للتاريخ أحكامه وتأثيراته فى صناعة الشعوب وتحديد قيمها وسماتها، ونحو 130 عاما من الاحتلال الفرنسى كانت كافية لخلق أزمة هوية لدى الشعب الجزائرى، المنتمى إلى الوطن العربى ولا يتحدث فى مجمله العربية، كما أنه أكبر جالية غير فرنسية تعيش فى فرنسا، إلا أنه فى كل مرة يتطرق فيها الحديث إلى تكريس العلاقات الفرنسية الجزائرية تعود معه أشباح الماضى الثقيل للبلدين فى الظهور مرة أخرى. فسنوات الاحتلال خلقت حالة من الارتباط الإجبارى بين الجزائروفرنسا، إلا أن الجزائريين يرفضون الاعتراف بذلك بسبب التاريخ الأليم بين البلدين، حتى أنهم رفضوا الانضمام إلى منظمة الدول الفرانكفونية، وهى منظمة الدول الناطقة باللغة الفرنسية، رغم أنها لغة التعليم الرسمية داخل الدولة، وهو ما يؤكد حالة التناقض وعدم التصالح التى يعيشها هذا الشعب. ويعانى الجزائريون من فروقات عديدة منذ فجر التاريخ، حيث تعود جذورهم إلى قبائل البربر، ثم جاء عليهم الغزو الرومانى، يليه الفتح العربى والإسلامى، وأعقبه الاحتلال الفرنسى الذى استمر لأكثر من قرن سعت خلاله فرنسا لعزل الجزائرى عن دينه الإسلامى، ولغته العربية، وانتمائه الوطنى، وحتى بعد الاستقلال، ظل الإحساس بعدم التجانس يلاحق هذا الشعب، المنقسم حاليا بين «الأمازيغ» الذين يمثلون القبائل ذات الأصول الرومانية والبربرية، ويتسمون بصفات شكلية أقرب إلى الأوروبية عن العربية، وبين العرب، وكان الصراع دائما بينهم يدور حول من يحكم الدولة. ويؤكد الدكتور سعيد اللاوندى، خبير العلاقات السياسية الدولية، أن الشخصية الجزائرية تعانى من أزمة هوية حقيقية، لاسيما وأنها تعرضت لأطول فترة احتلال فرنسى بخلاف باقى دول المغرب العربى، فقد كانت فرنسا تعتبر هذا البلد امتدادا للأراضى الفرنسية عبر المتوسط، وحرصت على «فرنستها» بداية من اللغة وصولا إلى تدريس التاريخ والأدب الفرنسى فى المدارس فى عملية لمحو الهوية العربية من الدولة. وعقب نجاح ثورة التحرير فى الجزائر - والكلام مازال على لسان اللاوندى- كانت مصر من أولى الدول التى ساهمت فى مساعدة الجزائريين فى استعادة الهوية العربية، عن طريق إرسال مدرسين وعلماء من الأزهر، والأدباء والمفكرين ورجال الدين أمثال الشيخ الغزالى، كما أن أشهر المفكرين والكتاب الجزائريين ارتبطوا بعلاقات وطيدة مع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، إلا أنه نظرا لطول فترة الاحتلال لم تستطع الجزائر خلع الثوب الفرنسى، فضلا عن وجود جزائريين منتفعين من بقاء ارتباط الدولة بفرنسا، وهو ما خلق لدى المواطن الجزائرى نوعا من الانتماء أو الارتباط بالغرب على حساب انتمائه للعالم العربى، وأصبحت «العروبة» و«القومية»، مفاهيم دخانية بالنسبة له، ولكن ذلك لا يعنى أنه لا يعتبر نفسه ضمن الوطن العربى، وهو ما يؤكد وجود أزمة هوية يعانى منها هذا الشعب. وأضاف اللاوندى: وحاليا تعد الجزائر أكبر جالية غير فرنسية تستوطن فرنسا، فلا تخلو أسرة فى الجزائر من وجود أقارب لها يعيشون فى الضفة المقابلة من المتوسط وتحديدا مارسيليا، ولكنهم لا يعاملون على أنهم فرنسيون حيث يطلقون عليهم أصحاب «الأقدام السوداء»، وبالتالى فإن الشخصية الجزائرية التى نشأت وتربت وتعلمت التاريخ الفرنسى والأدب الفرنسى أكثر من العربى، لديها نوع من الارتباط العضوى بهذه الدولة الأوروبية فى فكرها وثقافتها، إلا أنها محسوبة على الوطن العربى دون تعايش حقيقى مع مشاكل وأحداث هذا الوطن. وأشار إلى أن تاريخ العلاقات المصرية الجزائرية لم يشهد آى توترات حقيقية، بل كانت دائما علاقات داعمة ومساندة، حتى أنه فى حرب 1973 كانت الجزائر من أولى الدول التى وقفت إلى جانب مصر. واستطرد قائلا: إن الظروف الحالية للشعب الجزائرى، مثلها مثل باقى دول العالم الثالث، جعلت من فرنسا الدولة الحلم فى الثراء وفى ظروف معيشية أفضل، فأصبح الاتجاه إلى الهجرة سمة من سمات هذا الشعب، بما خلق أجيالا ولدت فى غير بلدها وليس لها انتماء لوطن محدد. واتفق مع اللاوندى فى هذه الجزئية الدكتور علاء قطب، عضو جمعية القانونيين الفرانكفونية، موضحا أن الجزائريين منقسمون بين مواطنين داخل الجزائر وآخرين يعيشون فى فرنسا، وهم موزعون بين النخبة المثقفة الثرية، المشكلة من أبناء كبار المسؤولين الجزائريين الذين قصدوا فرنسا لإتمام تعليمهم فى جامعاتها، وبين ساكنى الأحياء الشعبية وهم «لى بيه نوار»، أى الأقدام السوداء. وأضاف قطب: ونظرا لتردى الأوضاع المعيشية لهذه الفئة لم تستطع أن توفر لأبنائها قدرا مناسبا من التعليم، بما خلق جيلا ثالثا من الجزائريين المولودين فى فرنسا وغير القادرين على الانخراط مع الفرنسيين لأن فرنسا لا تعاملهم على أنهم فرنسيون، وهم يستوطنون الأحياء الشعبية داخل فرنسا، فى حين أن الجزائريين المتواجدين داخل الجزائر منقسمون إلى أمازيغ وعرب، والفئة الأولى من الأصول الرومانية والبربر، تتبنى اتجاها مضاداً للفئة الثانية وهم العرب، لذلك هما على خلاف دائم فيما يتعلق بالاتجاهات الفكرية التى تتبناها كل فئة خاصة حول تأصيل الانتماء العربى الذى لا يحبذه الأمازيغ، وبين كيفية رسم العلاقة مع فرنسا واتخاذها مدخلا للتعاملات التجارية مع الدول الأوروبية الأخرى، وهذه الحالة من تباين الاتجاهات داخل الدولة هى التى تكرس فكرة ازدواجية الانتماء التى يعانى منها الشعب الجزائرى. من جانبها ترى الكاتبة والصحفية فريدة الشوباشى، التى أمضت 27 عاما فى فرنسا واحتكت بالعديد من الجزائريين، أن هناك قلة قليلة من الجالية الجزائرية، التى تعيش هناك، تتسم بالعنف والشراسة والتعصب فى تعاملاتها مع الآخرين، مثلهم فى ذلك مثل أى شعب فى العالم، إلا أنها ليست النسبة الغالبة منهم.