ذكرت فى كلمة سابقة أن القرآن يفهم بالانطباع وليس عن طريق التفسير، وأنه يؤدى رسالته وهى الهداية عن هذا الطريق. وأريد أن أدل القراء اليوم على طريقة أخرى تمكنهم من أن يفهوا القرآن دون أن يلوثوا أفهامهم بما فى التفسير من افتياتات. تلك هى أن القرآن الكريم أشبه بثوب كبير مطوى عند بائع قماش، وعندما تذهب لاختيار ثوب لبدلتك، فإن البائع يحمل الثوب على يديه ويفتح منه ما يماثل نصف متر، ومن هذه المساحة تستطيع أن تحكم على لونه ونسجه، لحمته وسداه وليونته.. إلخ، فإذا أعجبك فإنك تشير للبائع فيقطع لك ثلاثة أمتار تكفى بدلتك، لا أحد يفك أو يطلب أن يفك الثوب أو أن يتحراه من أوله لآخره. ومن إعجاز القرآن أنه يضع أسراره فى آيات قصار تملك من قوة المعنى ومن جزالة المبنى ومن النظم الموسيقى ما يكفى للهداية. خذ مثلاً سورة «العصر»: «وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ». إن «وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ» تبلور سياسة المؤمن وما يأخذ من نفسه من التزام للحق وتواصى على الصبر. خذ الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة (285 و286) «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ». والقرآن حافل بالآيات والمقاطع التى إذا تدبرها قدمت إليه الهداية، بل إن الفاتحة تقوم بهذه الرسالة، والمسلمون جميعًا يكررونها فى صلواتهم ولا يتأثرون، إما لأنهم لا يعطونها قلوبهم أو لأنهم يلجأون إلى التفاسير المفسدة. والمسلم النمطى غير مكلف إلا بأن يقرأ القرآن ما استطاع، وأن يحفظ من السور والآيات ما يؤدى بها صلواته دون أن يتصور أن عليه الإلمام بالقرآن كله، فهذا ما لم يتصوره الصحابة الذين كانوا يحفظون عشر آيات، ثم يلحظون ما أثمرته فى نفوسهم، فإذا لمسوه مضوا، وإذا لم يجدوا أثرًا فلا قيمة للحفظ. إن الإسلام الحق هو الذى يحول فيه القرآن النوايا والميول والاتجاهات إلى أعمال وممارسات، وأى إسلام لا تراه فى عمل فرد ما، فلا قيمة لإسلامه، لأن القرآن يكون كلمات على طرف اللسان.