(1) بعيدا عن تفاصيل ما جرى فى العملية الانتخابية ونتائجها، فإن المعركة الدائرة فى إيران الآن تكشف لنا عن وجود اختلاف جذرى للرؤية والكيفية التى يجب أن تدار بها المجتمعات بين الفريقين المتعاركين.. فالفريق الأول والذى يمثله النخبة الحاكمة الحالية أو ما اصطلح على تسميتهم بالمحافظين يرى أن الناس فى حاجة إلى من يتولى أمرهم.. والفريق الثانى ويمثله من اصطلح على تسميتهم بالإصلاحيين يرى أن الناس من حقهم أن يتولوا أمر أنفسهم.. وتتوارى وراء هاتين الرؤيتين تناقضات اجتماعية حادة لم تستطع الثورة التى قامت من أجل الناس فى سنة 1979 أن تحلها..فالسيطرة على الناس من خلال نسق يقوم بالولاية على الناس باعتباره معصوما من جهة، ولأنه القادر على حماية النموذج من جهة أخرى، أثبت أنه مهما طال الزمن لن يستطيع أن يخفى التناقضات الأساسية الطبيعية. ومع مرور الوقت وعلى مدى ثلاثين سنة، أخذت هذه التناقضات تزداد حدة وتبين أن استبعاد منطق ولاية الناس على أنفسهم وتجميد التناقضات الاجتماعية لصالح استمرارية الثورة أمر لا يمكن أن يدوم.. لماذا؟ (2) واقع الحال أن القراءة الموضوعية تشير إلى أن هناك إشكالية بنيوية تواجه النظام الإيرانى منذ فترة، حتى منذ أيام خاتمى... ألا وهى تفاقم المشكلة الاقتصادية التى عانت منها الشرائح الوسطى المتعلمة والطبقات الفقيرة.. وفى محاولة لحل مشكلة الفقراء أخذ نجادى فى ولايته السابقة بسياسة منح الفقراء إعانات نقدية وعينية من دون أن يقابلها نمو اقتصادى حقيقى مما جعل التضخم يصل إلى ما يقرب من 25 %.. وسواء كان المحرك لهذه السياسة هو إبقاء الفقراء على ولائهم للثورة أو أن الدافع الدينى يحتم حماية الفقراء.. فإن ما ترتب على ذلك هو أن الشرائح الاجتماعية الوسطى التى حرصت على التعليم حيث بعضها يعمل ويحصل على أجر من ناتج العمل، والبعض الآخر يبحث عن عمل ولكنه لا يجد باتت تعانى من الاختلالات الاجتماعية والاقتصادية. وهنا بالضبط يكمن لب المشكلة، والتى تتمثل فى عدة ملامح: الأول: هو أن هناك نخبة تمنح نفسها امتيازات سياسية واقتصادية وفق شرعية دينية تبرر ذلك، وفئات اجتماعية تظن الثورة أنها قاعدتها الاجتماعية وهى التى قامت من أجلهم يتم تلبية احتياجاتها من خلال المؤسسات الخيرية مثل مؤسسة المستضعفين ومؤسسة الشهيد.. إلخ. وتبقى الشرائح الاجتماعية التى تريد أن تطرح رؤية مغايرة لقدم إيران وهو ما يعنى أن تسترد ولايتها على نفسها من ناحية، وأن تطرح مشروعا للتنمية يتجاوز المن والهبة.. وهو ما يدفع النخبة الحاكمة إلى استدعاء كل ما من شأنه أن يحافظ على النسق ما يعنى التناقض مع ما قام من أجله.. كيف؟ (3) لقد قامت الثورة الإيرانية فى ظرف عالمى كانت فيه أكثر من حركة بعضها دينى وبعضها الآخر مدنى ولكن جمع بينهما النضال من أجل العدل الاجتماعى، فى أكثر من سياق فى العالم الثالث، لدعم الفقراء أو المستضعفين (على شريعتى الإيرانى) والمهمشين (جوتيريز مؤسس لاهوت التحرير) وسلطة من لا سلطة لهم (فاسلاف هافيل التشيكى). بيد أن الاتجاهات المحافظة اختطفت جهود هذه الحركات ذات الطابع الاجتماعى دينية ومدنية وأممت وقدست أى تحرك من أجل نيل الحقوق وإحداث التقدم.. وعليه اختارت أكثر الرؤى الدينية تشددا لإبقاء الأمر الواقع كما هو.. وليس صدفة أن الذى استفاد من ذلك الشرائح الرأسمالية مثل الشركات فى حالة أمريكا اللاتينية والبازار فى حالة إيران.. وتحت حماية الثورة والحفاظ على النموذج الدينى لابد من أن يتولى النسق أمر الناس ويحميهم أخلاقيا.. والمفارقة التى بدأت تظهر للعيان أن هناك اجتهادات من داخل المنظومة الدينية نفسها أعلى سقفا وأكثر انحيازا للناس ومن فقهاء معتبرين مثل النائينى ومطهرى ومنتظرى.. كانت هناك مصلحة لأن تكون مستبعدة بيد أن الحراك الاجتماعى جعلها حاضرة وبقوة.. إن ما أسميته منذ عدة أشهر فى مقال لنا «تحالف القرن» ورأينا فيه مبكرا أن هناك حلحلة سوف تحدث بين تحالف الثروة والدين والذى حدث منذ 30 سنة قد بدأ وبانت تجلياته فى أمريكا اللاتينية سوف يمتد إلى الشرق الأوسط. هل سيستعيد الناس ولايتهم على أنفسهم؟