رسميًا الآن.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصرى اليوم الأربعاء 12-6-2024 فى البنوك    الأقوى في شبه الجزيرة الكورية، زلزال يضرب جنوب غربي سيئول    نقيب الصحفيين الفلسطينيين: موقف السيسي التاريخي من العدوان على غزة أفشل مخطط التهجير    لتخفيف حدة الموجة الحارة، رش المياه بمحيط مدارس الشرقية قبل انطلاق امتحانات الثانوية (صور)    الأصعب لم يأت بعد.. الأرصاد تحذر من ارتفاع الحرارة اليوم    نبوءة ليلى عبداللطيف وتهنئة حسام حبيب .. أسباب دفعت شيرين عبد الوهاب لصدارة الترند    هل يشترط صيام يوم عرفة بصوم ما قبله من أيام.. الإفتاء توضح    ماذا يحدث داخل للجسم عند تناول كمية كبيرة من الكافيين ؟    جدول مباريات اليوم الأربعاء.. الجولة الرابعة من الدورة الرباعية المؤهلة إلى الدوري المصري    ارتفاع أسعار النفط وسط تفاؤل بزيادة الطلب    محاكمة عصام صاصا في اتهامه بتعاطي المخدرات ودهس عامل.. اليوم    دون إصابات.. إخماد حريق عقار سكني بالعياط    اتحاد الكرة يحسم مشاركة محمد صلاح في أولمبياد باريس 2024    عاجل- أسعار الفراخ البيضاء في بورصة الدواجن اليوم الأربعاء 12-6-2024    «مشكلتنا إننا شعب بزرميط».. مصطفى الفقي يعلق على «نقاء العنصر المصري»    حكم الشرع في خروج المرأة لصلاة العيد فى المساجد والساحات    تتخطى ال 12%، الإحصاء يكشف حجم نمو مبيعات السيارات التي تعمل بالغاز الطبيعي    هيئة الدواء: هناك أدوية ستشهد انخفاضا في الأسعار خلال الفترة المقبلة    تأثير التوتر والاكتئاب على قلوب النساء    مقتل طفل وعدد من الإصابات في قصف إسرائيلي لمنزل في رفح    أوروبا تعتزم تأجيل تطبيق أجزاء من القواعد الدولية الجديدة لرسملة البنوك    حبس شقيق كهربا 4 أيام لاتهامه بسب رضا البحراوي    رئيس الأساقفة جاستين بادي نشكر مصر بلد الحضارة والتاريخ على استضافتها    فيديو صام.. عريس يسحل عروسته في حفل زفافهما بالشرقية    زواج شيرين من رجل أعمال خارج الوسط الفني    رئيس لجنة المنشطات يفجر مفاجأة صادمة عن رمضان صبحي    أيمن يونس: أحلم بإنشاء شركة لكرة القدم في الزمالك    عيد الأضحى 2024.. الشروط الواجب توافرها في الأضحية والمضحي    عاجل.. تريزيجيه يكشف كواليس حديثه مع ساديو ماني في نهائي كأس الأمم الإفريقية 2021    رؤساء مؤتمر الاستجابة الطارئة في غزة يدينون عمليات قتل واستهداف المدنيين    أورسولا فون دير لاين تحصل على دعم ممثلين بارزين بالبرلمان الأوروبي    هذا ما يحدث لجسمك عند تناول طبق من الفول بالطماطم    ليست الأولى .. حملات المقاطعة توقف استثمارات ب25 مليار استرليني ل" انتل" في الكيان    رسميًا.. تنسيق الثانوية العامة 2024 في 5 محافظات    خلال 3 أشهر.. إجراء عاجل ينتظر المنصات التي تعمل بدون ترخيص    الرئيس السيسي يهنئ مسلمي مصر بالخارج ب عيد الأضحى: كل عام وأنتم بخير    الكويت: ملتزمون بتعزيز وحماية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة وتنفيذ الدمج الشامل لتمكينهم في المجتمع    الفرق بين الأضحية والعقيقة والهدي.. ومتى لا يجوز الأكل منها؟    هل الأضحية فرض أم سنة؟ دار الإفتاء تحسم الأمر    البنك المركزي المصري يحسم إجازة عيد الأضحى للبنوك.. كم يوم؟    ظهور حيوانات نافقة بمحمية "أبو نحاس" : تهدد بقروش مفترسة بالغردقة والبحر الأحمر    والد طالب الثانوية العامة المنتحر يروي تفاصيل الواقعة: نظرات الناس قاتلة    بيمكو تحذر من انهيار المزيد من البنوك الإقليمية في أمريكا    رئيس جامعة الأقصر يشارك لجنة اختيار القيادات الجامعية ب«جنوب الوادي»    رمضان السيد: ناصر ماهر موهبة كان يستحق البقاء في الأهلي.. وتصريحات حسام حسن غير مناسبة    تريزيجية: "كل مباراة لمنتخب مصر حياة أو موت"    حازم إمام: نسخة إمام عاشور فى الزمالك أفضل من الأهلي.. وزيزو أفيد للفريق    63.9 مليار جنيه إجمالي قيمة التداول بالبورصة خلال جلسة منتصف الأسبوع    بالفيديو.. عمرو دياب يطرح برومو أغنيته الجديدة "الطعامة" (فيديو)    نقيب الصحفيين الفلسطينيين ل قصواء الخلالى: موقف الرئيس السيسي تاريخى    عصام السيد يروى ل"الشاهد" كواليس مسيرة المثقفين ب"القباقيب" ضد الإخوان    يوسف الحسيني: القاهرة تبذل جهودا متواصلة لوقف العدوان على غزة    وزير الخارجية الجزائري يبحث مع أردوغان تطورات الأوضاع الفلسطينية    رويترز عن مسئول إسرائيلي: حماس رفضت المقترح وغيّرت بنوده الرئيسية    حظك اليوم| الاربعاء 12 يونيو لمواليد برج الميزان    اليوم.. «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية بقرية بلة المستجدة ببني مزار    شيخ الأزهر لطلاب غزة: علّمتم العالم الصمود والمثابرة    قافلة مجمع البحوث الإسلامية بكفر الشيخ لتصحيح المفاهيم الخاطئة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصيد الحجر.. عندما يتماهى البنيان مع حياة الإنسان فى مسجد «السلطان حسن» (2) سماء مقلوبة فى الصحن وعبورها يعنى اجتياز الحياة
نشر في المصري اليوم يوم 22 - 08 - 2009

عبرنا الدهليز الطويل، الضيق، اجتزنا العسر وها نحن فى بداية اليسر، وكما أن إدراك حلاوة الفرج لا يكون إلا بعد معاناة الشدة، فإن رحابة الصحن تضىء داخلنا إذ نجد أنفسنا فى مواجهة الفراغ الرهيب، لكن.. لننتبه، هذا فضاء غير مطلق، إنه محدود، بل إن ما يجسد لا نهائيته تلك المحدودية ذاتها، فلولا الإيوانات الأربع الشاهقة الارتفاع لما كان تجسيد هذا الفراغ الذى ينطلق مباشرة إلى السماء القريبة، البعيدة.
ألسنا هنا أمام تلك الثنائية الغامضة، المستعصية على أولى الألباب منذ فجر الإنسانية، أعنى الروح والجسد، أليست هذه الجدران الحجرية الضخمة بمثابة الجسد، وهذا الفراغ فى منطقة القلب بمثابة المركز، الحجر يجسد الفضاء المبين. والفراغ يبرز قوة البنيان المتين، فهل يمكن فصل أحدهما عن الآخر؟
كلا..
لطالما تأملت هذه الأشكال الحجرية التى تحد جدران المساجد، والكنائس أيضًا، ما يسميها المعماريون بالشرافات، ولا أذكر متى ولا أين سمعت وصفا آخر لها، العرائس؟
هذه العرائس التى تختلف أشكالها من مسجد إلى آخر، فمرة تتكون من ثلاثة حدود، ومرة خمسة، أو سبعة، أحيانا تبدو كزهرة اللوتس المصرية العريقة، ومرة تبدو مجردة، تتجاور العرائس فى تساو أبدى، لا تشذ واحدة منها، إذ أتاملها أرى نفس الشكل الحجرى قد صيغ أيضا خلال الفراغ الذى يتخلل كل اثنتين، عناق المادة بالفراغ، الروح بالجسد، إذا فارقت يتحد الفراغ النسبى بالفراغ المطلق، وبقدر ما تكون بداية بقدر ما تكون نهاية.
ألا يحاكى البنيان هنا الحياة الإنسانية؟
أربعة إيوانات، متعامدة، متواجهة، مشرفة، أكبرها الشرقى، حيث التمهيد المؤدى إلى القبة، دائماً أتوقف عند نهاية الدهليز، متطلعا إلى الإيوان المواجه حيث القبلة عمقه - كما تذكر الدكتورة سعاد ماهر - ثمانية وعشرون متراً، ما يتعلق به بصرى ذلك العقد الحجرى والذى يعتبر أكبر عقد فى العالم الإسلامى، وقديما كان يضرب بإيوان كسرى المثل فى العبقرية المعمارية، حيث يقوم فى الفراغ ويعلوه عقد مقوس، عقد إيوان القبلة فى مدرسة السلطان حسن يزيد عن إيوان كسرى بخمسة أذرع، وقد وقفت يوما، منذ سنوات أمام إيوان كسرى، ويقع قرب مدينة بغداد، فى منطقة اسمها سلمان بك، وعلى الرغم من أنه كان يعد من علامات العالم القديم، خاصة قبل الإسلام، كان رمزًا للإمبراطورية الشرقية الفارسية، إلا أن ما تبقى منه لم يحدث عندى أثرا قويا، إنه مجرد طلل بال وإن بقى قائما، مرتفعا، أما مدرسة السلطان حسن فتفيض بالحياة والقوة.
العقد من الحجارة المستطيلة المتجاورة، ترتفع وتنحدر على مهل فى الفراغ، لا شىء يسندها، لا أعمدة، لا قوائم، وتتجسد هنا جرأة المصمم وسعة خياله، إن التصميم المعمارى يحتاج أيضا إلى المغامرة، ولكن أى مغامرة فى الفن سواء كان شعرا أو نثرا أو نقشا أو بناءً لابد أن تكون مستندة إلى أصول وتراث، بعد استيعاب هذا كله يتم الانطلاق لتحقيق الجديد.
يجسد هذا العقد المعجزة رغبة الإنسان فى الانطلاق، فى التحليق إلى السماوات العلا حتى وإن استخدم أصعب المواد.. الحجر.
أتجه إلى منتصف الإيوان القبلى، أجلس عند طرف أرضيته المرتفعة عن أرضية الصحن الفسيح، أى أننى أتوسط الفراغ مواجها القبلة، وهنا أكتشف خاصية أخرى لهذا البناء الهائل، فمن أى جهة يمكن استيعاب مساحته بالنظر، كذا تكوينه، فى المساجد الفارسية يقع التجزىء فيؤثر ذلك على إدراك شمولية البناء رغم صخامته، ولكن فى العمارة المصرية يلعب التجريد دوراً فى إطلاق الخيال، الجدران غير منقوشة إلا فى مواضع محددة، فى الإيوان الشرقى مثلا شريط من الجص عليه كتابة كوفية على خلفية مستوحاة من أوراق النبات، نصها: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، إنا فتحنا لك فتحا مبينا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما، وينصرك الله نصرا عزيزا، هو الذى أنزل السكينة فى قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السموات والأرض وكان الله عليما حكيما ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً». قرآن كريم.
النص القرآنى هنا جزء رئيسى من البناء، ويسهم فى إبراز الهدف منه، وبث السكينة فى النفوس، وأرواح الموتى المفترض رقودهم تحت القبة، خاصة روح من أمر بتشييد المسجد، السلطان نفسه.
الجدران إذن معظم مساحاتها خالية من الزخارف الدقيقة، ولكن هذا التجريد الذى يميز العمارة الإسلامية المصرية عامة يوحى أكثر مما يصرح به، إنه لا يغرق البصر فى التفاصيل، ولكن عن طريق الخطوط الجريئة المنطلقة تتجسد المعانى الكلية الموحية، الصحن على هيئة مربع تقريبا، طوله 34.60 متر وعرضه 32.5 متر، الأرضية مفروشة بالرخام، فى المركز تماما فسقية للوضوء تعلوها قبة خشبية تقوم على ثمانية أعمدة، كتب على القبة آية الكرسى وتاريخ الفراغ منها، هذه الميضأة تذكرنى بأخرى تتوسط مسجد السلطان برقوق فى النحاسين، والذى يكون ملخصاً معماريًا جميلاً لمدرسة ومسجد السلطان حسن.
أتأهب لعبور الصحن بعد جلسة قد تطول أو تقصر، إذ يحتوينى الفراغ، لا أدرى سببا لتردد قصيدة الشيخ الرئيس ابن سينا داخلى، والتى نظمها عن النفس الإنسانية ويقول فى بدايتها.
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة عارف
وهى التى سفرت ولم تتبرقع
إذ أصل إلى حدود الإيوان الشرقى ألتفت ناظراً إلى القبلى، الغريب أنه ما من مرة جئت فيها إلا وطالعتنى حمامتان أو ثلاث، تستقران هناك، فى أعلى العقد الحجرى قرب الشرافات، كأنهما النقطة فوق النون، حضور هذا الحمام يثير شجنا غامضا عندى، ولا أرى حمامة مطوقة إلا وتذكرت تردد هديلها ساعة الظهيرة، سواء كنت فى قريتى بجهينة حيث تتداخل أصوات الحمام برائحة الخبيز، والطمى الجاف، والبوص المكدس فوق الأسطح، يبدو أن الحمام المستقر فوق الإيوانات هنا يتخذ له مقرا فى هذا المكان القصى الذى يصعب إدراكه، كيف يرانا؟ كيف نبدو فى عيون هذا الحمام المشرف من عل.
أقف الآن فى منتصف الإيوان الشرقى، يقول الطواشى مقبل الشامى إنه سمع السلطان يقول: انصرف على القالب الذى بنى عليه عقد الإيوان الكبير مائة ألف درهم نقرة، وهذا القالب «أى الهيكل الخشبى الذى شيد حول الإيوان» مما رمى على الكيمان «أى على تلال القمامة».
قال الطواشى أيضا إن السلطان قال أيضا: لولا القول إن ملك نصر عجز عن إتمام بنائه لتركته لكثرة ما صرف عليه.
أتوقف هنا أمام باب المنبر الخشبى المغطى بالنحاس المشغول، وباب المدرسة الحنفية إلى اليمين، المدرسة الوحيدة التى يمكن الوصول إليها من داخل أحد الإيوانات، والباب المركب على النافذة المؤدية إلى القبة. لحسن الحظ أن هذه الأبواب الرائعة لم تنقل من أماكنها كما نقل الباب الرئيسى، الزخارف غاية فى الرقة والشفافية.
أيضا أمام المحراب، العميق، المزخرف بالرخام الملون، على جانبية لوحتان نقش عليهما:
«جدد هذا المكان المبارك حسن أغا خزيندار الوزير إبراهيم باشا بيد الفقير محمد سنة 1082ه».
نجتاز الباب المؤدى إلى داخل القبة، هنا بيت القصيد، الضريح الذى وضع فى الوسط مباشرة، أمام المحراب الداخلى، إنه الهدف من هذا البناء الهائل، نفس الفكرة التى تحكم منشآت العمارة المصرية العظمى كافة، فكرة الخلود، مقاومة العدم بالمادة، بالحجر، ونذكر هنا الشاعر العربى القديم الذى صرخ يوما: ليت الفتى حجر.
المفارقة الغريبة أن حسن بن قلاوون شيد هذا البنيان الهائل ليحتوى على قبره، ليدفن فيه، ولكنه قتل ولم يعثر له على جثمان حتى الآن، وبقى ضريحه خاليا منه، ولكن بقى ذكره وسيرته، وهذا ما قصده أيضا.
قبل ولوج القبة فلنتوقف قليلا عند سيرة هذا السلطان الذى لم تكن سيرته توحى بأنه سيخلف ذلك البناء العظيم.
.. دائماً مرجعى ابن إياس، عندما أشرع فى الهجرة بروحى إلى العصر المملوكى، أستخرج المراجع المعينة لى من رفوف مكتبتى، السلوك للمقريزى، النجوم الزاهرة لأبن تغرى بردى، الضوء اللامع للسخاوى، تشريف الأيام والعصور، ومفاكهة الخلان، ومصادر شتى، أقلب صفحاتها أستعيد وأستوعب، لكننى دائما أعود إلى «بدائع الزهور فى وقائع الدهور» والذى أداوم الهجرة إليه منذ ثلاثين عاما أو أكثر، لا أسمى اطلاعى على صفحاته قراءة، بل هجرة، لأننى أمتلك عبرها عصراً بأكمله تبدد، ومضى بلا رجعة، ولولا ابن إياس وغيره من مؤرخين عظام لما عرفنا شيئا عنه.
لماذا ابن إياس؟
والله لا أدرى، مع أننى أحفظ عن ظهر قلب صفحات كاملة منه يحلو لى أن أرددها عندما أكون بمفردى فى صحراء المماليك أو أجلس بمقهى فى مواجهة مدخل أثر عظيم، أو عندما أمشى من منطقة مارجرجس القبطية حتى الأزهر.
ثمة أشياء فى طريقة حكيه، فى سرده، تظل ممتنعة عن التفسير عندى، ولكنها خاصة جدا، أدركها بالحس ولا أقدر على التعبير عنها، والحديث عن ابن إياس يطول.
إذن.. سأرجع إليه بحثا عن سيرة السلطان حسن، الذى يحمل هذا البناء اسمه.
فى أحداث سنة 748 هجرية، فى صفحة 519 من الجزء الأول طبعة محمد مصطفى «وأنصح أى قارئ لابن إياس بمطالعة هذه الطبعة التى أفنى المحقق عمره فى إتمامها، رحمه الله»، تطالعنا بداية عهد السلطان حسن، يقول ابن إياس:
«.. وهو التاسع عشر من ملوك الترك وأولادهم بالديار المصرية، وهو السابع ممن ولى السلطنة من أولاد الملك الناصر محمد ابن الملك منصور قلاوون..».
بويع بالسلطنة بعد قتل أخيه المظفر حاجى، قيل إنه لما ولى الملك كان له من العمر نحو ثلاث عشرة سنة، فقط ثلاث عشرة سنة، وكم تولى الصبية كرسى السلطنة فى العصر المملوكى، حتى إنهم نصبوا طفلا رضيعا بعد وفاة والده المؤيد، وعندما دقت الطبول تحية له أصيب بصرعة وصاحبته طوال عمره، وحدث له حول بعينيه نتيجة تلك الفزعة!
وكالعادة يطالعنا مشهد تنصيب السلطان، حيث يحضر الخليفة العباسى والقضاة وكبار الأمراء، بعد تكامل المجلس استدعوا الصبى من دور الحريم، وعندما أرادوا أن يبايعوه بالسلطنة كان اسمه قمارى لكنه قال للخليفة والقضاة:
«أنا ما اسمى قمارى، إنما اسمى سيدى حسن». فقال الخليفة والأمراء:
«على بركة الله».
بدأت المراسم، باس الأمراء الأرض بين يديه، وبدأ على الفور يمارس سلطاته، وفى سنواته الأولى شح ماء النيل، وحدث الطاعون الكبير، كان الطاعون يعقب شح الفيضان عادة ولكن هذا الوباء بالذات كان فظيعاً، وعرف فى أوروبا بالموت الأسود.
يقول ابن إياس:
«وفى شهر رمضان تزايد أمر الطاعون بالديار المصرية، وهجم جملة واحدة، وعظم أمره جدا، حتى صار يخرج من القاهرة فى كل يوم نحو عشرين ألف جنازة، وقد ضبط فى مدة شهرى شعبان ورمضان من مات فى هذا الطاعون، فكان نحوا من تسعمائة ألف إنسان، من رجال ونساء، وكبار وصغار، وجوار وعبيد، ولم يسمع بمثل هذا الطاعون فيما تقدم من الطواعين المشهورة فى الإسلام».
حقا، لكم تعذب وطننا هذا، ومر بفترات شديدة الحلوكة، لذلك علمتنى قراءة التاريخ، خاصة المملوكى والعثمانى أن الشدائد تمر، ويجىء الفرج، دائماً أقول لصحبى: من يقرأ تاريخ مصر فى القرن الثامن عشر يخيل إليه أن هذا الوطن لن تقوم له قائمة، ولكن بعد أقل من قرن، ولدت دولة عظمى فى عصر محمد على باشا، هددت مقر الخلافة التركية، وتحالفت ضدها القوى العظمى كافة فى ذلك الوقت، لقد تعلم الغرب الدرس، فعندما تتماسك مصر ينطلق منها مارد جبار يؤرق الجميع، لذلك كانت المؤامرات، والاعتداءات، والقيود، والاتفاقيات، ونشاط الجواسيس، والكارهون ومن بقلوبهم مرض، حتى لا تصبح مصر قوية، مؤثرة، تقض المضاجع.
ونعود إلى زمن السلطان حسن..
فى سنة واحد وخمسين وسبعمائة، أى بعد ثلاث سنوات من بداية حكمه، يقول ابن إياس:
«جمع السلطان الأمراء، وأحضر القضاة الأربعة، ورشد نفسه وثبت رشده فى ذلك اليوم، واستعذر الأوصية من الأمراء، فأعذروا له ذلك، وسلموا إليه أمور المملكة.. »
فلما ثبت رشده، قبض على جماعة من الأمراء، وقيدهم وأرسلهم إلى السجن بثغر الإسكندرية، ويعلق ابن إياس قائلاً:
«وهذا أول تصرفه فى أمور المملكة.. »
بدأ الصبى يتصرف كسلطان حقيقى بعد أن أنهى الوصاية عليه، وبلغ سن الرشد، ولكن بعد شهور قليلة وقع المشهد الذى يتكرر كثيرا فى الزمن المملوكى، إذ لبس الأمراء آلة الحرب، وأعلنوا الثورة، وكان على رأس الفتنة الأمير طاز المنصورى، حطموا باب القلعة، وطلعوا إلى قاعة الدهيشة، وقبضوا على السلطان حسن وأدخلوه إلى قاعة الحريم!
مشهد ثورة الأمراء هذا من اللحظات الدرامية فى تاريخ القاهرة، وكثيرا ما أتخيل تلك الخيول المجهزة بالسلاح والأمراء والسيوف المشهرة، بينما دور القاهرة تغلق أبوابها، والمتاجر، والأسواق تقفر من الناس، وينتظر الجميع لمن تكون الغلبة.
ولكن الشعب لم يكن متفرجا على طول الخط، إنما كثيرا ما كان يتدخل ويحسم الصراع بين الأمراء، وقد درست الأستاذة الكويتية حياة ناصر الحجى المتخصصة فى تاريخ مصر المملوكية تلك الظاهرة فى دراسة فريدة بعنوان «أحوال العامة فى حكم المماليك» صدرت منذ سنوات.
المهم أن الأمراء عزلوا السلطان حسن بعد ثلاث سنوات وتسعة شهور قضاها فى الحكم، ولوا من بعده شقيقه صالح وتلقب بالملك الصالح صلاح الدين صالح وبعد ثلاث سنوات وثلاثة أشهر وأربعة عشر يوما، لبس الأمراء آلة الحرب مرة أخرى، ثاروا عليه، خلعوه، وضربوا مشورة فيمن يلى السلطنة، وقرروا عودة السلطان حسن إلى الحكم، أخرجوه من دور الحريم ونصبوه سلطاناً للمرة الثانية.
للمرة الثانية يتم استدعاء الخليفة الذى كان جاهزًا لتلبية الطلب، لقد تحول الخليفة العباسى بجلالة قدره، ورفعة مكانته إلى مجرد موظف عند الأمراء والسلطان، ويلاحظ الأديب الساخر محمود السعدنى أن الخليفة وصل به الحال أنه كان يرفع طلبا بين الحين والآخر يطلب فيه علاوة غلاء، وزيادة كمية اللحم المصروفة له ولعياله!
سبحان مغير الأحوال.
عاد السلطان قويا، لقد أصبح شابا، عنده خبرة بأمور الصراع فى تلك السن المبكرة.
قال الشيخ شهاب الدين ابن حجلة عنه:
«غاب كالبدر فى سحابة، وعاد إلى السلطنة كالسيف المسلول من قرابه.. »
كان من رجال الدولة الأقوياء وقتئذ الأمير شيخوا العمرى، بدأ سنة 757 فى بناء المسجد والخانقاه المتواجهين حتى الآن بشارع الصليبة قرب ميدان القلعة، لم يكن السلطان قد شرع فى بناء مسجده.
تجاه القلعة كان يقام سوق الخيل، وكان أيضا بيت يلبغا اليحياوى نائب الشام، استولى السلطان على البيت الذى كان من أجمل وأشهر بيوت القاهرة وهدمه، وأمر ببدء البناء.
ماذا كان يدور فى ذهنه عندما أقدم على تشييد هذا الصرح العظيم؟
ليتنى أعرف!
كيف تخيل المهندس العبقرى انطلاقة البناء فى الفراغ، هذه الجرأة الشاهقة، وهذا الخيال القوى، عندما بدأوا حفر الأساس وجدوا فى الرمل مرساة مركب قديم، هل يعنى ذلك أن النيل كان يمر هناك؟. تذكرنى هذه الواقعة بواقعة أخرى ذكرها المقريزى فى خططه، العثور على بقايا مركب تحت أرضية شارع المعز لدين الله، لكم تغيرت الأمكنة، ولكن عذابات الإنسان باقية.
يقول المؤرخون إن السلطان وجد كنزا فيه ذهب يوسخى، عند حفر الأساس، ومنه أنفق على البناء الهائل الذى يفوق إيوانه القبلى إيوان كسرى، ولكن قيل مثل هذا عن ابن طولون أيضا.
نسب الطواشى مقبل إلى السلطان قوله: «لولا أن يقال إن ملك مصر عجز عن إتمام بناء بناه لتركت بناء هذا الجامع من كثرة ما صرف عليه».
وهذا حق، لكن ما يثير تأملى، هو ضخامة البنيان مع أن السلطان نفسه لم يكن من السلاطين العظام، لم تطاول قامته قامة والده الناصر محمد، أو الذين جاءوا من بعده، قايتباى، برسباى، المؤيد، برقوق، ومع ذلك لم يشيد واحد من هؤلاء مسجدا يقارب مسجد السلطان حسن، ربما يعنى ذلك أن خوفو لم يكن أقوى ملوك الدولة القديمة، وفى رأيى أن الهرم وهذا المسجد يعكسان حالة إبداعية خاصة تتفجر فى الشعب المصرى الذى يفوق كمونه ما يمكن أن يبدو على السطح منه، فلا يفهمه الأغراب ولا الأقارب.
كل من مر بهذا الصرح وقف مبهوراً، متأملاً، كلهم قالوا ورددوا ما معناه أنه ليس له نظير فى الدنيا، ولنا أن نتخيل البناء فى الفراغ المحيط به، قبل بناء مسجد الرفاعى، وقبل أن تحجبه مبانى شارع محمد على القبيحة، تماما كما أخفينا أعظم آثار الدنيا، الأهرام بالمبانى والفنادق والمساكن الشعبية، حتى ليقف الإنسان الآن على بعد عشرات الأمتار منه ولا يراه!
دائمًا لا أعيش وقتى، إنما أنا راحل أبدا فى الزمان حتى تتم رحلتى، وتنغلق دائرتى، وساحات المساجد نقاط انطلاقى، ومحطات وصولى أيضا، أقف فوق موضع من الأرض، فأسأل نفسى عمن مر فوقه، ومن عبره؟
يوم افتتاح المسجد للصلاة، من حضر، ومن شهد، أجهد مخيلتى حتى أكاد أرى الجمع، فأصبح واحدا منهم، أما دليلى فهو شيخى ابن إياس، حتى وإن لم يكن معاصرا وشاهداً بنفسه. لما تمت العمارة نزل السلطان من القلعة، وصلى بها صلاة الجمعة، واجتمع بها قضاة القضاة الأربعة والأمراء وهم فى كامل أبهتهم - بالشاش والقماش - وملئت الفسقية التى تتوسط الصحن والباقية حتى الآن، ملئت بالماء المذاب فيه السكر والليمون، وقف عليها جماعة من السقاة يفرقون الليمونادة على الناس بالطاسات السلطانية.
أكاد أشم عبير المشروب، وأصغى إلى رنين الطاسات إذ تحتك ببعضها.
بعد الصلاة أخلع السلطان على كل من شارك فى البناء أى قدم إليهم أوسمة العصر، وكانت من الملابس، قدم هداياه إلى المشدّين - المشرفين - والمهندسين، والمعلمين، والمرخمين، فنانى الرخام - والسباكين، والحدادين، والمبلطين، وغير ذلك من أرباب الصنائع، حتى الفعلة، والترابة - كما يقول ابن إياس - نعم.. حتى الفواعلية أهداهم السلطان خلعا وكرمهم، ومن هؤلاء مات كثيرون تحت الردم، وإليهم دائماً يروح فكرى، كلنا نعرف خوفو، لكن من يعرف منا اسم عامل فقير ساهم فى حمل الحجر، أو حفر النقوش.
كلنا نعرف السلطان حسن، لكن.. من منا يعرف أولئك الفعلة والترابة. أولئك المجهولون الذين جاءوا وعملوا فى صمت ورحلوا إلى مجاهل التاريخ بعد أن خلفوا هذه العمارة وتلك النقوش، وهذه الظلال التى لا ترى.
إلى هؤلاء، أحن، وأرحل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.