"معيط" يوجه بإتاحة نصف مليار جنيه لدعم سداد أجور العاملين بالصناديق والحسابات الخاصة بالمحافظات    السبت .. جامعة النيل تفتح أبوابها للطلاب وأسرهم الراغبين في التعرف على كلياتها    العمل تنظم فعاليات "سلامتك تهمنا" بالمنشآت الحكومية في المنيا    «المالية»: نصف مليار جنيه تمويلًا إضافيًا لدعم سداد أجورالعاملين بالصناديق والحسابات الخاصة بالمحافظات    خطة النواب تناقش مشروع موازنة البرامج والأداء للهيئة العامة للتنمية الصناعية    انطلاق «عمومية المنشآت الفندقية» بحضور رئيس إتحاد الغرف السياحية    كيفية الحفاظ على كفاءة التكييف في فصل الصيف    تفاصيل خطة الاحتلال الإسرائيلي للرد على الاعتراف الأوروبي بدولة فلسطين    يديعوت أحرونوت: وزارة الخارجية الإسرائيلية تدرس سلسلة من الإجراءات العقابية ضد أيرلندا وإسبانيا والنرويج    بعد العثور على خاتم الرئيس الراحل إبرهيم رئيسي.. ما سر ارتداء الخواتم في إيران؟    حقيقة مفاوضات الزمالك مع نجم نهضة بركان المغربي    عاجل..توني كروس أسطورة ريال مدريد يعلن اعتزاله بعد يورو 2024    "الرجل الأول والعقد".. كواليس رحيل بوتشيتينو عن تشيلسي    هاني شكري: الكاف المسؤول عن تنظيم نهائي الكونفدرالية ونتمنى فوز الأهلي بدوري الأبطال    محافظ الإسماعيلية يتابع جهود مديرية التموين    المشدد 7 سنوات للمتهم بقتل ابن زوجته بالقليوبية    ترقب المصريين لموعد إجازة عيد الأضحى 2024: أهمية العيد في الحياة الثقافية والاجتماعية    انتقاما من والده.. حبس المتهمين بإجبار شاب على توقيع إيصالات أمانة بالمقطم    تطورات الحالة الصحية للفنان عباس أبو الحسن.. عملية جراحية في القدم قريبا    المتحف القومي للحضارة يحتفل باليوم العالمي للمتاحف    فرقة طهطا تقدم "دراما الشحاذين" على مسرح قصر ثقافة أسيوط    أدعية الحر.. رددها حتى نهاية الموجة الحارة    افتتاح ورشة "تأثير تغير المناخ على الأمراض المعدية" في شرم الشيخ    «مواني البحر الأحمر»: تصدير 27 ألف طن فوسفات من ميناء سفاجا ووصول 742 سيارة لميناء بورتوفيق    غادة عبد الرازق تعود للسينما بعد 6 سنوات غياب، ما القصة؟    جوارديولا: أود مشاركة جائزة أفضل مدرب بالدوري الإنجليزي مع أرتيتا وكلوب    تريزيجيه جاهز للمشاركة في نهائي كأس تركيا    بإجمالي 37.3 مليار جنيه.. هيئة قناة السويس تكشف ل«خطة النواب» تفاصيل موازنتها الجديدة    «التعليم»: قبول ملفات التقديم للصف الأول الابتدائي 2024 للأطفال البالغين 6 سنوات    رئيس حزب الجيل: فخور بموقف مصر الحاسم تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة    رئيس جهاز القاهرة الجديدة يبحث مطالب ومقترحات سكان حي الأندلس    تراجع جديد.. سعر الريال السعودي اليوم الأربعاء 22-5-2024 مقابل الجنيه المصري بمنتصف التعاملات    لمواليد برج القوس.. اعرف حظك في الأسبوع الأخير من شهر مايو 2024    بروتوكول تعاون بين نقابة السينمائيين واتحاد الفنانين العرب و"الغردقة لسينما الشباب"    « وتر حساس » يعيد صبا مبارك للتليفزيون    الأزهر يطلق صفحة مستقلة بفيس بوك لوحدة بيان لمواجهة الإلحاد والفكر اللادينى    فدوى مواهب تخرج عن صمتها وترد على حملات المهاجمين    الأكبر سنا والمربع السكني.. قرارات هامة من «التعليم» قبل التقديم للصف الأول الابتدائي 2024    لمدة يومين.. انطلاق قافلة طبية إلى منطقة أبوغليلة بمطروح    الصحة: برنامج تدريبي لأعضاء إدارات الحوكمة في مديريات الشئون الصحية ب6 محافظات    التكييف في الصيف.. كيف يمكن أن يكون وسيلة لإصابتك بأمراض الرئة والتنفس؟    حفظ التحقيقات حول وفاة طفلة إثر سقوطها من علو بأوسيم    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 22-5-2024 في المنيا    قمة عربية فى ظروف استثنائية    صدمه القطار.. مصرع تلميذ أثناء عبوره «السكة الحديد» بسوهاج    رئيس جهاز مدينة 6 أكتوبر يتابع أعمال التطوير بالقطاعين الشرقي والشمالي    وزير الإسكان يتابع موقف مشروعات المياه والصرف الجاري تنفيذها مع شركاء التنمية    هكذا تظهر دنيا سمير غانم في فيلم "روكي الغلابة"    استطلاع رأى 82% من المواطنين:استكمال التعليم الجامعى للفتيات أهم من زواجهن    الرئيس الصيني: السياحة جسر مهم بين الشعبين الصيني والأمريكي للتواصل والتفاهم    سيدة «المغربلين»    دبلوماسي سابق: الإدارة الأمريكية تواطأت مع إسرائيل وتخطت قواعد العمل الدبلوماسي    قرار جديد من الاتحاد الإفريقي بشأن نهائي أبطال إفريقيا    رئيس نادي إنبي يكشف حقيقة انتقال محمد حمدي للأهلي    طريقة صنع السينابون بالقرفة.. نكهة المحلَّات ولذَّة الطعم    مأساة غزة.. استشهاد 10 فلسطينيين في قصف تجمع لنازحين وسط القطاع    هل تقبل الأضحية من شخص عليه ديون؟ أمين الفتوى يجيب    هل ملامسة الكلب تنقض الوضوء؟ أمين الفتوى يحسم الجدل (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



انكسار الروح يوقف إبداع المصريين.. فالأزمنة تتوالى والظلم واحد.. كارثة المكان وليس عبقريته
نشر في المصري اليوم يوم 26 - 08 - 2009

عودة إلى الطريق الأعظم، إلى الجزء الأول منه المعروف بسوق السلاح، أخرج من مسجد ومدرسة ألجاى اليوسفى مشبعاً بالرضا والسكينة والتوازن الرهيف بين ما أنا عليه وما كنته، أيضاً بين ما أنا عليه وما أتمنى أن أكونه، أحياناً يكون ذلك من بواعث القلقلة، لكننى إذ أفارق هذا البناء الجميل تدركنى سكينة مصدرها ما يختص به من توازن مدهش استدعانى إلى قراءة سورة الرحمن، أولى الظهر له وأمضى الخطى، أمر أمام مقهى قديم،
على نفس المقعد يجلس رجل متقدم فى العمر، وجهه ملىء بآثار الزمن، ظهره منحنٍ، يحدق دائماً إلى اللاشىء، كان يعمل فى المقهى نادلاً، بدأ منذ الصبا وعبر أيامه كلها هنا، اعتاد أن يفتحه فى ساعة مبكرة قبل طلوع الشمس، يرش الأرض بنشارة الخشب ليكنسها جيداً، يرص الأوانى والأكواب، كل شىء، لم يخرج من الحى إلا لزيارة آل البيت وأولياء الله الصالحين، تقدم به العمر وأقعده المرض، لم يعد قادراً على الحركة، النادل فى المقهى يتحرك طوال اليوم، يقطع عدة كيلو مترات خلال حيز ضيق، ابن صاحب المقهى أعفاه من العمل وكفله، أى خصص له راتباً تقاعدياً،
الرجل العجوز طلب أن يجىء يومياً، أن ينتحى ركناً على الرصيف المقابل للمقهى، أن يمضى وقته ناظراً إلى المكان الذى أمضى جل عمره فيه، أن يتأمل الزبائن، صحيح أن معظمهم من الأجيال الجديدة التى لا يعرف عنها شيئاً، لكن معظمهم من أبناء الحتة، ولدوا فيها وتأثروا بها، هذا الرجل بجلسته ونظرته أصبح بالنسبة لى معلماً إنسانياً، وفى بعض الأيام يغيب، أخشى أمراً، أجلس بالمقهى وأسأل عنه حذراً، ينبئنى من يعلم بمرضه، كان ذلك منذ سنوات قبل أن يغيب إلى الأبد.
كثيرة هى الوجوه التى تقابلنى فى الطريق، بعضها قديم مثل العمارة، هنا يتساند البشر على بعضهم البعض، السوق له منطقه، والتجاور له تقاليده، التفت إلى الوراء، مازال مسجد ألجاى اليوسفى فى دائرة البصر، المئذنة مطلة، سامقة، ثمة مسافة تكاد تكون متقاربة بين كل مسجد وآخر، المسافة بين ألجاى اليوسفى والطنبغا المردانى تكاد تعادل المسافة إلى مسجد قجماس الإسحاقى، ثم الصالح طلائع، يتخلل ذلك الأسبلة، وزوايا صغيرة للطيبين من شيوخ الصوفية والصالحين الذين أقام لهم الناس المراقد وأحاطوا سيرهم بالجهد والعناية.
مازال تأثير مسجد ومدرسة ألجاى اليوسفى يغمرنى، هنا يتردد سؤال عندى محوره ذلك التناقض بين روعة ورقة البنيان وقسوة وغشومة المنشئ، أتوقف عند جملة وصفه بها المقريزى: «وكان مهاباً جباراً، عسوفاً، عتياً..»
كيف لهذا الجبار العسوف العتى أن يرتبط اسمه بمسجد رائع الرقة كهذا؟، حيرنى ذلك طويلاً، ليس بالنسبة للأمير ألجاى فقط ولكن بالنسبة لجميع سلاطين وأمراء المماليك والولاة العثمانيين من بعدهم، إنه الإبداع الجماعى للمصريين عندما يجد الفرصة وعندما يستجيب لمتطلبات فترة معينة، الحاكم المقتدر يوفر الظروف مدفوعاً برغبة مصدرها مضمون مصر الروحى والثقافى، الرغبة فى تخليد الاسم،
عندئذ يسند التنفيذ إلى المصريين المبدعين من المتخصصين فى الزخرفة والخط والطلاء، والنمنمة ومن قبل ومن بعد المعماريين، البنائين، هكذا يظهر إلى الوجود إبداع الجماعة الذى يمثل فيه التراث القديم الوافد من عصور مختلفة، كل حقبة بما فيها، فى القرون الأولى بعد دخول العرب إلى مصر كانت مصر واهنة، ضعيفة، مستباحة منذ العصر الرومانى، غير أن مصر بلداً غير عادى، إنه قوى وهو يعانى الضعف، قوى بتراثه القديم، بتكوينه الفريد، إذا أصبح مقتدراً يؤثر بالإيجاب، وإذا ضعف يؤثر بالسلب، وبعد الغزوات والاستباحات يبدو منهكاً، تابعاً ولكن إلى حين، غير أن بلداً بتكوين مصر لا يمكن أن تستمر كولاية تابعة للأمويين أو العباسيين،
هكذا جرت أول محاولة للاستقلال بعد الغزو العربى فى ولاية أحمد بن طولون الذى استقل بمصر وأسس الدولة الطولونية ووضع أساس عاصمته الجديدة القطائع، كان تأسيس عاصمة جديدة يعنى الإعلان الفعلى للكيان الجديد المستقل، ولكن نلاحظ أن جميع الكيانات المنشأة فى هذا الوضع، سواء كانت حصن بابليون «بعد الغزو الرومانى» أو الفسطاط «بعد الغزو العربى» أو العسكر «الدولة العباسية» أو القطائع «الدولة الطولونية» ثم القاهرة «الدولة الفاطمية»، كل هذه العواصم ليست إلا ترديداً للعاصمة القديمة منف، عاصمة الدولة القديمة «بناة الأهرام»، إنه الموقع الذى أملته ضرورة قيام الدولة المركزية بعد توحيد القطرين، حيث يتفرع النيل إلى مسارين، دمياط ورشيد، موقع العاصمة هنا حاكم، مسيطر على الوجهين، إنه ذروة الهرم.
لم يتبق من القطائع إلا مسجد أحمد بن طولون، ورغم عظمة البنيان إلا أنه أجنبى التصميم، نابع من ذاكرة أحمد بن طولون وحنينه إلى سامراء، وقد رأيت مئذنة سامراء الملوية الشهيرة، إنها الأصل للمئذنة التى صممها المهندس المصرى القبطى الذى وضع تصميم المسجد كما تذكر المصادر التاريخية، فى تقديرى أن ابن طولون طلب تصميم المئذنة معبراً من خلالها عن حالة حنين إلى مسقط رأسه، وإن كانت مصادر التاريخ تذكر حكاية طريفة لشكلها، إذ يقال إنه كان شخصية قوية، صارمة، هذا طبيعى بالنسبة لرجل استقل بولاية تابعة للخليفة العباسى «تماماً مثل على بك الكبير فيما بعد ثم محمد على باشا الذى أسس الدولة المصرية الحديثة»، كان أحمد بن طولون فى مجلسه وسرح قليلاً ممسكاً بورقة بيضاء راح يلفها حول إصبعه، عندئذ صاح أحد الجالسين «ضبطتك تلعب وتلهو..»
مشيراً إلى الورقة الملفوفة، غير أن ابن طولون تدارك بسرعة قائلاً: «أنا لا ألعب ولا ألهو.. إننى أصمم المئذنة للمسجد..».
لا أصدق الحكاية، فالمئذنة تشير بوضوح إلى مئذنة سامراء الملوية، والتى يرجع أصلها إلى الزاقورة البابلية التى كانت جزءاً من المعبد البابلى، وتشير إلى السماء فى صعودها إلى أعلى.
عندما غزا جوهر الصقلى مصر قادماً من الغرب وضع أساس العاصمة الجديدة للفاطميين، وضع أساس القصر الشرقى مقر الحكم، والأزهر، المسجد الجامع الذى سيصبح مركزاً للدعوة الفاطمية لمدة قرنين من الزمان، ثم يتحول بعد ذلك إلى مركز للدعوة السنية مع سقوط الدولة الفاطمية وتأسيس الدولة الأيوبية، المساجد التى بنيت فى العصر الفاطمى لم تجسد الرؤية المصرية القائمة على التدرج، إنما كانت متأثرة بتصميم المساجد المغربية حيث الدخول مباشرة إلى الصحن، عندما زرت مسجد القرويين فى فاس تأملت طويلاً التشابه القوى بين معماره ومعمار الأزهر والحاكم والأقمر والصالح طلائع، ربما تختلف الزخارف نتيجة الميراث الخاص للمغرب ولمصر،
لكن التصميم يتشابه، إن تعدد الغزوات التى تعرضت لها مصر أدى إلى نقيضين، الأول عدم الاستقرار والانقطاع، وفرق كبير بين الانقطاع والموت، فى الانقطاع لا تتوقف الجماعة عن الوجود، وخلال هذا الوجود يمكن أن تتسرب بعض المؤثرات الأجنبية، أما الموت فهو التوقف التام، لم تمت مصر، إنما كانت تمرض، وأخطر ما يصيب أهلها انكسار الروح، وهذا يؤدى كما أؤكد دائمًا إلى وهن الإبداع الثقافى والفنى والعلمى فى شتى المجالات، هذا ما جرى زمن تمكن الأجنبى من مقادير البلاد، سواء كان فارسيًا أو رومانيًا أو عربيًا أو تركيًا عثمانيًا أو فرنسيًا أو إنجليزيًا، وأيضًا خلال تسيد الظلم والفساد من أهل البلاد الذين يمكن أن يكونوا سببًا فى انكسار الروح أكثر من الأجنبى الواضح الهوية، وهذا ما أجده خلال العقود الأخيرة التى قدر لنا أن نعيشها وأن نختتم بها أيامنا، أقصد جيلى عندما أتكلم بصيغة الجمع، فلأعد إلى البنيان، إلى العمارة.
أدت الغزوات الأجنبية إلى مؤثر آخر، وهو تعدد الطرز وتنوعها، إن تاريخ العمارة فى مصر هو تاريخ تحررها واستعمارها، كل أجنبى أودع فيها أثرًا، والدراسة المتأملة المتأنية تلك التى تستخلص المصرى الخالص، النابع من ثقافة الجماعة وتقاليدها، فى إستانبول وكل أنحاء تركيا لن نرى إلا طرازًا واحدًا من العمارة، نموذجه الأشهر عندنا مسجد محمد على، فى سمرقند لن نرى إلا طرازًا معينًا من العمارة، فى بغداد، فى إيران أيضًا، لكن فى القاهرة متحف مفتوح للطرز والتصاميم المختلفة وتعدد الأشكال، من ناحية يذكرنى هذا بكثرة الغزوات، بغلبة الأجنبى،
ومن ناحية يمكن القول إن هذا فيه ثراء، غير أننى أفضل الحالة المصرية الخالصة، وتلك لم تعبر عن نفسها إلا فى العصر المملوكى، وخلال ثورة ألف وتسعمائة وتسعة عشر وما تلا ثورة يوليو حتى نهاية الستينيات، إن تعدد الغزوات يجعلنى لا أقول بعبقرية المكان، إنما مصيبة المكان، أقول هذا رغم رصدى لحيوية وعبقرية الجماعة المصرية على الاستمرار رغم الانقطاع، وعلى الحفاظ على الروح الدفينة العميقة رغم تغير العقيدة واللسان، هذا ما شرحته مفصلاً فى كتاب «نزول النقطة»، فليتأمله من يرغب.
العصر المملوكى
لماذا العصر المملوكى؟
هنا أنبه إلى أمرين، أولاً: إن البعض يخلط العصر المملوكى بشقيه البحرى والبرجى وبين المماليك خلال الاحتلال العثمانى البشع لمصر والذى انهارت فيه الدولة واستباح مصر جنود الانكشارية والدلائية، وتسبب احتلال وغزو سليم الأول العثمانى فى إبادة ستة ملايين مصرى خلال قرنين من الزمان، فى عام ألف وخمسمائة وسبعة عشر عندما غزا سليم الأول مصر، كان تعداد السكان حوالى ثمانية ملايين، بعد أقل من قرنين، جاء نابليون بونابرت إلى مصر، وكان عدد سكانها مليونين ونصف المليون، حتى القرن السادس عشر، كانت الدولة المملوكية تبسط سلطانها على الشام كله حتى حدود جبال طوروس، وعلى البحرين الأبيض والأحمر، وعلى الحرمين، مكة والمدينة،
وأيضاً بيت المقدس، نزولاً شرقاً إلى باب المندب والمحيط الهندى، وجنوباً إلى شمال السودان. كانت القاهرة مركزاً لإمبراطورية شاسعة، والمثير للتأمل أن حكام هذه الإمبراطورية كانوا عبيداً فى الأصل، كلهم جاءوا أطفالاً مخطوفين مع تجار الرقيق الذين كان لهم سوق أمام قبة قلاوون معروف بدكة العبيد، وكان التجار ينادون على الذكور والإناث كما ينادى الباعة على البضاعة، أى بضاعة، يصيح النخاس مشيراً إلى الجارية الشابة:
«يا سيد، ليس كل ما استطال موزة ولا كل ما استدار جوزة..» ثم يبدأ فى تعديد فضائل الجارية المعروضة للبيع. قامت الدولة على أكتاف هؤلاء الرقيق الذين تزايدت أعدادهم مع احتضار الدولة الفاطمية، ثم انفرادهم بالحكم فى نهاية الدولة الأيوبية وتأسيس دولة المماليك البحرية، وكان مركز الحكم فيها جزيرة الروضة، لذلك أطلق عليهم (البحرية).
وتعاقب خلالها أبناء وأحفاد المنصور قلاوون، حتى اعتلى الظاهر برقوق السلطة فى بداية القرن الخامس عشر مؤسساً دولة المماليك البرجية والتى أصبح فيها مركز الحكم فى قلعة الجبل، واستمر حتى منتصف القرن التاسع عشر، عندما نزل الخديو إسماعيل عام ثلاثة وستين وثمانمائة وألف إلى وسط الناس فى قصر عابدين.
خلال الدولة المملوكية المستقلة أبدعت الجماعة المصرية أروع ما فى مكنونها، فى العمارة، فى الأدب، فى الموسيقى، لقد تحققت الخصوصية المصرية رغم أن حكام البلاد كانوا رقيقاً وافدين، لكن يجب ملاحظة أن هؤلاء وفدوا على مصر أطفالاً صغاراً، تربوا فيها وتعلموا على أيدى علمائها وشيوخها، أى أن تكوينهم كان مصرياً، وخلال الحقبة التى حكموا فيها صدوا خطرين عظيمين، الأول عندما هزموا التتار فى موقعة «عين جالوت»، والثانية تخليصهم العالم العربى والإسلامى من الخطر الصليبى وهو استعمار استيطانى كان مستقره فلسطين والشام، فكأن الزمن يعيد دورته فى نفس المنطقة، منذ سنوات عقدت إسرائيل ندوة كبيرة فى القدس لدراسة أسباب زوال الدولة الصليبية وفشل حملاتها، هل فكر أحد من المسؤولين فى العالم العربى أن يقيم ندوة فى المقابل تبحث فى أسباب زوال الحملات الصليبية ومقارنتها بالظروف الحالية!
استطاع المماليك الذين كانوا محاربين شجعاناً أن يهزموا التتار والصليبيين، وخلال دولتهم عرفت مصر استقراراً اقتصادياً وطمأنينة مكنت جماعتها الوطنية من الإبداع، لم يكن حكم المماليك ظالماً فى مجمله، فاسداً فى كليته، لم يكن أكثر مما عرفناه تحت حكم المصريين الخُلص، بل إن المماليك تميزوا بالشجاعة، ولم يهرب أحدهم إلى بلد آخر مصطحباً ثروته، ولم يغرق أحدهم أكثر من ألف إنسان ويظل بمنأى، يبدو أن قدر المصريين، هو معاناة القهر، ويبدو أن عذاب المصريين، ومعاناتهم، أزلى، سواء كان الحاكم أجنبياً أو من بنى جلدتهم.
ذاب المماليك فى المجتمع المصرى، تلك خاصية الاحتواء، هل يمكن لأحدنا أن يحدد من هو حفيد أسرة قلاوون الآن، أو حفيد الأمير أزبك، أو الأمير طاز، أو الأمير شيخون، كلهم ذابوا فى المجتمع المصرى. هذا الذوبان كان يبدأ على الفور بعد خروج المملوك من الخدمة، أى بعد تقاعده من خدمة الدولة، عندئذ يصبح واحداً من فئة كان يطلق عليها أولاد الناس، ومعظم هؤلاء يتركون الجندية والسلاح ويشتغلون بالعلم أو التجارة، ومنهم على سبيل المثال المؤرخ العظيم شيخى محمد أحمد بن إياس صاحب بدائع الزهور فى وقائع الدهور، وما زال المصريون إذا أرادوا أن يمدحوا شخصاً ما بجميل الصفات، فإنهم يصفونه بابن ناس.
أمضى فى الطريق مبتعداً عن مسجد ومدرسة ألجاى اليوسفى إلى أن يلوح سبيل رقية دودو، أو سبيل البدوية، أحد أجمل أسبلة العالم الإسلامى، يبدو جزء منه للقادم من شارع سوق السلاح، كأنه نهاية الطريق، إنها خاصية الشارع فى المدينة العتيقة حيث لا يمضى مستقيماً مثل الشارع الأوروبى إنما يتعرج، بحيث يبدو كل قسم منه وكأنه بداية ونهاية، يحقق هذا راحة نفسية للإنسان، إذ يقسم المسافة، وفى نفس الوقت يظل الوعد بالوصول قائماً، ماثلاً، بينما يؤدى هذا التعرج إلى تبادل الظل، الظل يعانق الظل فى أيام الحر، وفى أيام البرد تنكسر حدة الرياح عند تلك المنحنيات.
سبيل رقية دودو..
أمر أمامه وأتوقف متأملاً لسنوات طويلة، حفظت زخارفه، سواء المحفورة فى الحجر أو فى بلاطات الخزف، ما من فنان إلا وتوقف أمامه ورسمه، ظل الوضع كذلك منذ إنشائه فى القرن الثامن عشر إلى بداية هذا العام عندما تمكن اللصوص المحترفون، المدعومون من انتزاع غطاء الواجهة الذى كان من الحديد المزخرف، المنمنم، عمل يتسم بالجرأة الوقحة لا يقدم عليه إلا من لديه قدر من الاطمئنان، ولا أقدر على تحديد مصدر هذا الاطمئنان، الآن يدمى قلبى وأنا أرى طوباً أحمر يسد الفجوة التى كانت تعتبر من أجمل واجهات الأسبلة، لقد أبلغت النائب العام وتفضل مشكوراً بإجراء تحقيق استغرق شهوراً، ولكن لم يتم التوصل إلى نتيجة حتى الآن،
لم تمتد أيدى اللصوص المحترفين إلى السبيل النادر فقط، إنما إلى آثار أخرى سأتوقف عندها، هذا التطاول على الآثار الإسلامية لم يحدث فى أحط عصور تاريخنا وأكثرها اضطراباً، ما جرى لسبيل رقية دودو، يجعلنى أتوقف لأستعيد ما دونته من قبل عن أسبلة القاهرة، معمارها ودلالاتها، مغزاها ومعناها.
 


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.