انطلاق فعاليات الملتقي التوظيفي السنوى لكلية الزراعة بجامعة عين شمس    التنظيم والإدارة: 59901 متقدم بمسابقة شغل وظائف معلم مساعد مادة    محافظ القاهرة يؤدي صلاة الجمعة بمسجد السيدة زينب    إزالة 30 حالة تعدي بأسيوط حفاظا على الرقعة الزراعية وأملاك الدولة    إطلاق مراجعات الثانوية العامة لمبادرة «تقدر في 10 أيام» بمطروح.. 29 مايو الحالي    توريد 572588 طنًا من القمح لمراكز التجميع بالشرقية    محافظ المنوفية استمرار تلقى طلبات التصالح على مخالفات البناء أيام العطلات الرسمية    تراجع اسعار الحديد بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 17 مايو 2024    تيسير إجراءات استيراد المكونات الإلكترونية للشركات الناشئة بمجال التصميم الإلكتروني    وفد جنوب إفريقيا: نأمل أن تتخذ «العدل الدولية» قرارًا بمنع تفاقم الأوضاع في غزة    إذا هوجمت رفح.. ماذا سيفعل نتنياهو بعد ذلك في الحرب؟    متحدث "فتح": نخشى أن يكون الميناء العائم الأمريكي ممرا للتهجير القسري للفلسطينيين    إصابات إسرائيلية إثر إطلاق 80 صاروخا من لبنان تجاه الجليل الأعلى والجولان    من بوابة «طلاب الجامعات».. بايدن يسعى لأصوات الأمريكيين الأفارقة بانتخابات 2024    كولر: لا نمتلك الأفضلية على الترجي.. ومباراة الغد تختلف عن لقاء الموسم الماضي    وفاة المراسل أحمد نوير.. ماذا كتب قبل رحيله عن عالمنا؟    فرق الصحة المدرسية بالقليوبية تستعد لامتحانات الشهادة الإعدادية    جمارك الطرود البريدية بقرية البضائع تضبط 3995 قرص ترامادول داخل كمبروسر    متحف الطفل يحتفي باليوم العالمي للمتاحف.. غدا    حفل ختام مهرجان المسرح وإعلان الجوائز بجامعة قناة السويس    منهم يسرا وعدوية.. مواقف إنسانية لا تنسى للزعيم عادل إمام يكشفها النجوم    «الصحة» توجه عددًا من النصائح لحماية المواطنين من مضاعفات موجة الطقس الحار    لأطفالك.. طريقة عمل ميني الكرواسون بالشوكولاتة    قافلة دعوية مشتركة بين الأوقاف والإفتاء والأزهر الشريف بمساجد شمال سيناء    لعدم تركيب الملصق الإلكتروني .. سحب 1438 رخصة قيادة في 24 ساعة    بشهادة عمه.. طارق الشناوي يدافع عن "وطنية" أم كلثوم    في يوم الجمعة.. 4 معلومات مهمة عن قراءة سورة الكهف يجب أن تعرفها    "الإفتاء" توضح كيفية تحديد ساعة الإجابة في يوم الجمعة    تفاصيل حادث الفنان جلال الزكي وسبب انقلاب سيارته    الأمن العام: ضبط 13460 قضية سرقة تيار كهربائى خلال 24 ساعة    محافظ أسيوط ومساعد وزير الصحة يتفقدان موقع إنشاء مستشفى القوصية المركزي الجديد    بحوزته 166 قطعة.. ضبط عاطل يدير ورشة تصنيع أسلحة بيضاء في بنها    روسيا: مستعدون لتوسيع تقديم المساعدات الإنسانية لسكان غزة    أحمد السقا عن أصعب مشهد بفيلم «السرب»: قنبلة انفجرت حولي وخرجت سليم    كوريا الجنوبية: بيونج يانج أطلقت صاروخًا باليستيًا تجاه البحر الشرقي    بعد 3 أسابيع من إعلان استمراره.. برشلونة يرغب في إقالة تشافي    برنامج للأنشطة الصيفية في متحف الطفل    ليفربول يُعلن رحيل جويل ماتيب    مصر تفوز بحق تنظيم الاجتماعات السنوية للبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية في 2027    هل يمكن أن يؤدي الحسد إلى الوفاة؟.. الأزهر للفتوى يجيب    الحبس والغرامة.. تعرف على عقوبات تسريب أسئلة الامتحانات وأجوبتها    مواعيد مباريات الجمعة 17 مايو.. القمة في كرة اليد ودربي الرياض    تأهل هانيا الحمامي لنصف نهائي بطولة العالم للإسكواش    انطلاق قافلة جامعة المنصورة المتكاملة "جسور الخير-21" المتجهة لحلايب وشلاتين وأبو رماد    تقنية غريبة قد تساعدك على العيش للأبد..كيف نجح الصينيون في تجميد المخ؟    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17-5-2024 في المنيا    انطلاق امتحانات الفصل الدراسي الثاني لطلاب الشهادة الإعدادية بالجيزة.. غدا    حدث ليلا.. أمريكا تتخلى عن إسرائيل وتل أبيب في رعب بسبب مصر وولايات أمريكية مٌعرضة للغرق.. عاجل    يوسف زيدان: «تكوين» امتداد لمسيرة الطهطاوي ومحفوظ في مواجهة «حراس التناحة»    بسبب عدم انتظام الدوري| «خناقة» الأندية المصرية على البطولات الإفريقية !    أستاذ تمويل يكشف توقعاته بشأن ارتفاع سعري الذهب والفائدة    مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17 مايو 2024    هانئ مباشر يكتب: تصنيف الجامعات!    برج الجدى.. حظك اليوم الجمعة 17 مايو: "جوائز بانتظارك"    " بكري ": كل ما يتردد حول إبراهيم العرجاني شائعات ليس لها أساس من الصحة    لا عملتها ولا بحبها.. يوسف زيدان يعلق على "مناظرة بحيري ورشدي"    طارق مصطفى: استغللنا المساحات للاستفادة من غيابات المصري في الدفاع    ترقب المسلمين لإجازة عيد الأضحى وموسم الحج لعام 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صور.. ماتا هاري.. شيطان في جسد امرأة
نشر في المشهد يوم 01 - 02 - 2014

قبل أسابيع نشب حريق في مدينة ليواردن الهولندية وتوسعت رقعته لتأتي النيران على عدد من المنازل المجاورة، منها المنزل الذي شهد ولادة مارغريت غيرترود زيل، الاسم الحقيقي لأشهر جاسوسة وراقصة في العالم، معروفة باسم ماتا هاري. هي الشخصية التي نضج قمرها في الربع الأول من القرن العشرين، والتي ستعود إليها الأقلام راهناً في خضم الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى. قبل أيام قليلة، خصصت إحدى القنوات التلفزيونية الأوروبية حلقة عن هذه الراقصة باعتبارها من أشهر الجاسوسات والجواسيس في القرن العشرين، التي كانت حياتها مادة خصبة لكل عشاق عوالم التجسس، والتي صوّر أكثر من 20 فيلماً سينمائياً عنها. هذه حكايتها الناقصة.
تتضارب المعلومات حول شخصية الراقصة الأسطورية ماتا هاري (1876 – 1917) وأصلها وفصلها. فمنذ عشرينات القرن الماضي تتناقل أسطورتها كتابات الأدباء والمؤرخين وكاميرات السينمائيين وحتى اعمال المسرحيين والفنانين التشكيليين. مع كل كتاب أو عمل سينمائي أو مسرحية، لمحات جديدة، غامضة، وملتبسة ومثيرة، حتى مثلت دورها أشهر نجمات السينما من غريتا غاربو إلى ماريلين ديتريتش وزازا غابور وصولاً إلى سيلفيا كريستل وفرنسواز فابيان. الآراء كثيرة حول صورة ماتا هاري. ثمة من يقول إنها كانت أقرب إلى القبح والدمامة، بحسب الصور التي وزعتها الشرطة الفرنسية بعد إعدامها عام 1917 في قصر فنسان قرب باريس، وقد ذهل الناس لشكلها، لكن مع الوقت ظلّت صورتها الساحرة ومكانتها الاسطورية هي هي شكلاً ومضموناً، وغلبت على ذاكرتهم صورها في فساتين الرقص الشرقية الساحرة، ثم صورها التي رسمها فنانون تخيلوا لحظة اعدامها. تتضارب المعلومات أيضاً حول دور ماتا هاري، فهي اعتبرت "جاسوسة الجاسوسات" في الحرب العالمية الأولى بحسب بعض الكتابات الصحافية والاستنتاجات القضائية والسينمائية، لكنها في الواقع لم تكن أكثر من جاسوسة بلهاء، وقعت بسهولة في فخّ الأجهزة التي عملت من أجلها، وأصبحت مادة شديدة الثراء للكتّاب والمؤرخين وصنّاع السينما وعشّاق السير والصحافيين، وخصوصاً أنها مزجت بين الجنس والجمال والجاسوسية والرقص الشرقي والهندي و"السالومي"، واستطاعت كما تروي سلمى قاسم جودة في كتابها "الحريم والسلطة" (سلسلة "أخبار اليوم")، أن تعيد إلى الحياة رقصة سالومي المميتة التي كان ثمنها رأس يوحنا المعمدان (النبي يحيى). أما في قصة ماتا هاري فكان الثمن رؤوس وزراء وسفراء وعروشاً ودولاً، وفي النهاية... رأسها هي!
شيطان يتلوى
لكي نتحدث عن حياة ماتا هاري وأسطورتها، ربما علينا أن نبدأ من نهايتها. فهي أقرب الى التراجيديا الروائية والأسطورية. في الليلة السابقة لإعدامها، كانت خلعت ملابسها ورقصت أمام سجينتين وراهبتين عارية تماماً، وقد قالت عنها إحدى الراهبتين: "لقد شاهدتُ شيطاناً يرقص ويتلوى. إن ماتا هاري ليست إلا شيطاناً في جسد امرأة!". أما عندما تقدم منها جندي ليعصب عينيها ويوفر عليها مشقّة مواجهة فرقة الرماية بعينين مفتوحتين، فقالت له: "لا داعي للرباط فقد تعذّبتُ بسبب جمالي، أضعاف هذا العذاب". هنا السؤال: هل ما قالته ماتا هاري هو الشجاعة والشاعرية أمام الإعدام أم أنه سذاجة راقصة، من دون أن تعرف معنى الموت والتجسس؟ هل كانت تدرك ما تقوم به هذه الراقصة؟ كثرٌ يسألون بماذا كانت تفكر ماتا التي سحرت العالم بجسدها وعريها، وهي تقف في باحة قصر فنسان الباريسي في مواجهة فرقة الإعدام؟
كان ذلك يوم 15 من تشرين الأول 1917. على الأرجح كانت الراقصة مندهشة مما يحدث لها. لم تكن تدرك ماذا تفعل، لذا تعاملت مع الأمور بما يمكن وصفه "شجاعة غير مقصودة" أو غباء امرأة شقية. فهي كانت مجرد امرأة شغفها المال والسعادة والجنس والرقص، وما بين هذه يحضر الشقاء والشيطنة بكل تجلياتهما.
يعتقد بعض المؤرخين أن ماتا هاري كانت جاسوسة حقيقية، وأنها أرسلت معلومات خطيرة إلى الألمان من طريق جمع الأسرار من عشّاقها السياسيين والضباط الفرنسيين. هناك فريق آخر من المؤرخين يعتقد أن ماتا هاري كانت في الحقيقة امرأة ساذجة وقعت ضحية لعبة الأمم. يبقى السؤال: لماذا لم يعتقلها الحلفاء مع علمهم بتجسسها لمصلحة الألمان، ولماذا سلّمها الألمان للحلفاء؟ هذه أسرار ربما ستبقى طيّ الكتمان سنوات أخرى، أي حتى عام 2017، تاريخ الإفراج عن وثائق محاكمة ماتا هاري التي لا يمكن الاطلاع عليها إلا بعد مرور قرن من الزمان، وفق القانون الفرنسي. عام 2002 ثمة من طلب من القضاء الفرنسي إعادة محاكمة ماتا هاري، منهم أستاذ فيزياء متقاعد، يدعى ليون شيرمان، تسانده بلدية مدينة ليواردن الهولندية، مسقط الجاسوسة. كتب شيرمان العديد من المقالات وأصدر مجلدات حول ملابسات التهمة التي وجّهتها السلطات الفرنسية الى ماتا هاري. كما أمضى شيرمان سنوات في تقصي الشهادات وجمع الأدلة ومراجعة الوثائق والمحفوظات القديمة للخارجية الفرنسية، وتوصل الى اقتناع مفاده ان الراقصة الهولندية كانت ضحية خطأ قضائي وأنها حُوكمت أمام محكمة تلاعبت بها الأهواء الوطنية.
الجمال الغجري
ولدت ماتا هاري (اسمها الحقيقي مارغريت غيرترود زيل) في ليواردن الهولندية. هي البنت البكر بين أربعة أطفال. كان والدها آدم زيل يمتلك متجراً لبيع القبعات، لم يكن يدرّ عليه الكثير من المال، لكنه حقق ثروة صغيرة من استثمار أمواله في صناعة النفط. كانت مارغريت ابنته الوحيدة، ويناديها ب "أميرتي الصغيرة" ويوليها اهتماماً خاصاً، عزّز لديها صفات الغرور كما جعلها تتطلع دائماً إلى جذب انتباه الرجال وتتوقع منهم دائما الاهتمام الزائد. في عام 1889 خسر والدها جميع استثماراته في صناعة النفط وأشهر إفلاسه، ومع غياب المال بدأت المشكلات بين والديها حتى وقع الطلاق بينهما وغادر الأب منزل العائلة إلى الأبد. ولم تلبث والدة مارغريت أن توفيت عام 1891، فانتقلت الفتاة للعيش في منزل جدها الذي كان متسلطاً.
عرفت مارغريتا بجمالها الغجري الذي يختلف عن الجمال الهولندي السائد والمتمثل في النساء الشقراوات. شعرت مبكراً بسحرها على الرجال، إذ ارتبطت بعلاقة مع مدير مدرستها، مما أدى إلى فضيحة انتهت بفصلها من المدرسة، على الرغم من إصرارها على أن المدير هو من استدرجها. بعد ذلك أجبرها جدّها على أن تبقى حبيسة المنزل، ولم تكن لترضخ لأوامره. في الثامنة عشرة من عمرها وجدت ضالتها في إعلان قرأته في إحدى الصحف الهولندية عن ضابط في الجيش يبحث عن زوجة. كانت مارغريت من ضمن من استجابوا الإعلان وما إن رآها الضابط رودولف ماك لويد حتى افتتن بجمالها ولم يتردد في اتخاذ قرار الاقتران بها، وهي تزوجته لأنها تريد الخلاص من العيش الممل مع جدها.
كان رودولف ماك لويد يكبر مارغريت ب 22 عاماً، لكنها لم تبالِ. تزوجا بعد ثلاثة شهور على لقائهما الأول. ثم سرعان ما بدأت المشكلات. اكتشفت مارغريت أن زوجها مدمن كحول، والطامة الكبرى هي إصابته بمرض الزهري من دون أن يخبرها بذلك. أنجبت منه صبياً وبنتاً ورافقته عندما تم نقله إلى محل عمله القديم في جزيرة جاوا الأندونيسية. هناك تفاقمت مشكلاتهما، وخصوصاً عندما علمت ماتا بارتباط زوجها بامرأة ثانية. في الوقت نفسه أصبح ماك لويد غيوراً على ماتا هاري لأنها صارت محط أنظار زملائه الضباط، بعدما وصفها احدهم كالآتي: "طريقة مشيها المغرية، عيناها السوداوان وطريقة تصفيف شعرها الفاحم، ذلك كله مجتمعا كان يبعث إلى عقول الرجال إشارات تشفّ عن طبيعتها الجنسية الشبقة. كان في إمكانها إضرام نار الشهوة في نفوس جميع الرجال ونار الحسد لدى جميع النساء. كان الجميع ينظر إليها على أنها امرأة خطرة... أنانية ولعوب".
ضبط ماك لويد زوجته مرتين في أحضان زملائه، كما انها هجرته شهوراً لتعيش بصحبة ضابط آخر. غالباً ما كانت علاقاتها بالرجال تهدف إلى إغضاب زوجها الذي كان يردّ على نزواتها بضربها. زاد النفور بين الزوجين بعد وفاة ابنهما البكر بصورة غامضة عام 1899. الزوجان زعما أن أعداءهما وضعوا السم في طعام طفليهما، لكن الرواية الأقرب إلى الواقع هي أن الطفل مات بسبب مرض الزهري الذي ورثه عن والده.
خلال سنواتها في أندونيسيا أخذت مارغريت تتعلم الرقص المحلي في محاولة للفرار من مشكلاتها اليومية. انبهرت بالشرق وانجذبت لرقصه الذي تعلمته وأتقنته وتحولت إلى راقصة شرقية بعد موت ابنها الصغير وانصراف زوجها عنها، وحفظت أسلوب المرأة الشرقية في إبراز أنوثتها.
ولادة أسطورة
عام 1902 عاد الزوجان إلى هولندا ليعيشا منفصلين (تطلقا عام 1906)، ومنع رودولف ماتا هاري من رؤية ابنتها كما نشر إعلاناً في جريدة محلية محذراً فيه من التعامل مادياً مع زوجته لأنه لا يتحمل أي مسؤولية عن سداد ديونها للآخرين. كان لهذا الإعلان تأثير مدمر على ماتا هاري، لذلك قررت السفر إلى باريس تاركةً وراءها ابنتها الوحيدة التي لن تراها مرة أخرى.
في العاصمة الفرنسية بدأت تولد أسطورة راقصة "معولمة" قبل الأوان: ألفت ماتا هاري سيرة مستعارة جديدة لحياتها، وقدمت حفلاتها الأولى في قاعة في متحف "غيمي" وقد حوّلته إلى ما يشبه المعبد الهندوسي. كانت تجيد الرقص حقاً، ولا سيما حين تكون شبه عارية، مسبلة العينين بنظرات تقول الكثير. استعانت بخبرتها في الرقص الشرقي فاخترعت ما سمّته "الرقص المقدس" الذي زعمت أن الراقصات الهندوسيات في جزيرة جاوا يمارسنه في المعابد، وكان توليفاً عجيباً بين الرقص الهندي والبوذي والفرعوني (الشرقي). زاد من جاذبيته جمال ماتا هاري والغموض الذي أحاطت نفسها به، بزعمها أنها ابنة راقصة معبد هندية ماتت أثناء ولادتها وأنها أمضت طفولتها في أدغال جاوا، وقد ساهمت ملامحها الغجرية في أن يصدّق الناس مزاعمها ويجتمع حولها المئات من المعجبين من مختلف الفئات الاجتماعية والثقافية، بعد نجاحها في إقامة الحفلات وإحاطة نفسها بالترف والبذخ واستئجارها قصر "نويّي" وأحاطته بأجواء القصور الماجنة.
لم تكن ماتا تهتم بالرقص وفق التقاليد الفنية البوذية كما كانت تدّعي. لكنها مع ذلك بدأت عملها في الصالونات الباريسية بصفة راقصة شرقية، فنجحت سريعاً، وقالت بعد سنوات: لم أكن قادرة على أداء الرقص بصورة صحيحة، لكن الناس كانوا يأتون لرؤيتي لأنني كنت المرأة الأولى التي تجرأتُ على أن تعرّي بعض مفاتنها أمام الجمهور، كلما زدت من التعري زاد نجاحي وتهافت عليَّ الكثير من المعجبين. منذ ذلك الحين اختفت مارغريت زيل ومدام ماك ليود لتحل مكانها ماتا هاري، مستندة في رقصها الى العري والخلاعة، وهما العامل الأهم في جذب الأنظار. كانت تتلوى بغنج ودلال وهي ترتدي ثوباً يشفّ عن جميع مفاتنها، وكثيراً ما كانت تبدو عارية إلا من كأسين نحاسيتين تغطيان نهديها وأساور ذهبية تطوّق معصميها وكاحليها. كانت نادراً ما تكشف عن نهديها، ليس احتشاما بالطبع، لكن لأنها كانت تعاني عقدة نقص لازمتها حتى النهاية بشأن حجم ثدييها الصغيرين.
الجاسوسة الراقصة
من باريس كانت قامت برحلة قصيرة إلى العواصم الأوروبية حيث راحت ترقص وتجمع الثروة. كان يمكنها أن تواصل رحلتها حتى النهاية لولا أنها وقعت في برلين في هوى ضابط يدعى الفرد كيبرت، ومن أجله تركت الرقص وحياة الليل. كان حباً حقيقياً لكنه لم يدم سوى عامين وجدت نفسها بعدهما وحيدة، فكان عليها أن تبدأ من جديد، ولكن سرعان ما انقطعت عن الرقص مرة أخرى، لتقاسم المصرفي الفرنسي كزافييه روسو حياته وتدمّره.
عام 1914 سنحت لماتا هاري فرصة لتحسين وضعها المالي واستعادة مجدها القديم حين تعاقدت للرقص لستة شهور على خشبة مسرح المتروبول في برلين. لكن بعد تقديمها عروضاً عدة اندلعت الحرب العالمية الأولى وتوقف عملها وامتنع الألمان عن دفع أجورها فساءت أمورها المالية، حتى أنها عجزت عن دفع أجرة الفندق الذي كانت تقيم فيه، ولم تستطع مغادرة المدينة إلا بعدما جاد عليها أحد التجار الهولنديين بثمن تذكرة القطار إلى أمستردام.
في لاهاي دخلت متاهة من نوع آخر. زارها كارل كرامر، قنصل المانيا العام في أمستردام، عاتباً عليها إهمالها نفسها وتركها الرقص. كان ذلك في أيار 1916. وكان كرامر في حقيقة أمره، ضابطاً في المكتب الثالث التابع للمخابرات الألمانية. فما الذي كان يريده منها؟ بكل بساطة كان يريد منها أن تعود لتقيم في باريس! شعرت بدهشة لأنها ستعود الى المدينة التي انطلقت منها، والثمن كان - في رأيها تلك اللحظة - بسيطاً: كان عليها أن تستخدم ما تبقى من سحرها، لجمع معلومات عسكرية تحتاج إليها المانيا.
بسرعة مدّت ماتا هاري يدها لتتلقف أول مبلغ دفعه لها كرامر مقابل خدماتها المقبلة: 20 ألف فرنك فرنسي، إضافة إلى اسم "حركي" (رمز) أطلق عليها: ه 21. بعدما توفر لديها المال حاولت العودة إلى فرنسا عبر بريطانيا لتتجنب المرور بالجبهة. في انكلترا ألقى ضباط المخابرات الانكليز القبض عليها وفتشوها واستجوبوها. كانت لديهم معلومات استخباراتية حول تجنيدها من قبل الألمان لكنهم أطلقوها وسمحوا لها بالسفر إلى فرنسا لأنهم لم يجدوا معها أي شيء يثبت أنها جاسوسة، ولم ينسوا طبعا إرسال تحذير في شأنها إلى المخابرات الفرنسية الحليفة.
يكشف الكاتب الإسباني غومير كاريلو في كتابه "حياة ماتا هاري وموتها المأسوي" أن لهذه المرأة سحراً عجيباً كان يسيطر على الرجال، وليس بين الناس امرأة مثلها تستطيع أن تحوّل الرجال عبيداً لها. لذا استمر نفوذها وسحرها على عشّاقها ومعجبيها وتعاظم حتى انفجرت الحرب العالمية الأولى.
كان نفوذ ماتا هاري على عشاقها يتسع ويتعاظم حتى الفترات التي سبقت الحرب العالمية الأولى وتلتها. فالسنوات الأولى للحرب كانت سريعة جداً وبطيئة حيناً آخر. سنة 1917، وقد ران على الجبهة ركود عام، نشرت إحدى الصحف الفرنسية في شباط نبأ اعتقال مارغريت غوترود بتهمة التجسس لصالح الألمان. وسرعان ما اكتشف الفرنسيون أنها ليست سوى تلك المرأة الفاتنة ماتا هاري التي أرسلت إلى سجن سان لازار، وعُهد إلى الكابتن شاردون التحقيق في قضيتها بعدما اختارت لها المحكمة المحامي كلوني للدفاع عنها، فتجدّدت الشائعات أثناء التحقيق حول منشأها الأصلي الذي قالت إنه الهند على ضفاف نهر مالابار وتنتسب إلى طوائف البراهمان الهندية، وخطت أولى خطواتها في معبد الإله سيوه. فقاطعها المحقق قائلا: إنك لا تدعين ماتا هاري، بل مارغريت غوترود زيل. أليس كذلك؟ فأجابته على الفور: كيف عرفتم بذلك؟ وبدأت بتفسير هويتها الأصلية.

أصلها ونهايتها
"أعترف أن اسمي الحقيقي هو مارغريت، لكنني هندية الأصل وأجيد اللغات التي سهلت مهمتي في التجسس لصالح الألمان بعدما أوقع أحد الضباط الفرنسيين بي. هام هذا الضابط بحبي حتى النخاع وسحره جسدي الممشوق ورقصي له كل ليلة. كان ذلك الضابط يدعى فرانك فرنسوا، ويأتيني بالمعلومات التي يسردها لي من دون انتباه، وهو ممدد على جسدي. والدتي هولندية الأصل وقد ماتت وأنا في سن الرابعة عشرة قبل أن يدخلني والدي إلى أحد الأديرة هناك حيث بقيت أربع سنوات ثم غادرت الدير في اتجاه إحدى العائلات التي تبنتني، وصرت شابة وتعرفت إلى الكابتن ماك ليود، الذي شغف بي وتزوجنا قبل أن يهجر بيته".
محاكمة هاري دامت شهوراً، وشغلت الرأي العام الفرنسي والأوروبي. كان النائب العام، ممثل الاتهام، يستند في اتهامه لها إلى المعلومات التي وفرتها له أجهزة مكافحة التجسس. في 21 آب 1917، حُكم على ماتا هاري بالإعدام رمياً بالرصاص، ولم تستطع التماساتها ولا أصدقاؤها من ذوي النفوذ تغيير الحكم الذي تم تنفيذه في صبيحة 15 تشرين الأول عام 1917.
الحسناء التي كانت يوماً محط أنظار رجالات أوروبا، لم ينتبه أحد لموتها ولم يتقدم أيّ شخص للمطالبة بجثتها بعد إعدامها، لذلك تم التبرع بالجثة للأغراض الطبية، في حين تم تحنيط رأسها ووضع في متحف علم التشريح في فرنسا، وقيل انه اختفى وبات أشهر من رأس نفرتيتي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.