قارنا فى العدد الماضى بين الحيوية والحرية التى تتمتع بها أجنحة النظام الإيرانى فى التعبير عن صراعاتها وخلافاتها، والتى تصل إلى حد التنافس فى انتخابات رئاسة الجمهورية، وتعبير كل جناح عن مواقفه التى تختلف عن مواقف الجناح الآخر، داخل النظام، فى السياسات الداخلية والخارجية، وتبادل أعنف الاتهامات فيما بينهم، وبين انعدام هذه الحيوية والحرية بين أجنحة الحزب الوطنى، إلا بشكل عابر وتتخذ طابع الخلاف الشخصى، رغم أنها فى بعض القضايا تعكس خلافات حول سياسات ومصالح متضاربة تتعلق بمستقبل البلاد وشعبها. وأشرنا إلى أن أخطرها من هذه الناحية، هو الصراع داخل ما سمى بالحرس الجديد فى أمانة السياسات الذى يمثل كبار الرأسماليين والمسيطرين، وتكاد أطرافها تتحدد فى وزير الصناعة والتجارة رشيد محمد رشيد، مدعوماً بالطبع بقوى ذات شأن داخل النظام ضد مجموعة أخرى من رجال الأعمال. وأحدث المعارك المكتومة التى لم يلاحظها الكثيرون ودارت فى النصف الأول من شهر يونيو الماضى، كانت الحملة المفاجئة التى تعرض لها رشيد من جديد، شملت اتهامات خطيرة تركزت فى: 1- أنه تدخل فى اختصاصات وزراء الاستثمار والبترول والمالية والخارجية والتعاون الدولى. 2- ويتطلع إلى منصب أعلى من منصب الوزير، ويخطط لهذا الهدف. 3- ويضرب الصناعة المصرية لحساب المنتجات الأجنبية وحاول استغلال أزمة ارتفاع أسعار الحديد ضد البعض بأن أسرع بإحالة ملفه إلى جهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار التابع له، لكن تمت تبرئة الشركات وانخفضت الأسعار لانخفاض أسعار البليت، لا بسبب تدخله. 4- أن الشركات المملوكة لعائلته استفادت من سياسته فى دعم الصادرات، وأن محافظ الإسكندرية اللواء عادل لبيب يعانى منه. وكان شبحا وزير الاستثمار الدكتور محمود محيى الدين، وأحمد عز بالتحديد، واضحين خلف غبار الحملة، التى لا نعرف هل كانا محركيها؟ أم هبت بشكل تلقائى دفاعاً عنهما؟ ربكم الأعلم، لكنها تلقت وبأسرع من البرق ضربة أسكتتها فوراً، ووجهها الرئيس مبارك بنفسه عندما أعلن فجأة عن قيامه بزيارة مصنعين فى مدينة أكتوبر هما «يونيفرسال» و«شمس» وهما قائمان وينتجان فعلاً، وتمت الزيارة يوم الأربعاء الأول من الشهر الحالى، وكان بصحبته عدد من الوزراء، على رأسهم رشيد الذى تولى عملية الشرح للرئيس، ولم يكن بينهم محيى الدين الذى حضر فى نفس اليوم مع جمال مبارك اجتماعاً للجنة المرأة بأمانة السياسات، أى تم استبعاده من الحضور، كما هو واضح، اللهم إلا إذا كان حضوره اجتماع أمانة المرأة أهم. واللافت هنا أن الرئيس فضل زيارة المصنعين عن مشاركته فى أعمال مؤتمر قمة دول الاتحاد الأفريقى فى مدينة سرت بليبيا، وكان قد أعلن عن حضوره له، لكنه قرر إرسال رئيس الوزراء بدلاً منه، فاضطر لتأجيل اجتماع مجلس المحافظين الذى كان مقرراً عقده فى نفس يوم زيارة الرئيس للمصنعين، وهو ما أثار تساؤلات عديدة حول أيهما أهم زيارة مصنعين صغيرين أم المؤتمر الذى يحضره قادة الدول الأفريقية لحوض نهر النيل، وإجراء محادثات معهم حول أخطر مشكلة تواجه مصر، وهى مطالبة عدد منهم بتخفيض حصتها من المياه، وإطلاق مسؤولين مصريين تحذيرات وتهديدات بأن ذلك خط أحمر. اللهم إلا إذا كان يريد تجنب لقاء بعضهم بسبب مطالبهم بتعديل اتفاقية توزيع المياه منعاً للحساسيات، وبالتالى فإنه تم تدبير زيارة المصنعين على عجل لتكون مبرراً لعدم الحضور، وقد يكون هذا مقبولاً، وإن كان لن يمر بسهولة على القادة الأفارقة، لكن غير الممكن قبوله، هو استبعاد وزير الاستثمار مما يعزز احتمال تعمد الرئيس إظهار مساندته لرشيد للقضاء سريعاً على مشكلة أطلت برأسها ويقدر خطورتها، وليؤكد لقطاع من رجال أعمال حزبه ونظامه الذين يشتكون من رشيد أنه يسانده فى إجراءاته المتتالية التى اتخذها لمواجهة الارتفاعات الهائلة للأسعار خاصة فى الحديد والأسمنت، والتى اتخذها أيضاً بعد الأزمة الاقتصادية العالمية. وكان الوزير قد رفض مطالب لكبار منتجى الحديد، بفرض رسوم على الحديد المستورد لحماية إنتاجه، وقد نشرت «المصرى اليوم» يوم الخميس 5 مارس الماضى تصريحاً له أدلى به لزميلنا محمد هارون قال فيه رداً على هذه المطالب: «الوزارة تراعى مصلحة المستهلك فى المقام الأول وتسعى إلى أن يتمتع بانخفاض أسعار الحديد، مثلما عانى من ارتفاعها فى أوقات سابقة، ولن أرضخ للضغوط من مصنعى الحديد، أو أسمح بالمضاربة على أسعاره مرة أخرى، وأن الحديد المستورد ينافس المحلى، فى إطار المنافسة الشريفة، والمواطن الغلبان من حقه أن يشترى الحديد بالسعر العالمى، وفرض رسوم إغراق على الاستيراد يتطلب إجراءات وأدلة غير متوفرة حالياً فى الحديد. إن الناس استوت من الأسعار المرتفعة والوزارة لن تتردد فى حماية المصانع التى تأثرت بالأزمة العالمية، وفى نفس الوقت ستحمى المستهلك الذى من حقه الحصول على السلع بأسعار منخفضة». وأسرع منتجو الحديد بالرد عليه فى إعلان على صفحة كاملة فى الأخبار يوم الأربعاء 11 من نفس الشهر على شكل رسالة للرئيس يستغيثون به لحمايتهم من رشيد وسياسته التى ستؤدى لإفلاسهم وتسريح العمالة وزيادة البطالة وعدم القدرة على سداد قروض البنوك، واستنزاف العملة الصعبة فى الاستيراد، وأن رشيد لم يقم بحمايتهم بعكس ما فعلت الدول التى تصدر الحديد لمصر مثل روسيا وتركيا. وقالوا أيضاً «تقدمنا يا فخامة الرئيس بطلبات عديدة للحماية فأتانا الرد عبر الصحف فقط، بأنه لن يتم النظر إلى طلبات الصناع، لأن الهدف هو حماية المستهلك، وهل حماية المستهلك تكون بإغراق السوق المحلية بمنتجات مستوردة تستنزف احتياطيات النقد للدولة وتزيد من أرباح المستوردين على حساب المستهلك، حيث تباع بأسعار مقاربة لأسعار المنتجات المحلية، أهى حماية للمستهلك أم حماية للمستوردين وتدمير للصناعة والاقتصاد؟». ولوحظ أن أحمد عز لم يكن من بين الموقعين على الإعلان، رغم أنه أكبر المتضررين، باعتباره أكبر منتج، وإن كان هذا لا يخفى دوره معهم، إلا أنه بسبب مواقعه الحزبية كان صعباً عليه أن يشاركهم فى مناشدة الرئيس، لأن بإمكانه نقل الشكوى داخل النظام، ولا نعرف إن كان قد أثارها داخل الحزب أم لا، لكن المهم أننا أمام وقائع علنية لصراع أجنحة داخل الحزب والنظام والحكومة، فمن من هذه الأجنحة تجرأ وفعل كما فعلت أجنحة نظام الولى الفقيه فى إيران؟! ولايزال أمامنا الكثير حول صراعات رجال أعمال النظام.