فى شهر يوليو الماضى انعقدت القمة الخامسة عشرة لدول حركة عدم الانحياز فى شرم الشيخ، التى كانت قد تأسست فى عام 1955 بقيادة تيتو وعبدالناصر ونهرو، وكانت الغاية من تأسيسها مقاومة الاستعمار من أجل تحقيق الاستقلال. وإذا كانت الغاية رؤية مستقبلية، أى رؤية وضع قادم فالسؤال إذن: هل تحقق الوضع القادم وأصبح وضعًا قائمًا؟ أظن أن الجواب كامن فى نشأة حركة التحرر الوطنى التى أحدثتها دول قيل عنها إنها فى مجموعها تكوّن «العالم الثالث» فى مواجهة عالمين: العالم الرأسمالى والعالم الاشتراكى، وكان يقصد بالعالم الثالث ثلاث قارات: آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. ولكن مع سقوط العالم الاشتراكى الثانى لم يعُد ثمة مبرر للمحافظة على الثلاثية، لأنه لم يعُد من حق العالم الثالث البحث عن عالم ثانٍ جديد من أجل المحافظة على أن يكون فى المرتبة الثالثة، ومن هنا أصبح لدينا عالم رأسمالى، أو بالأدق عالم غربى وعالم آخر هو ما ليس كذلك. والسؤال إذن: ما هو هذا الذى ما ليس كذلك؟ أظن أن جواب هذا السؤال فى البيان الختامى للقمة، الذى أُطلق عليه «وثيقة شرم الشيخ». والسؤال إذن: ما الجديد فى هذه الوثيقة؟ سقوط مصطلحات وصعود مصطلحات: سقوط مصطلحات الاشتراكية والتحرر الوطنى والإمبريالية، إلا أن مصطلح الاشتراكية كان هو البداية والنهاية، وأنا هنا أقتبس عبارات محورية لثلاثة رؤساء، قال عبدالناصر: «إن الحل الاشتراكى حتمية تاريخية فرضتها الجماهير كما فرضتها الطبيعة المتغيرة للعالم فى النصف الثانى من القرن العشرين». وقال سيكوتورى: «إن صبغ المجتمع العالمى بالصبغة الاشتراكية مسألة حتمية»، وقال نهرو: «إن الاحتكارات معادية للاشتراكية». أما صعود مصطلحات فهو على النحو الآتى: الأزمة المالية والاقتصادية العالمية- الكوكبية (أو العولمة خطأ)- الإرهاب- التعصب الدينى. وعلى الرغم من أن التعصب الدينى يأتى فى الوثيقة فى المرتبة الرابعة فإنه فى المرتبة الأولى من حيث الأهمية، إذ دعا القادة إلى ضرورة إعداد «صك دولى» حول تصفية التعصب الدينى سواء كان على هيئة ازدراء الأديان أو التمييز بين البشر على أساس الدين أو المعتقد. والسؤال إذن: ماذا حدث حتى يأتى التعصب الدينى فى المرتبة الأولى؟ أظن أن سبب ذلك مردود إلى بزوغ الأصوليات الدينية، وحيث إن كل أصولية من هذه الأصوليات تتوهم أنها مالكة للحقيقة المطلقة فهى بالتالى معادية لبعضها البعض، ومزدرية لبعضها البعض إلى الحد الذى تنشد فيه القضاء على الأصوليات الأخرى، ومن هنا بزغ الإرهاب ملازمًا للأصولية الدينية معنويًا وماديًا. ومع ذلك فثمة سؤال: ما هو المدخل الذى يفضى إلى أن يكون الإنسان أصوليًا؟ أظن أنه الاعتقاد فى اقتناص مطلق ما. وفى هذه الحالة نقول عن قناص المطلق إنه «دوجماطيقى». وهذا المصطلح مشتق من لفظ «دوجما» والدوجما، فى معناها الأولى، ضد الشك ومع الالتزام بمذهب، وابتداء من القرن الرابع الميلادى أطلقت الكنيسة لفظ «دوجما» على جملة القرارات التى يلتزمها المؤمن وتصدر عن المجمع المسكونى المسيحى، ومعنى ذلك أن الدوجما سلطان وارد من مصدر آخر غير عقل المؤمن. ثم تبلور سلطان الدوجما فيما يسمى بعلم «المعتقد» وهو فى المسيحية يسمى علم اللاهوت، وفى الإسلام يسمى علم الكلام، وفى الأديان الأخرى يسمى بأسماء أخرى ولكنها تعنى نفس المعنى، ووظيفة هذا العلم- أيًا كان الدين الذى ينتمى إليه- تحديد مجال الإيمان، بمعنى أنك لا تكون مؤمنًا إلا إذا التزمت هذا المجال، وإن لم تلتزم فأنت ملحد أو كافر أو زنديق أو هرطيق، وأنت بذلك تستحق التأديب كحد أدنى، والقتل كحد أقصى. وقد ورد لفظ «المعتقد» فى ختام الوثيقة على أساس أنه من عوامل التعصب إذا كان سببًا فى التمييز بين البشر، وإذا كان ذلك كذلك فهل يحق لنا القول إن ثمة علاقة بين التعصب والمعتقد؟ وإذا كان ذلك كذلك فمن المسؤول عن فك الاشتباك بين التعصب والمعتقد؟ هل هم القادة السياسيون الذين شاركوا فى صياغة وثيقة شرم الشيخ؟ وإذا كان غيرهم فمن هم هؤلاء؟ أظن أن حل هذه الإشكاليات مرهون بعقد قمة أخرى تكون مخصصة لصياغة الصك الدولى ولكن بشرط عدم استبعاد إسرائيل من القمة المقترحة حتى لا تقع فى التعصب المطلوب إزالته من الشرق الأوسط فى المقام الأول ومن كوكب الأرض فى نهاية المطاف.