كانت أمه تجلس أمام " الفرن " وترتجل مواويل حزينة - هذه عادة جميع نساء الصعيد في وقت " الخبيز "- لم تكن تعرف أنها تشكل الجانب الوجداني والروحي لابنها الأسمر الجالس بجوارها، وبمرور الوقت أصبح الطفل يرتجل مثل أمه بشكل عشوائي، وشيئًا فشيئًا بدأت بذور الشعر التي زرعتها فيه أمه تنبت، فكونت شاعرًا كتب لنا كلمات منذ نصف قرن تنطبق على واقعنا الحالي بكل ما يحمله من معاني. عندما كتب الشاعر عبد الرحيم منصور - ابن قرية " دندرة " في محافظة قنا - رائعته " حدوتة مصرية " في 1982 لم يكن يعرف أن كلماتها سيغنيها شباب الثورة في ميدان التحرير عام 2011، لأنها تنطبق على ما يحدث في البلد وكأنه تنبأ به حين قال: " ما نرضاش يخاصم القمر السما..ما نرضاش تدوس البشر بعضها..ما نرضاش يموت جوه قلبي نداء..ما نرضاش تهاجر الجذور أرضها..قلبي جوا يغني وأجراس تدق لصرخة ميلاد..تموت حته مني، الأجراس بتعلن نهاية بشر من العباد..دي الحكمة قتلتني وحيتني وخلتني أغوص في قلب السر..قلب الكون قبل الطوفان ما ييجي خلتني أخاف عليك يا مصر واحكيلك على المكنون..مين العاقل فينا مين المجنون..مين اللي مدبوح من الألم..مين اللي ظالم فينا مين مظلوم..مين اللي ما يعرفش غير كلمة نعم..مين اللي محنيلك خضار الفلاحين غلابة..مين اللي محنيلك عمار عمالك الطيابة.. مين اللي ببيع الضمير و يشتري و يشتري بيه الدمار ". وأتصور أن عبد الرحيم منصور كان مهمومًا بالشباب ومشاكلهم، وكان يستشرف المستقبل عندما كتب قصيدته الحزينة " شجر اللمون " مستخدمًا التشبيه البليغ بأن الشباب مثل شجر الليمون " الدبلان " على أرض مصر، وتخيل أن شاب يتحدث مع بلده التي يعشقها قائلاً فيها: " كام عام ومواسم عدوا..وشجر اللمون دبلان على أرضه..بيني وبينك أحزان ويعدو..بينى وبينك أيام وينقضوا..فينك..أنا من غيرك أنا مش عاقل ولا مجنون..أنا مطحون والدنيا رحاية..وقلب حب الحب وحباب عيون..وكل شيء بينسرق مني..العمر م الأيام..والضي م النني ". وما يدور في الشارع المصري اليوم من تشتت التفكير، وعدم معرفة الحقيقة، والخلط بين الثوار والبلطجية، والالتباس الحادث عند العامة والمثقفين حول موقف المجلس العسكري من حماية الثورة، كل هذه الأمور لخصها شاعر الجنوب الرائع في قصيدة " أشكي لمين " وكأنه يتحدث بلسان كل المصريين في الوقت الحالي؛ حيث قال فيها: " أشكي لمين واحكي لمين..دنيا بتلعب بينا..توهنا سنين ولا عارفين بكرة جايب ايه لينا..بينا للفرح بينا قبل الجراح ما تدق بابنا..بينا دي الدنيا لينا بكرة الزمان يسرق شبابنا..ليه هنضيع عمرنا ليه ايه راح ناخد من دا ايه..هما يومين مش دايمين مكتوبين علينا..نقضي ساعات فرحانين وساعات بتبكينا ". وفي رأيي أن كلمات الشاعر عبد الرحيم منصور - الذي ترك دنيانا في أغسطس 1984 - ما زالت لها مكانة وقيمة بيننا، حيث لم تبقى على ذكر الثورة الأولى سوى بضع أيام، ولا نعلم ماذا سيحدث فيها، هل ستكون كما قال منصور أجراس تدق لصرخة ميلاد؟ وأي ميلاد هذا؟ هل هو ميلاد جديد للثورة والثوار؟ أم ميلاد للمجلس العسكري؟ أم نهاية بشر من العباد؟ وهل هؤلاء العباد حكام أم محكومون؟ وهل سيزدهر شجر اللمون " الشباب " أم سيظل " دبلان " كما هو؟ وهل سنقضي ساعات " فرحانين "؟ أم الساعات " هتبكينا " على حالنا وحال بلدنا الحبيبة؟؟