرئيسى إلى المدخل ثم إلى الدهليز المؤدى إلى الصحن، ها نحن نقترب من الخطوة الأخيرة، أوشك القوس الآخر على الظهور، الدهليز المؤدى رحم أصغر، والقبة رحم أكبر، إنه رحم الأرض الذى يؤول إليه كل سعى.
عند العتبة أرفع البصر إلى أعلى، إلى الركن المقابل، المواجه من القبة.
أى مهابة، أى شسوع هذا، رغم محدودية المسافة إلا أنها تبدو بلا نهاية.
الارتفاع ثمانية وأربعون متراً، كل ضلع واحد وعشرون متراً، نحت على هيئة مربع، أما القبة فدائرية، من المربع ينتقل البناء إلى الدائرى عبر المقرنصات، هنا نلحظ خصوصية هذه المقرنصات الخشبية الملونة، تبدو الخطوط عليها مكونة أشكالاً غريبة، غير أننى بالتدقيق ألمح ما يشبه الجعران المصرى القديم، مثل هذه المقرنصات لم أعرف مثيلاً لها إلا فى قبة قلاوون.
يذكر الرسام الفرنسى بريس دافين أن القبة سقطت سنة 1071ه، (1661م)، وكانت فى الأصل أعلى ارتفاعاً، أما باطنها فممتلئ بالنقاش، جددها إبراهيم باشا سنة 1082ه (1671م).
القبة تعنى أنها تقوم فوق ضريح، المقبرة موجودة بالفعل، ومن المفارقات أن السلطان حسن قتل ولم يعثر له على جثة، يرقد فى القبر ابنه الشهاب أحمد المتوفى فى 14 جمادى الآخرة سنة 788ه (1386م).
قرب المنتصف، فى الجدران الأربعة، نرى أربع دوائر متواجهة، متماثلة، متوازنة، متقابلة، داخل كل منها حشوات وزخارف جصية، أما ما يستوقفنى فتلك الزخارف الحمراء الداكنة النابعة من الدائرة، كأنه ذلك اللهب المنبعث من قرص الشمس الذى يقذف من أعماقها إلى مسافات قصية من الفراغ، أربع شموس متواجهة، رسوم تفيض بالحركة والحيوية، حواف الشموس مشتعلة، على الجدار الغربى، إنه شرقى بالنسبة لى عند وقوفى أمام المحراب، هكذا الأمر دائماً نسبى، ما هو شرقى هنا يمكن أن يكون غربياً، ولكن.. من هناك تشكيل زخرفى دائرى تتوسطه دائرة حمراء، من نفس خامة الرخام التى نجدها فى المعابد المصرية القديمة والكنائس، تعددت الديانات ومواد العمارة من نفس تلك الأرض، غير أن ما يتشابه فيها أيضاً الرؤية، تلك نجدها فى تصميم المبانى، فى الزخارف، فى التكوينات، فى الفلسفة الكامنة.
■ ■ ■
يبهرنى فى القبة الخط المكتوب قرب المنتصف، خط لم أعرف له مثيلاً فى أى مسجد أو مخطوط. خط فيه من تآلف العراقة والحداثة ما يذهل. فيه جرأة، فيه تفنن وتوثب، تحت القبة كرسى مصحف به حشوات على هيئة الطبق النجمى - أربعة وعشرين - مطعمة بالعاج والأبنوس. العاج أبيض والأبنوس أسود، فكأن الليل والنهار يتداخلان هنا، الزخارف من أدق ما رأيت، كأنها إشارات لأخرى لا يمكن لنا أن نطلع عليها.
أطوف به، أحياناً أنتظر وقت الأذان لأسمع صوت المؤذن الجميل، ولأصغى إلى الأصداء التى ترد إلينا من زوايا القبة وأركانها، تلك المرئية والأخرى الخفية، للأصوات فى السلطان حسن وضع خاص، بمجرد عبور الباب الرئيسى تتبدل طبيعة الأصوات القادمة من الخارج، أو الشارع أو أى مكان يحيط البناء، تبدو كأنها مقبلة من عالم لم نألفه بعد، ناءٍ، قصى، وهذه خاصية متممة للظلال والألوان وتكوينات المعمار، هذه العناصر كلها تتسرب على مهل إلى الروح لنخطو فى عالم شفاف يبعث فينا قدراً صافياً من الرضا، نعم، هذا البناء الهائل يبث فينا الرضا بالتحديد.
لذلك أجد نفسى والمفقود منى فيه، فى الشتاء أهفو مغمض العينين إذ أرهف السمع مصغياً إلى سجع الحمام والطيور الغريبة المهاجرة من بعيد التى تأوى إلى مكامنها أعلى البنيان، مع اقتراب المغيب، تتزايد أصوات الليل فلا أدرى أهى تخشى الظلام المقبل أم ترحب بظهور النجوم والكواكب، أم لأنها تخشى الاقتراب من حافة الوقت؟
محمد بن بليك
لقرون حار العلماء والرحالة وكل الذين توقفوا منبهرين بهذا المعمار، لابد أنهم تساءلوا: من المهندس العبقرى الذى خطط، من الذى شيد؟
لقرون ظل اسم المهندس مجهولاً، خفياً، لم يذكره المقريزى ولا أى مؤرخ آخر، لم يعثر أحد على إشارة تدل إليه، هكذا معظم أعمال العمارة الإسلامية، يعرف البناء باسم من أمر بتشييده وليس بمن خطط وأبدع وشيد بالفعل، فى مساجد القاهرة لم أعثر إلا على اسم فنان قام بإبداع الزخرفة فى محراب قجماسى الإسحاقى.
ماعدا ذلك يظل أولئك المبدعون فى العتمة. جاءوا من المجهول ومضوا إلى المجهول، كان ممكناً للمهندس العبقرى المتوارى أن يظل فى دائرة العتمة لولا محب، عاشق، متخصص فى الآثار المصرية، هو حسن عبدالوهاب، فلنصغ إليه إذ يحدثنا عبر كتابه الجميل «تاريخ المساجد الأثرية فى القاهرة»، يقول ما نصه:
«وفى يوم 14 نوفمبر 1944، أثناء اشتغالى بمراجعة كتابات الجامح لنشرها مع أستاذى الجليل مسيو فييت ضمن مجموعة الكتابات التاريخية الجارى نشرها - عثرت فى المدرسة الحنفية على اسم المهندس مكتوباً فى طرازها الجصى بما نصه:
«بسم الله الرحمن الرحيم، إن المتقين فى جنات ونعيم ادخلوها بسلام آمنين ونزعنا ما فى صدورهم - إلى قوله تعالى: وما هم منها بمخرجين. اللهم يا دائم لا يفنى من نعمه لا تحصى، أدم العز والتمكين والنصر والفتح المبين ببقاء من أيدت به الإسلام والمسلمين وأحييت... حسن ابن مولانا السلطان ال.......، عنه على ما وليته وخلده فى ذريته كتبة تحمد دولته، وشاد عمارته محمد بن بليك المحسنى..».
الله.. الله
أخيراً كشف لنا حسن عبدالوهاب عن العقل الذى يقف وراء هذه العمارة، دائماً أدخل المدرسة الحنفية بعد نهاية رحلتى هنا، الباب إلى يمين الإيوان القبلى، تكوين من تكوين، غرف الشيوخ والطلبة، العمارة على هيئة المدرسة، لكل مذهب شيخ ومائة طالب، من كل فرقة خمسة وعشرون متقدمون وثلاثة معيدون، وعين مدرس لتفسير القرآن وعين معه ثلاثون طالباً، عهد إلى بعضهم أن يقوموا بعمل الملاحظة، وعين مدرس للحديث النبوى، ومقرئ لقراءة الحديث، وثلاثون طالباً يحضرون يومياً عُهد إلى بعضهم أن يقوموا بوظيفة النقيب، والبعض الآخر يقوم بوظيفة داع للسلطان عقب الدروس،
ثم عين بالإيوان القبلى بالجامع شيخ مفتٍ، ورتب معه مقرئ مجيد للقراءة على أن يحضر أربعة أيام من كل أسبوع، منها يوم الجمعة فيقرأ المقرئ ما تيسر من القرآن وما تيسر من الحديث الشريف، وعين مدرس حافظ لكتاب الله عالم بالقراءات السبع ليجلس كل يوم ما بين صلاة الصبح والزوال بالإيوان القبلى، وقارئ آخر يجلس معه ليلقن القرآن لمن يحضر عنده، ثم عين اثنان لمراقبة الحضور والغياب، أحدهما بالليل والآخر بالنهار، وأعدت مكتبة لها أمين، وألحق بالمدرسة مكتبان بمدرسيهما لتعليم الأيتام القرآن والخط، وقرر لهم الكسوة والطعام، فكان إذا أتم اليتيم القرآن حفظاً يعطى خمسين درهماً ويمنح مؤدبه خمسين درهماً مكافأة له، وعين طبيبان مسلمان أحدهما باطنى والآخر للعيون، يحضر كل منهما كل يوم بالمسجد ليداوى من يحتاج إلى علاج من الموظفين والطلبة، ورتب طبيب ثالث جراح، وقد أرصد فى وقفيته رواتب الأساتذة والطلبة والموظفين، وقيمة ما يصرف لهم من المأكل كل ليلة جمعة وما يصرف لهم فى الأعياد.
أستعيد ما ذكره المقريزى وعلى باشا مبارك وحسن عبدالوهاب أثناء تجوالى وتدققى. غير أن الجملة التى تتردد فى وعيى بعد خروجى من المدرسة الحنفية تلك المنقوشة فوق الجدار الداخلى البعيد عن العيون والأبصار إلى درجة أن أحداً لم يلحظها طوال تلك القرون، حتى قرأها وفسرها ونشرها المرحوم حسن عبدالوهاب، كلمتان فقط أرددهما:
وشاد عمارته..
ثم أكمل..
وشاد عمارته محمد بن بليك المحسنى..
إذن علمنا اسم من شاد العمارة، ومحمد هذا ينتمى إلى أسرة قديمة عرفت منذ عصر المنصور قلاوون، ما نعرفه عنه أنه وقف إلى جوار السلطان حسن فى محنته مع الأمير يبلغا، ثم تغيبت أخباره تماماً. مرة أخرى أذكر المهندس العبقرى سنموت الذى صمم وشيد معبد الدير البحرى فى البر الغربى لعشيقته الملكة حتشبسوت، كتب اسمه على الأبواب فى المعبد ولكن من الخلف حتى لا يراها أحد، كان الكهنة يدخلون فيدفعون الأبواب، يرون فقط ما يواجهونه، لم يكن سنموت معنياً بأن يرى أحد اسمه، المهم أن يبقى، المهم أن يسجله على المعبد الذى أبدعه، كذلك فى مقبرته، كتبه ثم أخفاه بطلاء، ثم كتبه مرتين، كما توقع، دمر أعداؤه الاسم فى الطبقة الأولى واكتشفوا الثانية أيضاً غير أن الثالثة ظلت وهكذا عرفناه.
هكذا الحال فى السلطان حسن، حرص محمد بن بليك المحسنى على أن يكتب اسمه ولكن بعيداً عن الأنظار، داخل أكبر المدارس الأربع، الحنفية، فى شهر جمادى الأولى سنة 762ه (1361م) قتل السلطان حسن، كانت المدرسة كاملة عدا بعض أعمال تكميلية أتمها من بعده الطواشى بشير الجمدار. أتم أعمال الرخام خاصة بالأرضيات، والقبة الخشبية فوق الفسقية، وعمل المصراعين الكبيرين للباب الرئيسى الذى استولى عليه السلطان المؤيد شيخ، ونقرأ عليه:
«أمر بإنشاء هذا الباب المبارك العبد الفقير إلى الله تعالى مولانا السلطان الشهيد أبوالمعالى حسن ابن مولانا السلطان الشهيد الناصر محمد بن قلاوون وذلك فى سنة أربعة وستين وسبعمائة..».
ثم أتم بناء القبة الكبيرة، هذا مجمل ما قام به بشير الجمدار، ولكن ثمة مهندس ثالث، مهندس لا نعرف عنه شيئاً ولا حتى اسمه، إذن. كيف وصلنا أمره، لقد ترك لنا رسالة غريبة، غامضة، فى أوضح مكان وأشده ظهوراً، فى الواجهة تماماً، رسالة يمكن أن يمر أمامها من يجهل، ولكن سوف يتوقف أمامها طويلاً من يعرف ويلم. إلى يمين الداخل، وإلى يسار الخارج، أتوقف دائماً أمام تلك الرسالة بعد تمام الزيارة، أى بعد خروجى، أتجه إلى اليسار، ثمة قائم - دعامة - نحيل، مقسم إلى ستة سطوح فوق بعضها، متعاقبة، داخل كل منها رسوم بارزة، نرى بداخلها أقواساً وأعمدة غريبة على أى طراز عربى، إنها أعمدة أقرب إلى الطراز البيزنطى وأيضاً القوطى، نرى بيتاً صغيراً محدود بالسقف وعليه قرميد مثل البيوت الأوروبية، فى المربع الذى تليه ملامح مكان عبادة.
إذن المهندس أجنبى عن البلاد، ربما جاء من بيزنطة أو فينسيا وشارك فى أعمال التصميم والبناء، ربما - وهذا الأرجح - كان رقيقاً وتم أسره وعاش بين حاشية السلطان، ربما كان مسيحياً عاش فى بلاد السلاجقة ودرس الطرز الإسلامية، إن ذكاءه الخارق فى حفر هذه العلامات التى تدل عليه، فى أوضح مكان يمكن تصوره، وأحياناً تكون قمة الإخفاء فى أشد الأماكن ظهوراً وأبعدها عن الاحتمال، هذا الذكاء فى اختيار موقع رسالته إلى من يفهم يجعلنى أوقن أنه مصمم هذه العمارة التى لا مثيل لها، لم يخف اسمه مثل محمد بليك داخل المدرسة الحنفية، إنما جاهر به فى أوضح الأماكن، محمد بن بليك شاد العمارة أى المشرف العام.
وتلك الرسالة تدل على من صمم، وتدل على أنه ما من شىء يمكن أن يوقف أو يمنع أو يحد من قدرة الإنسان على ترك علامة تدل عليه إذا ما أنجز عملاً رائعاً ولم يذكر اسمه، إبداع فى إطار الإبداع، لن نعرف شيئاً أبداً عن صاحب هذه الرسالة، كما أننا لن نعرف شيئاً عن الآلاف الذين حفروا، ورصوا الحجر وسووا الرخام ورتبوا الزخارف ومات بعضهم تحت الردم، فقط تركوا لنا أنفاسهم بين الأحجار والنقوش التى أعتبر بعضها شكلاً من العبادة، كذلك الخطوط التى كتبت بها الآيات القرآنية، وأودعوها أيضاً موسيقى البنيان التى تسرى عبر روحى مضفية عليه السكينة والرضا بما كان وما سأصير إليه.
جمال الغيطانى
عند العتبة أرفع البصر إلى أعلى، إلى الركن المقابل، المواجه من القبة.
أى مهابة، أى شسوع هذا، رغم محدودية المسافة إلا أنها تبدو بلا نهاية.
لن نعرف شيئاً عن الآلاف الذين حفروا، ورصوا الحجر وسووا الرخام ورتبوا الزخارف ومات بعضهم تحت الردم، فقط تركوا لنا أنفاسهم بين الأحجار والنقوش التى أعتبر بعضها شكلاً من العبادة، كذلك الخطوط التى كتبت بها الآيات القرآنية، وأودعوها أيضاً موسيقى البنيان التى تسرى عبر روحى مضفية عليه السكينة والرضا بما كان وما سأصير إليه


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.