قبل عامين زرت واحدة من البؤر الملتهبة في أقصى غرب دارفور، ضمن جولة لعدد من الإعلاميين الذين انطلقوا من دبي للوقوف على ما يجري في الاقليم السوداني، الواقع على مرمى حجر من الحدود الجنوبية الغربية لمصر. وقتها كانت مشكلة دارفور عنوانًا عريضًا على أجندة وسائل الاعلام الدولية، وهو ما جعل غالبيتنا يستنفر كل طاقته لإعداد الأخبار والتقارير والتحليلات التي تتناول الموضوع من كل جوانبه، خاصة وأن الرحلة إلى المنطقة كانت شاقة جهدًا، وطويلة مسافةً، ولا تخلو من المخاطرة. داخل معسكرات النازحين، تبارينا كإعلاميين في جمع الشهادات، والتقاط عشرات الصور، والحديث مع أكبر عدد من أصحاب المآسى الإنسانية، وعرض وجهات نظرهم فيما يدور حولهم وبشكل أساسي معاناتهم مع النزوح وهجر بيوتهم وقراهم التي ولدوا وتربوا فيها، إلى افتراش الأرض والتحاف السماء. عقب الجولة عدنا إلى الخرطوم، وخلال جلسة مع أحد المسؤولين السودانيين الكبار، دار الحديث عن انطباعتنا، ومشاهداتنا.. تحدث البعض عن تدهور الوضع المعيشي للنازحين، وتكلم البعض الآخرعن الأجندات الخارجية والأيادي الغربية التي تعبث في الإقليم، غير أحد الزملاء الفلسطينيين كان الأكثر تأثيرًا في الحضور وقد فاجأنا برؤيته. قال الزميل: إنه خبر النزوح، فقد عاش وهو طفل في أحد المخيمات، وعند زيارة ممثلى وسائل الإعلام للمخيم من وقت الى أخر، كان غالبية الأطفال يهرعون إليهم لالتقاط الصور، ظنًا منهم أن معاناتهم ومعاناة أسرهم ستنتهي عبر عدسات الكاميرات، غير أنهم اكتشفوا في النهاية أنهم مجرد مواد إعلامية، ربما تتحول في بعض الأحيان إلى مادة للهجوم على هذه الجهة أو تلك، فيما يبقى الوضع على ما هو عليه، نفس الأمر - قال الزميل - ينطبق على زيارتنا لدارفور، قوافل من الإعلاميين تمر، والمأساة تلاصق أجساد أصحابها. هذا الموقف أتذكره كلما تابعت وسائل إعلامنا وخاصة القنوات الفضائية التي تتناهش ما يمر به الوطن بالعقلية ذاتها التي يتناقل بها الإعلام الدولي مشاكل الأمم والشعوب، فهي مجرد مادة للإثارة، وكسب المزيد من القراء والمشاهدين، ولعل في قصة الفتاة الصغيرة "علياء المهدي" التي نشرت صورتها عارية على "الفيس بوك" خير دليل، فقد استغلت القصة أسوأ استغلال وجرى ترويجها لكسب المتابعين، ولتذهب الآثار السلبية للموضوع إلى الجحيم، لا يهم سوى كسب القراء على حساب كل القيم!! وقبل الانتخابات جرى استغلال أحداث شارع محمد محمود لتصوير الأمر وكأن مصر مقبلة على حرب أهلية، وعلت الأصوات وارتفع الصراخ، وجرى خلط الأمور، وسط غموض متعمد من الأطراف كافة، وكان الإعلام سيد الموقف، كما هي العادة: إشعال المزيد من النيران، غير عابئ بأرواح تزهق، وأجساد تجرح ودماء تراق على مذبح إعلام لا يراعي مستقبل وطن. هل بتنا نعيش في مخيم يغري وسائل الإعلام على اتخاذنا مادة ترويج بضاعة تخشى ركودها؟ ألا يدرك الإعلام أن العبث بمستقبل الوطن جريمة ما بعدها جريمة.. مصر تمر بمرحلة دقيقة من عمرها، وتواجه تحديات كبرى، غير أن غالبية وسائل الإعلام لا ترى الصورة إلا من زاوية الإثارة، وسكب الزيت على النار، ولتبقى معاناة السواد الأعظم من الفوضى وغياب الأمن كما هي. البقرة ترقد في الساحة جريحة، ولا هم للبعض إلا الحصول على القليل من لبنها، أو حتى جزء من جلدها، غير عابئ بأن البلد يوشك على السقوط في هوة من الأزمات الاقتصادية، والمعضلات الأمنية الأكثر خطرًا، بعد أن بتنا ساحة للعب الصغار والكبار إقليميًا ودوليًا. الكلمة مسؤولية، وهناك فرق بين حرية الرأي والتعبير، وبين الضرب تحت الأحزمة، بأخبار وتقارير تنطق عن الهوى، وتضمر السوء وتستهدف إشعال النيران، ودفعنا دفعًا إلى الذهاب إلى مخيمات المجهول.