أدرك تمامًا هذا الشعور الخاص الذى يسرى فى العروق فيشيع فيها اطمئنانًا وسعادة، حينما تضع يدك فى جيبك وتُخرج «اللى فيه القسمة» وتدسه فى يده أو يدها ناظرًا للأرض مسرعًا بالانصراف حتى لا يتسرب إلى قلبك إحساس بالفضل يجرك لِلْكِبْرِ البغيض، وحتى لا يراك أحد فيظنك من المتظاهرين بفعل الخير. بهذه المقدمة الصغيرة خاطبتُ قلبك وطيبتك الفطرية، ولكنى أخصص كل ما تبقى من المقال لإقناعك بخطورة ما فعلناه جميعًا ومازال بعضنا يفعله وقد تكون منهم. وأسارع بتبرئة نفسى من الانتساب لهؤلاء الذين يتعالون حتى على المسلّمات، كفروض الأديان وأركانها، ومنها - ولا شَكَّ - الصدقات. أدعوكم، بل أحرضكم وأحرض نفسى على إخراج الزكاة المفروضة وأكثر منها لمن استطاع وَابْتَغَى بذلك خير الدنيا أو الآخرة أو كلا الخيرين معًا. لن أطيل فى تأكيد اتفاق الأديان وفطرة الإنسان على مساعدة المحتاج، ولكنى مهتم جدًّا بتعريف المحتاج الحقيقى، التعريف لابد من تحديثه بما يتناسب مع العصر الذى نعيشه. السيدات البدينات اللاتى يسددن أبواب المساجد عند الخروج من صلاة الجمعة لَسْنَ بالضرورة خيرَ مثال للمحتاج الحقيقى، وباعة المناديل الورقية والليمون والنعناع وغيرها ليسوا إلا متسولين مقنّعين لا يختلفون فى شىء عن الشحاذين، أما حملة الروشتات وشهادات العلاج وإيصالات بناء المساجد فعلامات الاستفهام حولهم كثيرة. وفيما يتعلق بالأطفال الذين نسميهم «أطفال الشوارع».. فما معظمهم إلا ثمرة حسنات عشوائية. ياه! تَذَكَّرْتُ عشوائية.. عشوائية الخير هى أحد التعبيرات التى أحب استخدامها كنقيض للحكمة وعدو يقطع طريقها، كما يقطع المتسولون الطريق على المحتاج الحقيقى. المحتاج الحقيقى هو كل محتاج تعرف حالته واحتياجاته حق المعرفة، سواء بنفسك كالجار والقريب وزميل العمل والصديق، أو من خلال من تثق فيهم من أفراد أو مؤسسات كالجمعيات الخيرية والمساجد والكنائس. بحكمة، وبعيدًا عن العشوائية والخضوع للغش والخداع وتنظيمات التسول ومحترفى التلون كالحرباء، بعيدًا عن هذا كله يمكننا القضاء تمامًا على الفقر، وأداء واجبنا نحو كل محتاج حقيقى. إن حل مشاكل الفقر.. بأيدينا. لسنا فى حاجة إلى مهارات الشرطة والقوات الخاصة أو تشريعات وقوانين جديدة ولا للخبرات الأجنبية أو البنك الدولى والأمم المتحدة، الحل ببساطة يتمثل فى ترشيد الخير، والترشيد هو إحدى صور الحكمة وأركانها. أرجوكم أن تتوقفوا فورًا عن حرمان المحتاج بإعطاء المحتال. قلوبنا جميعًا تتمزق لحال أطفال الشوارع ومصيرهم الإجرامى إذا لم نرحمهم بالتوقف عن تشجيعهم على سكنى الشارع. لا يوجد فى مصر من هو مقطوع من شجرة، حتى مجهولو النسب.. هناك دور أيتام كثيرة جدًّا تستوعبهم، والدليل أن متوسط الإشغال فيها لا يصل إلى نصف طاقتها، أما الكبار فالأبواب الشريفة مفتوحة أمامهم من خلال أكثر من عشرين ألف مؤسسة وجمعية خيرية والآلاف من صناديق الزكاة والنذور بالمساجد والكنائس.. مازال بداخلكم بعض الشك فى مشروعية دعوتى لمقاطعة الشحاذة والتسول بكل أشكالهما، وأطمئنكم بأنى لم أتجرأ على هذه الدعوة إلا بعد التأكد التام من حكم الدين على أيدى علماء ثقة. علينا أن نتعامل مع السائل بالحسنى تطبيقًا لأمر الدين «وأما السائل فلا تنهر»، فلنقل ببساطة: «متأسف، أنا لا أعرف حضرتك»، جربتها كثيرًا مجردة أو مضافًا إليها: «لى أقارب وجيران محتاجون». أما الحديث الشريف الذى يدعو إلى إعطاء السائل ولو كان على ظهر جواد، فهو يفرض علينا أن نعطى المحتاج حتى وإن بدت عليه مظاهر الثراء، وهو فى عصرنا ينطبق تمامًا على صديق يملك منزلاً وسيارةً ولكنه غير قادر على سداد مصروفات تعليم أبنائه أو جراحة تحتاجها أمه بشكل مفاجئ... إلخ.. كفانا مراوغة وتمسكًا بعادات وموروثات لا تناسب عصرنا الذى وصل فيه التزوير إلى ذروته، وأصبح الكذب والغش أبرز ملامحه. ليس صحيحًا على الإطلاق أنك تتمتع بحاسة سادسة تعينك على اكتشاف المحتاج الحقيقى وتمييزه بين المدعين. حواسك خمس والموضوع أخطر من توفير حاسة سادسة لحله. أرجوكم توقفوا اليوم، وبلغوا هذه الرسالة للجميع. بقى أن أقول لكم: إنى لا أدير جمعية خيرية أسعى لتنمية مواردها، وليس بينى وبين الشحاذين أى خصومة شخصية. [email protected]