حين أفكر في تدوين شهادة، تختلط الكثير من القضايا، وأجدني أمام أشياء متشابكة ومعقدة، يتداخل الشاعر مع المثقف، وتمتزج قضايا الشعر بقضايا الواقع الاجتماعي، وتعكس الصراعات في مجال الشعر صراعات عامة، كما هو الحال في قضية صراع الأجيال مثلا. لا أستطيع الحديث عن الشاعر وأتجاهل محنة المثقف ولا أبالغ عندما أقول لا توجد لدينا طبقة مثقفة بالأساس، لدينا أفراد يمثلون دور المثقف، لكن المثقف الحقيقي عملة نادرة للغاية لا تصل أبدا إلى درجة الطبقة، لآن منظومة بناء الإنسان عاجزة عن بناء إنسان مثقف بمعنى الكلمة، ولو تحدثنا عن التعليم لوجدنا أن واجبه الأساسي هو بناء مواطن يتمتع بقدر مناسب من الثقافة، لكنه في الواقع يخلق أميِّا بدرجة ما، وعندما ننظر مثلا لمحصول كليات الآداب، وهي المتخصصة في بناء أشخاص يتمتعون بالحد الأدنى من القدرة على تذوق قصيدة، نجد الواقع يقول لنا أن القادرين على قراءة قصيدة من خريجي كليات الآداب من أندر ما يكون، الطلاب في الغالب يكرهون القصائد، وينتظرون اللحظة التي يتخرجون فيها ليتركوا أمر القصائد إلى الأبد، وقل ذلك عن سائر الفنون والآداب، فماذا ننتظر بعد ذلك؟ كيف يعلو الشاعر بالقصيدة، والواقع يحط من شأنها. المثقف الحقيقي أو المبدع الحقيقي في بلادنا يولد بالصدفة، وينمو وفق جهود شخصية وفردية، ومن ثم فالمثقفون الحقيقيون قلة، وعندما يسعدنا الحظ ويظهر مثقف يملي عليه واجبه الوطني القيام بدور ثقافي، تظهر أمامه العراقيل العجيبة والغريبة، فكل الظروف تقف حائلا أمام القيام بدوره، والفعل الثقافي لا يمكن أن يقوم على مجهود فردي، أقصى ما يملكه المثقف هو القيام بتثقيف عدد محدود جدا من الأفراد، وهذا إن كان يتمتع بقدر كبير من الصمود والإصرار، و ساعدته ظروفه الحياتية، ولم تلتهمه الأوضاع، وتحوله إلى كائن منسحق تماما. والحقيقة أن مثقف الفضائيات في الغالب لا علاقة له بالمثقف الحقيقي، الفضائيات عامرة بأشباه المثقفين، بل والجهلة، وتجار الخرافات، وأعداء التفكير النقدي، وكل المثقفين الذين عرفتهم على مدار أكثر من ربع قرن عبر القراءة أو الأنشطة الثقافية لا أجدهم في الفضائيات بشكل يكاد يكون مطلقا، إن الفضائيات تبحث في الغالب عن أوصاف معينة، وهذا في حد ذاته عامل كبير من عوامل الفساد الثقافي. وإذا انتقلنا لقضية مثل قضية صراع الأجيال، نجد أن الطبيعي هو تكامل الأجيال، والحوار الدائم بين السابق واللاحق، وبين الثابت والمتغير، لكن التواصل لا يتم بسلاسة، فيحاول السابق تجميد الأوضاع، والانغلاق، وعدم الترحيب بالمتغيرات، وهنا يتحول الحوار إلى صراع بدرجات مختلفة. والصراع يرتبط بالتطور، فهو صراع الجديد الهامشي مع السابق المهيمن، ويختلف صراع الأجيال من عصر لآخر، ومن مجتمع لآخر، فالعصر الذي يشهد تطورات سريعة، وقفزات كثيرة كما هو الحال في عصرنا يفرض صراعا حادا بين الذين استوعبوا تلك التطورات والذين لم يستوعبوها، والشباب غالبا هم أكثر تأثرا بالمستجدات لأنهم في فترة التكوين، أما الكبار فغالبا ما يكون تكوينهم قد استقر، وركنوا إلى معارفهم، ولا يمنع ذلك من وجود فئة تستوعب التطورات، وتنفتح عليها، وفي المجتمع التقليدي عموما يبدوا صراع الأجيال خافتا نظرا لاستقرار المجتمع وجموده، وكذلك في المجتمع الحديث الذي بلور شخصيته، وأسس منظومة تستوعب الأجيال والمستجدات، والمشكلة تكمن بشكل أكبر في المجتمع الذي يعيش طور الانتقال من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث، ليصبح صراعا بين قوى تريد بقاء الحال كما هو، وقوى أخرى تريد التغيير. ----------- النص| لساني للعالم أَمُدُّ لِسَاني لكلِّ شيء وأقفِزُ ضاحِكا ألاعِبُ الهواءَ والحَصَى ولا أمشي في شارعٍ مرتَيْن.
كلما عثرتُ على كلامٍ يَعبُرُ غيْرَ معتمِدٍ على حنجرة أضعُ ذراعَه على كتفي ونَمضى معا.
ما الذي يَجرحُ بائعي الخضار عندما أحكى مع الهواء أو أجمَعُ الحَصَى في كُمِّ جِلبِابي؟ ما الذي يَجرحُهم حتى يقذفوني بالثمارِ المعطوبةِ ويخَتبئونَ في النداءِ على الزبائن تاركينَ ضَحِكَاتِهم تَنزلِقُ مِن سراويلِهِم؟
لا شيءَ يُزعِجُني سِوى صوتي الأجشِّ حين يَبْتَلُّ فجأةً بأغنيةٍ لم أسمَعْهَا منذُ سنوات. كأنه كان غائبا عندما دفنتُ ذاكرتي بيدَيّ هاتَيْن عندَ الساقيةِ المهجورة. كأنه لم يَكُنْ مَعِي حين قَفَزتْ مثلَ قرموط ودُسْتُ عليها بِحذائي قبْلَ أن تَهربَ في جِذعِ شجرةٍ أو منقارِ عصفور. كأنه لم يَكُنْ مَعِي وأنا أمشى سعيدا بنواةِ النسيان وهى تذوبُ في فَمِي.
لا أسيرُ في شارعٍ مرتَيْن ولا أنامُ في موضِعٍ مرتَيْن ما حاجتي لسريرٍ يبوحُ بأحلامي عندَ أولِ صفْعَةٍ مِن مُخْبِر؟ ما حاجتي لبيتٍ تَصطادُني الأشباحُ فيه ما دُمتُ أَمُدُّ لِسَاني لكلِّ ما يُقتَنَى؟ ما حاجتي لبيتٍ ما دُمتُ لا أنوى استضافةَ آدَميينَ يُخطِّطونَ لِخيانتي بينما أُعِدُّ لَهُم أكوابَ الشاي؟
أَمُدُّ لِسَاني لبائعي الخضار لأولادٍ يَصنعونَ عُرْسَا مِن مُروري للنسوةِ في الشُّرُفَاتِ وهُنَّ يَحلُمْنَ بِغَسْلِ جِلبَابي للزمنِ الذي يتبعني محاوِلا أن يِفهمَ كيف أعثُرُ في كلِّ خطوةٍ على أفقٍ ومَسرَّة كيف أَمُدُّ لِسَاني للعالم دونَ أن يَنجحَ في وأْدِ ابتسامتي؟ ------------ * فتحي عبد السميع، شاعر وباحث مصري، ترجمت بعض نصوصه للإنجليزية وللألمانية، صدر له؛ شعر: الخيط في يدي، و تقطيبة المحارب، و خازنة الماء، فراشة في الدخان، تمثال رملي، الموتى يقفزون من النافذة. صدر له أيضًا: الجميلة والمقدس (نقد) دار الهلال 2014، القربان البديل (طقوس المصالحات الثأرية في جنوب مصر) الشهادة المنشورة في المشهد الأسبوعي الشهادة المنشورة في المشهد الأسبوعي بهية طلب http://almashhad.net/Articles/994541.aspx أحد عشر كوكبا يضيئون المشهد الشعري http://almashhad.net/Articles/994524.aspx أحمد حسن عبد الفضيل http://almashhad.net/Articles/994548.aspx أسامة حداد http://almashhad.net/Articles/994551.aspx أشرف البولاقي http://almashhad.net/Articles/994556.aspx السيد الجزايرلي http://almashhad.net/Articles/994558.aspx تقى المرسي http://almashhad.net/Articles/994562.aspx عزمي عبد الوهاب http://almashhad.net/Articles/994563.aspx علي عطا http://almashhad.net/Articles/994565.aspx