توريد 16 ألف طن قمح بصوامع القاهرة.. والمحافظ: بمثابة مهمة قومية    خبراء أمريكيون: تراجع حملة بايدن لجمع التبرعات عن منافسه ترامب خلال أبريل الماضى    مباشر دورة الترقي – الترسانة ضد حرس الحدود.. سبورتنج أمام منتخب السويس    سام مرسي يتوج بجائزة أفضل لاعب في «تشامبيونشيب»    نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 الترم الثاني لمحافظة القاهرة    موعد وقفة عيد الأضحى وأول أيام العيد 2024    ضبط المتهمين باختطاف شخص بسبب خلاف مع والده فى منطقة المقطم    وزيرة التضامن تدشن مرحلة جديدة لبرامج الحماية من المخدرات بالمناطق المطورة    6 يونيو المقبل الحكم بإعدام المتهمة بقتل طفلتيها التوأم بالغردقة    هلا السعيد تكشف تفاصيل جديدة عن محاوله التحرش بها من سائق «أوبر»    رئيس هيئة تنمية صناعة التكنولوجيا: التصميمات النهائية لأول راوتر مصري نهاية العام    وزير الرى: 70 % من استهلاك المياه في الزراعة وإنتاج الغذاء    وزير التعليم العالي يبحث مع مدير «التايمز» تعزيز تصنيف الجامعات المصرية    المكتب الإعلامي الفلسطيني: توقف الخدمة الصحية بمحافظتي غزة والشمال ينذر بكارثة إنسانية    إقبال السياح على مكتبة مصر العامة بالأقصر (صور)    تضامن الفيوم تنظم قوافل طبية تستهدف الأسر الفقيرة بالقرى والنجوع    حاخامات الطائفة اليهودية فى إيران يشاركون فى جنازة إبراهيم رئيسى (فيديو)    مصر والصين تتعاونان في تكنولوجيا الأقمار الصناعية    مجلس الوزراء يبدأ اجتماعه الأسبوعي بالعاصمة الإدارية لبحث ملفات مهمة    السكة الحديد: تخفيض سرعة القطارات على معظم الخطوط بسبب ارتفاع الحرارة    تحديد ملاعب نهائيات البطولات القارية الأوروبية لعامي 2026 و2027    وزير الصحة يفتتح الجلسة الأولى من تدريب "الكبسولات الإدارية في الإدارة المعاصرة"    لمواليد برج الجوزاء.. توقعات الأسبوع الأخير من شهر مايو 2024 (تفاصيل)    صحيفة عبرية توضح عقوبة إسرائيل المنتظرة للدول الثلاث بعد اعترافهم ب«دولة فلسطينية مستقلة»    مسابقة 18 ألف معلم 2025.. اعرف شروط وخطوات التقديم    «جولدمان ساكس»: تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة لمصر ستصل إلى 33 مليار دولار    مصدر مصري رفيع المستوى: من الغريب استناد وسائل إعلام لمصادر مطلعة غير رسمية    موعد نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 بورسعيد    عاجل..توني كروس أسطورة ريال مدريد يعلن اعتزاله بعد يورو 2024    "لحصد المزيد من البطولات".. ليفاندوفسكي يعلن البقاء في برشلونة الموسم القادم    العمل تنظم فعاليات "سلامتك تهمنا" بالمنشآت الحكومية في المنيا    أبرزهم بسنت شوقي ومحمد فراج.. قصة حب في زمن الخمسينيات (صور)    تكريم نجوم الفن احتفالاً بالعيد الذهبي لجمعية كتاب ونقاد السينما    فرقة طهطا تقدم "دراما الشحاذين" على مسرح قصر ثقافة أسيوط    أدعية الحر.. رددها حتى نهاية الموجة الحارة    هربا من حرارة الطقس.. مصرع طالب ثانوي غرقا أثناء استحمامه في ترعة بأسيوط    افتتاح ورشة "تأثير تغير المناخ على الأمراض المعدية" في شرم الشيخ    مستجدات أزمة انضمام لاعبي الأهلي إلى معسكر منتخب مصر    «مواني البحر الأحمر»: تصدير 27 ألف طن فوسفات من ميناء سفاجا ووصول 742 سيارة لميناء بورتوفيق    جوارديولا: أود مشاركة جائزة أفضل مدرب بالدوري الإنجليزي مع أرتيتا وكلوب    بإجمالي 37.3 مليار جنيه.. هيئة قناة السويس تكشف ل«خطة النواب» تفاصيل موازنتها الجديدة    الأزهر يطلق صفحة مستقلة بفيس بوك لوحدة بيان لمواجهة الإلحاد والفكر اللادينى    مرفق الكهرباء ينشر ضوابط إستلام غرفة المحولات للمنشآت السكنية    الأكبر سنا والمربع السكني.. قرارات هامة من «التعليم» قبل التقديم للصف الأول الابتدائي 2024    فدوى مواهب تخرج عن صمتها وترد على حملات المهاجمين    سفير الاتحاد الِأوروبى بالأردن: "حل الدولتين" السبيل الوحيد لحل القضية الفلسطينية    رئيس فرنسا يفشل فى اقناع بيريز بالتخلى عن مبابى فى أولمبياد باريس 2024    الصحة: برنامج تدريبي لأعضاء إدارات الحوكمة في مديريات الشئون الصحية ب6 محافظات    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 22-5-2024 في المنيا    رئيس جهاز مدينة 6 أكتوبر يتابع أعمال التطوير بالقطاعين الشرقي والشمالي    طلاب جامعة القاهرة يحصدون المركزين المتميز والأول فى مسابقة جسر اللغة الصينية    هكذا تظهر دنيا سمير غانم في فيلم "روكي الغلابة"    5 نصائح غذائية للطلاب خلال فترة الامتحانات من استشارية التغذية    البيت الأبيض: إسرائيل وافقت على طلبات أمريكية لتسهيل إيصال المساعدات إلى غزة    طريقة صنع السينابون بالقرفة.. نكهة المحلَّات ولذَّة الطعم    هل تقبل الأضحية من شخص عليه ديون؟ أمين الفتوى يجيب    اجتماع الخطيب مع جمال علام من أجل الاتفاق على تنظيم الأهلي لنهائي إفريقيا    هل ملامسة الكلب تنقض الوضوء؟ أمين الفتوى يحسم الجدل (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المصرى اليوم تنشر رواية «بيت الدكر» للكاتب الصحفى محمود الكردوسى (9) برزخ


لون البعث
الحكاية أن «سلام العُدُر» نفحة من تاريخ أسيوط. وأسيوط فى قاموس جوتييه تعنى «سيوت»، وهو اسم قبطى قريب من الاسم المصرى القديم «سوات». وفى معجم الحضارة المصرية القديمة «وبواوت»، أى «حارس الطريق».
وقد أخطأ علماء الحيوان عندما خلطوا بين «ابن آوى» (الذى ليس له وجود حقيقى فى مصر) وذلك النوع من الكلاب الجائلة المعروف علمياً باسم «كانيس لوباستر»، أى الكلاب الذئبية أو البرية. والأرجح أن الروم أطلقوا على أسيوط «مدينة الذئب» لهذا السبب.
وقد كانت هذه السلالة الأرستقراطية المنبوذة بمثابة الصورة الأرضية لإله أسيوط، أى «حارس الطريق». ولما كان إخوة هذا الحيوان البرى يجولون فى أطراف الهضبة الجافة وفى وادى النيل فقد ساد الاعتقاد بأنه التمثيل الحقيقى ل«أنوبيس»، أى «ابن آوى».
والثابت فى الميثولوجيا المصرية أن «ابن آوى» هو الإله الجنائزى، محنط الموتى ومرشدهم، أى الذى كان يحمل الأرواح ويسير بها فى الطريق المؤدى إلى الصحراء، وقد ألبسه الفنان القديم، وكذلك بقية الكلاب الجنائزية الأخرى، أثواباً تشبه «الراتينج الأسود» الذى كان يستعمل فى التحنيط.. وهكذا أصبح الأسود لون البعث وليس الحداد.
[3]
■ ■ يا أنا يا الكلب فى البيت!
لاحظت فاخرة أن علاقة حفيدتها حانز بالكلب غير ودية: يجلس المطشى كما تسميه على عُكَة ذيله متحفزاً، ويلاحق البنت بعينين متوجستين. وكلما اقتربت منه ركبته العفاريت وكشر عن أنيابه وشب محاولاً الإفلات من السلسلة، حتى وقع المحظور، وانفلت فى ذلك اليوم، وعضها فى فخذها، فظلت تبكى حتى أغمى عليها.
منذ توفى عبد الواسع وفاخرة تلح على سمانى أن يشوف حلاً فى موضوع الكلب قبل أن يتسبب فى مصيبة، وفى كل مرة يتجاهلها ولا يفعل شيئاً. لكنها أقسمت هذه المرة بمقام الحلفاوى أن تقتله حتى لو اضطرت إلى بيع وزة لتشترى له سماً، فغلى الدمُ فى عروق سمانى، وأقسم أن يتخلص من كل الوز الذى فى البيت ليؤدبها.
كان المشهد صاخباً وهيستيرياً، وكانت الجاموسة تقطع اجترارها أحياناً وتتطلع إلى ما يجرى بعينين أثقلهما نعاس القيلولة، بينما جلس الكلب على عُكَة ذيله، وطرطق أذنيه، وراح ينبح بين الحين والآخر نباحاً جنائزياً مقبضاً.
زنق سمانى جوقة الأوز فى ركن فاستسلمت لمصيرها، ثم راح يقبض على رقبة كل وزة ويضربها ضربة واحدة محكمة فى عامود يتوسط صحن البيت، فتنكتم وتسقط جثة هامدة: إحدى عشرة أوزة ألقيت جثثها أمام عينى نواعم، على الجانب الآخر من الجسر.
ندبت فاخرة وهجمت على سمانى، ثم كلبشت فى قب الجلابية وصرخت فى وجهه:
■ خربت البيت وكبيت الزيت يا صايع يا خربان!. ليل ونهار بارك على الدكة زى البطيحة ومستحملينك.. وآخر المتمة تفش غلك فى الوزات اللى نافعينا!.
دفع سمانى فاخرة فى صدرها ليتخلص منها، فسقطت على الأرض. ولحسن الحظ أن هضبة دخلت فى اللحظة نفسها، فألقت شُقَتها على الدكة وهى متلهوجة، ثم مالت على أمها وأخذتها فى حضنها وتطلعت إليه وقالت بنبرة غضب:
■ ■ تمد ايدك على أمك يا جاك الحلبة المربوبة!
ثم دخل مخيمر بحمارة الجراو فلم يتمالك أعصابه، وسحب الزقلة من وراء البوابة وناول أخاه اثنتين متتاليتين خاطفتين فى ظهره. وقبل أن يشتبك الاثنان انشقت الأرض عن فاخرة ووقفت بينهما بجسمها وهى تردد:
■ ■ موتونى يا وِلد عبد الواسع.. موتونى بدل ما تداووا فضيحتكم وتاخدوا تار أبوكم!.
كانت فاخرة تتكلم ووجهها ناحية سمانى، بينما كلبشت نواعم فى ذراع مخيمر وهى تتوسل:
■ ■ سايق عليك النبى يا سيدى تقعد ع الدكة.
استجاب مخيمر لتوسلات نواعم، وجلس على الدكة وهو يراوح بين الغل والندم. أما سمانى فقد قرفص فى صحن البيت سانداً ظهره على خدة باب غرفة فاخرة.
بعد دقائق حضر خلف تكفا، ثم حضر سيدنا، ثم حسنين عبد الحق. وبعد أن سمعوا شهادة نواعم قرروا أن سمانى غلطان:
■ ■ مال الوز ومال الكلب اللى عض حانز!.
ومخيمر غلطان:
■ ■ حد يضرب أخوه اللى أكبر منه!.
وجبروا خاطر فاخرة بكلمتين:
■ ■ عوضك على الله.. بعزنها كلت توكسوفين.
لكن المشهد الأكثر تشويقاً لم يأت بعد.
هدأت الأمور وانصرفت نواعم. وبعينيها اللتين سيأكلهما الدود يوم القيامة رأت تكفا مرت بهلول الزاهى تنقض على الوليمة ككلاب السكك. وتقسم نواعم بحرمة المقام أنها رأت فى يد تكفا سكيناً، وأنها كانت تقلب فى الجثث بحثاً عن وزة لا تزال فيها بقية من حياة. وعندما تبين لها أن الوز مات وشبع موتاً، ملأت شوالاً وطلبت منها - من نواعم - أن تساعدها فى حمله، لكن نواعم اشمأزت وأبت.
وفى المساء، ذهب سيدنا إلى عسكرية ومعه الحجاب الذى كتبه لسنوسى كما طلبت، فسألته عما حدث بعد ذلك، فقال إن تكفا أغلقت بابها على نفسها وأشعلت كل الكوانين وطبخت كما لم تطبخ من قبل: الكبد والقوانص فى قعباية، والأجنحة والرجول فى قعباية أخرى، وبقية الوز سلقته فى حلة ضخمة وطبخت بشوربتها ملوخية خضراء.
وقال خلف للأسطى بخواجى، وكانا فى غرفة المكن ينظفان بعض أجزاء الببور، إنه مر على تكفا بالصدفة فى اليوم التالى، ولم يكن قد علم بما جرى، فطلبت منه أن يبقى ليتغدى معها على غير عادتها، فاستغرب وتوجس، لكنه وافق وفى ذهنه أن الغداء لن يزيد على بيضة بدهانة ودنشة جبنة قديمة وبتاوتين عيش قمح. لكن تكفا فاجأته بوليمة لم ير مثلها فى حياته. وبدلاً من أن يفرح ويهجم على الأكل هجم عليها وهو لا يصدق أنها وصلت إلى هذا الحد من التخريف:
■ ■ وز ميت يا مرة يا فقرية!.. اتهوستى!.
ردت تكفا بهدوء وهى تضع أمامه قعباية المرق:
■ ■ ميت ولا صاحى.. حد لاقى!.. كُل كُل!.
أحس خلف بالقرف من الأكل ومن سلوك أمه. وتقلصت ملامحه وهو يحكى للأسطى بخواجى كيف أنها كانت تنام فى جِف الوزة وتقزقزه كما يقزقز البنى آدم عنقود عنب:
■ ■ المهم إنت كلت ولا ماكلتش؟
بصق خلف على الأرض وقال معاتباً:
■ ■ خبر إيه إمال يا سيدنا.. ده إنت ماعدتش كاسر فى قرفتى بصلة!
أقسم خلف بمقام الحلفاوى أنه لم يضع فى فمه لقمة واحدة من هذه الوليمة، لكنه طلب من تكفا أن تعمل له كباية شاى فلم تستجب. كانت قد أتخمت وفردت ساقيها ودلدلت ذراعيها إلى جوارها، فانصرف قاصداً ببور الطحين وهو يضرب كفاً بكف. وفى اليوم نفسه، وبينما هو قابع تحت طبلية القواديس لإصلاح أحد التروس، شعر أن يداً تجذبه من الخلف، فالتفت وراءه مخضوضاً:
■ ■ حانز؟.. إيه اللى جابك يا بت الكلب؟
كان صوت المكن تحت الطبلية أعلى منه فى أى مكان آخر فلم يسمعها. لكنه أحس وهو ينظر إليها محاولاً سماعها أن التى تقف أمامه ليست حانز بت هضبة بت عبدالواسع، أجمل وأخف طفلة فى الشِق، بل هى الجنية نفسها.. الجنية التى فاجأته ذات يوم جالسة على مصطبة هنا، فى غرفة المكن، وطلبت منه أن يتزوجها.
سرح خلف قليلاً، وكانت حانز قد أدركت أنه لا يسمعها، فدست فمها فى أذنه وقالت بصوتها الطفولى الحاد:
■ ■ جدتى ماتااااااات!
قبض خلف على معصم حانز وسحبها وراءه وخرجا من تحت الطبلية. وعندما وصل إلى البيت كانت تكفا لا تزال فى مكانها وقد أحيطت بقعابى وصحون فارغة، فأدرك أن مراوحها لم تتحمل هذه الكمية من الدسم الفاسد، فماتت فى الحال:
■ ■ إيه اللى حصل يا خلف؟
ضحك خلف وقال:
■ ■ الظاهر بِشمِت!
وسكت برهة ثم تمتم فى أسى:
■ ■ خليها تغور!
 [4]
منذ بدأت السهرة وعين العمدة اليسرى ترف.
انطفأ نور الكلوب فى المندرة ثلاث مرات رغم أن الهواء واقف والحر يفرقع المقل كما يقول شيبة الحمد. تشاءم العمدة وانقبض قلبه، لأن همام سافر إلى مصر ليدفع إيجار شقة غرناطة ويشترى راديو للسراية، لكنه تأخر أكثر من اللازم، ومصر على ما يسمع تحترق، والمظاهرات فى كل مكان، والناس يموتون فى الشوارع بلا تمييز:
■ ■ تمينا متشعلقين فى الوفد لحد ما البلد غرقت!
فتحت السياسة جرحاً قديماً فى صداقة العمدة وبنيامين. لم يكن الوفد حزباً، بل سفينة أحلام جمعت الاثنين، وظلا سنوات طويلة لا يسمحان لأحد بالعبث فى هذا الجرح. لكن موجة «الهلال مع الصليب» راحت تدفع هذه السفينة من أزمة إلى أزمة، حتى تحولت الأحلام إلى كوابيس، واستقرت حطاماً فى ساحة قصر عابدين عقب أزمة الرابع من فبراير 1942.
ورداً على هذا الموقف المتخاذل انشق مكرم باشا عبيد عن الوفد وأعلن حرباً ضارية ضد زعيم الوفد مصطفى النحاس بسبب قبوله تشكيل الحكومة بأوامر صريحة من سفارة الاحتلال. وما إن انشق عن الوفد وأطلق حزباً جديداً باسم «الكتلة»، حتى انضم إليه عدد غير قليل من كبار الملاك الأقباط، وكان من بينهم بنيامين أبوالخير:
■ ■ خبر إيه يا بنيامين! ما تقعد عوج وتتكلم عدل.. الوفد برضه اللى غرق البلد ولا صاحبك أبو كتلة اللى خان الوفد والبلد مع بعض!
كانت نبرة العمدة مشحونة بغل وغلظة لم يألفهما بنيامين، وقبل أن يفيق الأخير من ذهوله.. استطرد عبد الجواد:
■ ■ صحيح.. ديل الكلب عمره ما يتعدل!
تكهرب جو القعدة، فغمز سيدنا للشيخ محمود فزاع فجلجل صوته الأجش، الخالى من أى تنغيم، ببضع آيات من قرآن ما قبل السحور. وما إن ختم حتى لم بنيامين عباءته وانصرف، عاقداً العزم على أن هذه آخر مرة يدخل فيها مندرة بيت الدكر. وعندما دخل ألماظ العبد بصينية السحور لم يكن قد بقى من الحضور- خلافاً للعمدة وسيدنا والشيخ محمود - سوى بخواجى وشيبة الحمد، بينما ظل العمدة متسمراً على دكته، مغمض العينين.
لم يسبق لسيدنا أن رأى عبد الجواد الدكر فى هذه الحالة. كان يشعر أن الرجل يغلى من داخله. قد يكون قلقاً لتأخر همام، وربما يشعر بالأسى والندم، لأنه أخطأ فى حق بنيامين، لكن الحكاية أبعد من ذلك.
لذا ما إن انتهيا من تناول السحور حتى طلب منه سيدنا أن يكون صريحاً معه، لأنه لا يصدق أن الموضوع وفد وكتلة ونحاس وإنجليز، ولا يصدق أن هذا الكلام الفاضى يمكن أن يفتح جرحاً أغلقه الاثنان منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً. لكن العمدة لم يلتفت إليه وظل صامتاً:
■ ■ الظاهر حسدناكم!
كانت مشكلة العمدة فى رمضان أن أكلته الرئيسية ليست فى الإفطار بل فى السحور، وكان يأكل أى شىء: فول وبيض.. فطير مطبق.. كنافة باللبن.. بواقى طبيخ، المهم أن يكون على المائدة رايب. لكنه فى تلك الليلة، وبسبب ما جرى بينه وبين بنيامين، نسى الرايب، أو ربما لم يهتم، وكانت النتيجة أن الأكل كبس على مراوحه وهو نائم، فهب مفزوعاً وأفرغ فى جوفه قلة ماء وهو لا يعرف إن كان مدفع الإمساك ضرب أم لا!.. لقد كان كابوساً خانقاً: رأى نفسه فى حشد من رجال ونساء بلا ملامح، ولا يعرف إن كانوا فى عرس أم مأتم، وبين يديه بقوطة يغرف منها لحماً نيئاً يوزعه عليهم وهم يتصايحون ويطلبون المزيد:
■ ■ نايبى يا عمدة!
اللحم النيئ فى المنام فأل سيئ، كما قال له سيدنا فى صباح اليوم التالى، لذا قضى بقية النهار متوجساً، وذهب بذهنه مذهبين: إما أن همام- بعد الشر - سيعود من مصر فى عربة سوداء، وإما سينزل الجنين من بطن عسكرية ميتاً، أو- بعد الشر- ينزل حياً وتلقى هى وجه ربها. لكن همام عاد بسلام، وجلجل صوت الراديو فى أنحاء السراية ونزل الجنين حياً، قابضاً على الدنيا، وخرجت عسكرية من لجتها بعمر جديد:
■ ■ مبروك يا سيدى.. ولد يا سيدى ولد.
انتفض همام والعمدة، وهرول الاثنان إلى عسكرية فى محرابها. خجلت وحاولت أن تنهض فاستحلفها عبد الجواد ألا تتحرك. رفع طرحة الشيفون من على وجه المولود وصلى على النبى وأخرج من سيالته كبشة فلوس، بعثرها فوق وحول جسمه، حتى لم يعد ظاهراً منه سوى وجه أحمر كالكبدة، وقبضتان مضمومتان بإحكام:
■ ■ سميتوا ولا لسه؟
ردت عسكرية بإعياء:
■ ■ إنت اللى تسمى.. وانت اللى تصلى ع النبى.
فكر عبد الجواد قليلاً ثم قال:
■ ■ الليثى.. الليثى همام عبد الجواد همام الدكر.
ومن شرفة الغرفة أطلق تسع رصاصات فى الهواء، ووعد بأن يكون العيد فى البلد هذه السنة عيدين: عيد رمضان وعيد قدوم حفيده الثالث. ورغم أنه كان قد أقسم ألا يطحن غلاية قمح واحدة فى ببور البلد، بسبب خلاف بيت الدكر مع الغرابلية، واعتاد من وقتها أن يرسل طحينة إلى ببور صغير فى كوم الخامض، إلا أنه حنث بالقسم هذه المرة، لأن كمية الطحين كانت أكبر من طاقة هذا الببور.
اضطر بخواجى فى الأيام الخمسة الأخيرة من رمضان إلى تشغيل قواديس الببور الثلاثة دفعة واحدة. وقبيل سحور ليلة السابع والعشرين، كبش حفنة دقيق وحركها بين أنامله، فلاحظ أنها لا تزال خشنة، فأحضر أجنتين وقدومين، وقرر وقف هذا القادوس وفك حجريه لإعادة نقشهما.
نده على خلف تكفا وطلب منه أن يمسك ذراع ال»ملاوينا»، ثم نزل تحت الطبلية لفصل تروس القادوس.
كان خلف وفقاً لروايته يتطوح من أثر النوم. خيل إليه أنه سمع كلمة «ملاوينا». حرك الذراع قبل أن يخرج بخواجى من غرفة التروس، لكنه أحس أنها أثقل من كل مرة. خيل إليه أيضاً أنه سمع كلمة «حاسب».. لكن الصوت كان مكتوماً. وعندما أفاق كان كل شىء قد انتهى: لهف السير ذيل جلابية بخواجى. سحبه بسرعة وبقوة هائلتين إلى الحدافة، فمزقته أشلاء تناثرت فى أضابير غرفة المكن، وظل سيدنا أسبوعاً كاملاً وهو يلاحقها إصبعاً إصبعاً ونسيلة نسيلة، ثم وضعها فى مقطف طحين وأغلق بوابة الببور وانصرف فى هدوء.
 [5]
هذا ليس بلداً.. بل مماتة!.
شد عبد الجواد الدكر طرفى عباءته على حياة صاخبة كان خلالها كبيراً بحق ومهيباً بحق. لم يظلم ولم يساوم، وإذا حلت العقدة فى المنشار احتكم إلى قانونه الخاص: خسارة قريبة ولا مكسب بعيد، فتراكمت خسائره: أخطأ طائر الموت عندما أخذ الحاج عمران فزاع، وكان ينبغى أن يقصف عمر فريدة. وكان بشعاً وهو يسترد الأمانة من بخواجى. وسحب النور من عينى فرعام حزناً على ميسم، فأصبح قاعاً مظلماً، خرباً. حتى عبد الواسع لم يكن يستحق هذه الميتة المخزية، رغم ما بينهما من خصومة:
■ ■ أنا السبب! أنا السبب!.
تحامل العمدة على نفسه. وبدافع من الشعور بالحب والذنب قرر فى سابقة هى الأولى من نوعها وقد تكون الأخيرة، أن ينصب لبخواجى جنازة فى مندرة بيت الدكر، وأن يتلقى فيه العزاء كأى مسلم. وقبل أن يتنفس الصبح كانت كلثوم قد قمطت رأسها كالعادة بالحردة الشيفون. قمطتها بقوة، ولطستها بطينٍ باردٍ من تحت زير المقام، ومضت إلى حيث يُزَفُ الميت. لم تسأل من الذى مات، وهل مات مسلماً موحداً أم نصرانياً كافراً، ولم يسألها أحد إلى أين هى ذاهبة!. كانت تنهب الطريق نهباً كأن فى قدميها ذاكرة. وما إن لمست عتبة السراية حتى أطلقت صرخة امرأة متمرسة، شقت جمعاً من الحريم كان يتهامس ويتعاتب ويتأمل بعضه بعضاً:
■ ■ الشِلاية وصلت.
انتفض الجمع واقفاً، والتف حولها فى دائرة شغلت غالبية صحن السراية: كلثوم فى منتصف الدائرة وقد شقت ثوبها من الصدر إلى الداير، بينما النساء من حولها يزمن. ثم راحت أجسادهن تتماوج وقد أصبحن فجأة سافراتٍ، وكلما علا أزيزهن تسارعت حركة أجسادهن. ثم بدأن يضربن خدودهن بكفوفهن ويقفزن قفزاً سريعاً منتظماً وقد أطلقن العنان لأثدائهن وأردافهن، فراحت تترجرج وتضرب فى كل اتجاه. وبعد نحو ساعة توقفن عن اللطم وجلسن فى إعياء، فدست كلثوم يدها فى عبها وبدأت فاصلاً يسلمُ فاصلاً من عديدٍ كسلاسل الذهب:
فايت على بيتى سفا كُحليه
زمقان ابويا..
ولا حديت راح ليه!.
وما إن انتهت كلثوم من وصلتها حتى جلست فى صمت وخشوع، لا تكلم أحداً ولا أحد يكلمها، حتى جاءت نواعم بمحرمة الإفطار فأخذتها وانصرفت. وفى طريق عودتها إلى المقام كلبشت حانز فى طرف شُقتها وراحت تمطرها بوابل من الأسئلة:
■ ■ من علمك هذا الكلام الحلو يا خالة؟
فترد كلثوم:
■ ■ الأيام يا ابنتى!.
تسألها حانز:
■ ■ وعلى من تبكين؟
تقول كلثوم وهى تؤرجح جسمها:
■ على كل عزيزٍ فُقِد: على الأب الذى ولى تاركاً صغاره معلقين فى كتينة الساعة. وعلى الأخ الذى لم يدخل دنيا ومات زمقاناً من أخته. وعلى الأخت التى دست سرها فى مولودها وحملت مشيمتها ورحلت. وعلى الابن الذى شيعته رصاصة غدر وهو يتقلب على زهر القطن كالفراشة.
ثم تفتح المحرمة وتفرد الأكل أمامها وتستطرد:
■ على كل من مات فى غير أوانه.
تسألها حانز من جديد:
■ ■ حتى بخواجى؟.
ترد كلثوم:
■ ■ حتى بخواجى.
تستدرك حانز:
■ ■ لكنه نصرانى يا خالة!.
فتصحح كلثوم:
■ ■ نصرانى طيب.. ولأنه طيب أحبه سيدنا.. ومن أحبه سيدنا مات فى ليلة القدر.
سبعة أيام بلياليها.
سبعة أيام وبوابة الببور مغلقة على مقطف الطحين، بينما وفود المعزين تهرول من مندرة بيت الدكر إلى مندرة بيت أبوالخير، من السابعة صباحاً إلى التاسعة مساء. سبعة أيام وعبدالجواد الدكر واقف على لحم بطنه يتلقى واجب العزاء: لا بكى ولا تكلم ولا تقلصت عضلة واحدة فى وجهه، لكنه كان يتصدع.
فلما كانت الليلة السابعة...
ذهبت نواعم العبدة بصحبة ابنها سعيد إلى ببور الطحين. فتحت البوابة وسحبته إلى الداخل وأضاءت شمعة، فانقلبت كتلة الظلام إلى فراغ معتم، تتخبط فيه بقعة ضوء لا تصنع ظلالاً ولا خيالات، لكنها تستنفر بضعفها شبح الخوف. تقدم الاثنان نحو باب غرفة المكن: خطوة للأمام واثنتان للخلف. كانت العتمة قد أصابتهما بدوخة خفيفة، كما شعرا لأول مرة أن للسكون صوتاً. لكنهما كانا محظوظين إذ عثرا على مقطف الطحين وراء عتبة الباب.
حمل سعيد المقطف دون أن يسأل نواعم عما فيه. كان كل ما يشغله أن يخرج وتنتهى هذه الليلة على خير. انتظر خارج الببور حتى أغلقت نواعم البوابة وسارت أمامه:
■ ■ ورايا ع المقام.
كان سيدنا فى انتظارها كما اتفقا. وضع سعيد المقطف على عتبة المقام، وطلبت منه نواعم أن ينصرف بسرعة، ثم طرقت الباب طرقتين متتاليتين ثم ثالثة منفردة، فأتاها صوت من الداخل:
■ ■ الباب مفتوح.
سحبت المقطف ودخلت فى صمت. وعندما اقتربت من حرم المقام.. تذكرت أنها لم تغلق الباب، فاستدارت وعادت لتغلقه فوجدته مغلقاً، فشهقت:
■ ■ مدد..
ثم لفها دوار، وأحست أنها ضئيلة وخفيفة، وأن أحداً يهز الأرض من تحتها كما يهز غربالاً، ولم تفق من هذه الحالة إلا وسيدنا أمامها.
تقول نواعم إن سيدنا رفع غطاء المقطف، فهب بخواجى واقفاً على قدميه كالعفريت. ثم خرج وهو ينفض الغبار عن كتفيه وحجره ومؤخرته، وينظر إليها مبتسماً، ممتناً، دون أن ينطق بكلمة واحدة. وتقول أيضاً إن سيدنا أخذه من يده، وتوجها إلى جبانة المقام، حيث حلت روح ميسم فى جسم كلثوم.. لتهبا أهل الربوة «مستورة»، شاعرة الجنائز التى لا يُشَقُ لها غبار. وتقول ثالثا إنها سمعت بخواجى يقول لسيدنا وهو فى الطريق إلى الجبانة:
■ ■ العمدة يطلب الإذن!.
فابتسم سيدنا ولم يعلق.
وعندما عاد إلى مندرة بيت الدكر فى صباح اليوم التالى وجد العمدة جالساً على دكته الصغيرة، محاطاً بذلك المزاج الشفاف، حيث يمكن للمرء فى لحظته الفارقة أن يميز بوضوح بين لهفة المحب وشماتة الخصم وما بينهما من نفاق.
كان مكلفتاً فى العباءة، حتى أنها بدت كالكفن.
ألقى سيدنا تحية الصباح فلم يرد ولم يحرك ساكناً، فانخرط فى حشد الواقفين:
■ ■ فاكر يا دكر!
الصوت ليس غريباً عليه. أيكون بنيامين!. نعم بنيامين. هو الوحيد الذى سمح له عبدالجواد أن يناديه بلقبه:
■ ■ فاكر أيام روض الفرج، وأم كلثوم، وشقة غرناطة!. فاكر الرقاصة اللى ضحكت عليك وخدت منك العقد الألماظ وهربت من باب الكباريه الورانى!.
فكر العمدة أن يخرج من تحت العباءة ويحتضنه ليبكيا معاً، ولآخر مرة، أيام جميلة:
هوه ده يخلص من الله..
القوى يذل الضعيف.
حتى يبخل بالمطلة..
شىء ولو دون الطفيف.
ليه ده كله..
مين يقول له..
اتهدى وخليك لطيف!
مضت بضع دقائق تفحص خلالها عبدالجواد الدكر وجه صديقه القديم، ثم رفع عينيه إلى أعلى وابتسم كعادته فأشاع بين الحضور جواً من التفاؤل، لكنه سرعان ما انزوى تحت العباءة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.