قصف مدفعي إسرائيلي ل معبر رفح الآن    تقرير يرصد عدد صواريخ حزب الله التي سقطت على المنازل والمباني في شمال إسرائيل وآثارها    «عودة الموجة الحارة».. توقعات طقس اليوم الأربعاء والأرصاد تحذر المواطنين    بنص قصير وحاسم، الجزائر ستقدم مشروع قرار لمجلس الأمن لوقف المجازر في رفح    خمس دول في الناتو: سنرسل لأوكرانيا الدفعة الأولى من القذائف خلال أيام    موعد اعتزال وإمام عاشور.. أبرز تصريحات شيكابالا مع إبراهيم فايق    شيكابالا: مصطفى شوبير كلمني قبل كدا.. والشناوي أفضل حارس في مصر    شيكابالا عن كواليس حديثه مع إمام عاشور في نهائي الكأس: ما ينفعش أقول لكن هذا ما طلبه    شيكابالا: أرفض عودة إمام عاشور للزمالك.. وخسارة نهائي القرن أمام الأهلي هي الأصعب في مسيرتي    رسميًا.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الأربعاء 29 مايو 2024 بعد الارتفاع الأخير    اليوم.. الحكم علي المتهم بقتل طليقته في الشارع بالفيوم    الكيلاني تهنئ الشيخ سلطان القاسمي بجائزة النيل: نشكره على كل ما قدمه للثقافة المصرية    شيكابالا: تمنيت أن أكون مثل هذا اللاعب    ادخل اعرف نتيجتك..نتائج الشهادة الإعدادية في محافظة البحيرة (الترم الثاني) 2024    واشنطن: هجوم رفح لن يؤثر في دعمنا العسكري لإسرائيل    وزير الصحة التونسي يؤكد حرص بلاده على التوصل لإنشاء معاهدة دولية للتأهب للجوائح الصحية    عاجل.. شيكابالا يعلن موعد اعتزاله رسميا    كريم العمدة ل«الشاهد»: لولا كورونا لحققت مصر معدل نمو مرتفع وفائض دولاري    حسين عيسى: التصور المبدئي لإصلاح الهيئات الاقتصادية سيتم الانتهاء منه في هذا التوقيت    إقالة رئيس مدينة ديرمواس بالمنيا وإحالته للتحقيق    «خبطني بشنطته».. «طالب» يعتدي على زميله بسلاح أبيض والشرطة تضبط المتهم    إصابة 6 أشخاص في حادثي سير بالمنيا    عيار 21 يسجل 3140 جنيها.. تعرف على آخر تحديث لأسعار الذهب والدولار    حسين حمودة: سعيد بالفوز بجائزة الدولة التقديرية في الأدب لاتسامها بالنزاهة    إلهام شاهين: "أتمنى نوثق حياتنا الفنية لأن لما نموت محدش هيلم ورانا"    هل يمكن أن تدخل مصر في صراع مسلح مع إسرائيل بسبب حادث الحدود؟ مصطفى الفقي يجيب    إرشادات للتعامل مع مرضى الصرع خلال تأدية مناسك الحج    نشرة التوك شو| تحريك سعر الخبز المدعم.. وشراكة مصرية عالمية لعلاج الأورام    إبراهيم عيسى يكشف موقف تغيير الحكومة والمحافظين    استعدادات مجتمعية وروحانية: قدوم إجازة عيد الأضحى 2024    كريم فؤاد: موسيمانى عاملنى بطريقة سيئة ولم يقتنع بى كلاعب.. وموقف السولية لا ينسى    رئيس رابطة الأنديةل قصواء: استكمال دوري كورونا تسبب في عدم انتظام مواعيد الدوري المصري حتى الآن    شعبة المخابز تكشف حقيقة رفع الدعم عن رغيف الخبز    أسماء جلال تكشف عن شخصيتها في «اللعب مع العيال» بطولة محمد إمام (تفاصيل)    3 أبراج تجد حلولًا إبداعية لمشاكل العلاقات    سعر الفراخ البيضاء والبيض بالأسواق اليوم الأربعاء 29 مايو 2024    باختصار.. أهم أخبار العرب والعالم حتى منتصف الليل.. البيت الأبيض: لم نر أى خطة إسرائيلية لتوفير الحماية للمدنيين فى رفح.. النمسا: مبادرة سكاى شيلد تهدف لإنشاء مظلة دفاع جوى أقوى فى أوروبا    وزير خارجية الأردن لنظيره الإسباني: نقف معكم ضد الهجمات الإسرائيلية بعد قرار الاعتراف بدولة فلسطين    رئيس اتحاد شباب المصريين: أبناؤنا بالخارج خط الدفاع الأول عن الوطن    رسائل تهنئة بمناسبة عيد الأضحى 2024    «الأعلى للآثار» يفتتح مسجد الطنبغا الماريداني بعد ترميمه.. صور    حظك اليوم| الاربعاء 29 مايو لمواليد برج الثور    طريقة احتساب الدعم الإضافي لحساب المواطن    اليوم.. محاكمة المضيفة المتهمة بقتل ابنتها في التجمع الخامس    إصابة 17شخصًا في تصادم ميكروباص بفنطاس غاز بالمنيا    الوقاية من البعوضة الناقلة لمرض حمى الدنج.. محاضرة صحية بشرم الشيخ بحضور 170 مدير فندق    «زي المحلات».. 5 نصائح لعمل برجر جوسي    هل يجوز الجمع بين صيام العشر الأوائل من ذي الحجة وقضاء رمضان؟    ما حكم الصلاة الفائتة بعد الإفاقة من البنج؟.. أمين الفتوى يجيب    متى يلزم الكفارة على الكذب؟.. أمين الفتوى بدار الإفتاء يوضح    ننشر أسماء المتقدمين للجنة القيد تحت التمرين في نقابة الصحفيين    بدء الاختبارات الشفوية الإلكترونية لطلاب شهادات القراءات بشمال سيناء    جمال رائف: الحوار الوطني يؤكد حرص الدولة على تكوين دوائر عمل سياسية واقتصادية    من أفضل 10 فرق.. جامعة الجلالة تصل لتصفيات «الابتكار وريادة الأعمال» إفريقيا (تفاصيل)    اشترِ بنفسك.. رئيس "الأمراض البيطرية" يوضح طرق فحص الأضحية ويحذر من هذا الحيوان    شروط ومواعيد التحويلات بين المدارس 2025 - الموعد والضوابط    محافظ مطروح يشهد ختام الدورة التدريبية للعاملين بإدارات الشئون القانونية    مركز الأزهر للفتوى الإلكترونية يوضح فضل حج بيت الله الحرام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نص رواية سعاد سليمان " غير المباح " (2 من 2)
نشر في المشهد يوم 27 - 05 - 2013


الفصل السادس
إن من يسكت علي إساءة المتبجح يضر بنفسه ضررا عظيما !!
من تعاليم مري كارع
مثل راقص مجذوب يدور حول شهرزاد ، يدمدم بالسؤال : لماذا تقتلونني ياأبناء روحي وعمري المهدر ؟ لماذا ياشهر زاد ؟ لماذا تتركينني سجين الاسئلة ؟
: لأنهم أبناء العنف والقسوة ياشهريار ، تجيب شهرزاد ، ماذا كنت تتوقع ؟ ألم تحملهم أحشائي غيلة وقهرا ؟ هل جرؤت يوما علي لفظ ما أسكنت برحمي ؟ لست مندهشة ولا فزعة ، هذا مصير محتوم أعلمه مسبقا وتأهبت ألامي لستقباله ، لا ثمرة بغير اوان .
بوجه منكس يلقي حكيم الليالي بالخبر المتوقع ، قتل الملك حزم يار أخاه الأمير فخر يار في سجنه بعد زيارة قصيرة له أثر احتداد المناقشة بينهما ، قام الملك بخنق أخيه بعمامة رأسه الحريرية البيضاء ، وحرم الصلاة عليه ، وغسله وتكفينه ، وفي سرية تامة نقل جثمانه من مقره الاخير بالسجن إلي مكان لا يعلمه أحد .
يعوي شهريار الملك الملكوم يستجدي شهرزاد : امنحيني بقعة في قلبك الواسع كمحيط ، ضميني لدائرة السحر والحلم ، شعورا بالشفقة يسري مع انفاسها المضطربة ، توحدت مع دفء دموعه ، امسكت بيده تهدهد شيخوخته ، تقول شهرزاد : بلغني أيها الملك الحزين : أن الحاكم وأعوانه استأنفوا اجتماعاتهم بحثا عن حل المشكلة ، وبمزيد من الإلحاح تقدم سيدة الأعمال الجميلة عرضا مغريا مدعما بالأدلة والأسانيد علي عمق وطنيتها ، تمثل العرض في استيراد أطفال تبدأ أعمارهم من الثانية ودون الخامسة يمكن تشكيلهم وفق رغبة الحاكم والأعوان ، وبهم نبدأ تكوين نواة شعب جديد ، وتنهي عرضها " أنه ح يكون شعب علي مزاجنا " ، بلهفة وترحاب يستقبل الحاكم عرض السيدة ، يراوده أمل عودة سلطانه وسلطاته علي شعب حقيقي ، بشر من لحم ودم ، أصوات ، صرخات ، وجوه ، ضحكات ، بعدما طال انتظاره لعودة شعب لم ينفع معه طب ولا سحر ، وأصابه في سبيل ذلك إهانات وتوبيخ من البلدان المجاورة ، والذين يطلقون عليه " قط يأكل شعبه " وهم لا يعلمون معاناته وحسرته .
مستبشرا عاد من تأملاته وأمانيه معلنا سرعة استيراد الأطفال خاصة من الدول الفقيرة ، وقبل أن تلملم سيدة الأعمال أوراقها نبه المحروس باشا الوزير المسجون سابقا إلي ضرورة التخلص من شعب الفئران وإبادته استعدادا لاستقبال الشعب الجديد ، محاولا بين فوضي الأصوات التوضيح قائلا : يا سادة لقد استنفدنا كل طرق ووسائل العلاج ، ونحن مضطرون ، وبغض النظر عما أنفقته المدينة وخزانتها علي وشك الإفلاس ، فإن موقفنا أمام العالم في غاية السوء، ولم يبق لدينا مبرر مقنع نعلنه لتفسير الحالة الراهنة .
: إنهم في الأصل بشر ، أرواح من عند الله ، كيف نستبيح قتلهم ؟ تساءل كبير القساوسة ، وأجابه مسئول الخبز : أن الضرورات تبيح المحظورات ، يعترض كبير المشايخ محتدا : ولكنها لا تبيح المحرمات ، وقال تعالي في كتابه العزيز " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق " فأين الحق الذي تبيحون به قتل أنفس بريئة ، ينضم إليه قاضي المدينة مضيفا : كما أنه ليس لدينا قانون ولا مادة في الدستور يخول لنا حق القتل الجماعي لهذه الكائنات حيوانات كانت أم بشر !
: " سهلة " يقول مسئول شئون مجلس الحاكم نصوغ قانوناً جديداً و " نًُدَسِتُُرُه " ، والحمد لله العدد القانوني من الأعضاء مازالوا بيننا وهم الموافقون علي قوانيننا حتي التي لم نفكر فيها بعد .
يرشم كبير القساوسة علامة الصليب متمتما : إنهم أرواح يملكها الرب ، ولا يحق لمخلوق التصرف فيها .
متثائبا يقول المحامي الكبير : كدت أنسي أن أعلنكم بالدعاوي القضائية التي أقامتها ضدنا منظمات حقوق الإنسان وجمعيات الرفق بالحيوان أمام المحاكم الدولية .
: " قضاء وقدر " أطلقها المحروس باشا .. هل يملك أحدنا دفع القضاء والقدر ، متبرئا يعلن كبير المشايخ رفضه وانسحابه يتبعه القساوسة تضامناً ورفضاً لما يحدث .
ينهي الحاكم توتر الموقف فيأمر المحروس باشا باستكمال عرض فكرته .
: بالفهلوة كده وبعون الله سأثبت لكم أن القضاء والقدر هو الحل الوحيد المتاح أمامنا .
بتهكم يسأله الحاكم : وكيف سنبرر يا فهلوي إبادة شعب ومفتشي الدولة العلمية القوية يتعقبوننا ، وأقمارهم تتجسس علينا ليلاً ونهاراً .
: ماذا لو استوردنا أعدداً كبيرة من الخيول الجامحة نطلقها في ميدان تجمع الفئران ، فتدهمها ، تفعصها ، حادثة .. قضاء وقدر .
**********************
بفرح فوضوي استقبل شعب الفئران الخيول المستوردة التي ما أن وطأت أرض الميدان حتي ساد العبث واللهو .
اختلطت أصوات دهشة الحاكم وأعوانه بالخيول ، بحركة الفئران تقفز سريعا فوق ظهور الخيل ، تنطلق بخفة ونشاط ، أصبح كل عشرين فأراً فوق ظهر حصان ، صنعوا أدوارا مركبة لا تستطيع عدها ، ينزلق بعضهم فيعيد المحاولة بإصرار ورشاقة بلغت حد التهور والتراشق بصغارها الذين طاروا في الهواء يَُلقفونهم لبعض ، وتولي الأشقياء الصغار خمش كل موضع في جسم الخيول وبخاصة الأماكن الحساسة ، وكسيل باحث عن مأوي انطلقت الخيول بعيدا حيث لا ملاذ .
**********************
لم يفرغ بعد جراب الحاكم وأعوانه من حيلة للتخلص من شعب الفئران ، فتقدم المحراث باشا ثالث المليونيرات بمشروع أعتبره الأكثر فعالية " استيراد فيلة " بضخامتها تدهس الفئران في دقائق .
بالقفز والصراخ استقبل شعب الفئران الفيلة ، وهرب الحاكم وأعوانه تاركين الفيلة مضطربة ، وكأنها دقت بوتد في الأرض ، فأخذت الفئران تحوم حولها ، واستغل النحاف منهم الفرصة للتجول داخل خراطيم الفيلة ، فانحشر بعضهم وسد منافذ التنفس فمات أكثرهم ، والقليل الذي نجا صنع لهم الفئران سورا عاليا ، و أسكنوهم مكانا آمنا لاستخدامهم كوسائل ترفيه فيما بعد .
*****************
ضج الحاكم وأعوانه من الفشل المتلاحق للتخلص من الفئران ، ولم يعد هناك أمل في العثور علي حل يبدو قدرياً ، فتقدم الحارثي باشا رابع المليونيرات بمشروع حل وصفه بالأكثر عبقرية ، ولكنه اشترط الحصول علي كامل الثمن مقدما ، تفتق اقتراحه عن استيراد أسود متوحشة يقول : في غفلة منا خرجت أسود الحديقة والتي سيتم استيرادها بتاريخ قديم لرفاهية الشعب ، افترست الفئران ولا حيلة لنا ولا ذنب .
بنفاد صبر هتف الجميع في صوت واحد " موافقووووووووووووووون .
مقدما قبض الحارثي باشا عدة ملايين نظير صفقة طارت تسابق ريح طائرته الراحلة بأوراقه وملياراته ، ولم تصل الأسود المستوردة ، وبدلاً منها وصل خبر هروبه بأموال المدينة ، وطلبه اللجوء السياسي للدولة التي أصبحت صديقة ، وتعاطف العالم مع قضيته التي حكي فيها تاريخه الوطني واضطهاده سجنا وتعذيبا بغير ذنب ، فقط لمجرد رغبته في تغيير ديانته واعتناق ديانة الدولة اللاجئ إليها .
****************
أصدر الحاكم قراراً بمنع مناقشة موقف المدينة من قضية هروب الحارثي باشا ، وواصل البحث عن وسيلة تبدو قدرية للتخلص من الفئران ، لفت انتباهه همهمة الفيلسوف الذي غاب صوته في كل ما حدث ، فسأله ما الحل ؟ .
****************
بلهجة الواثق قال الفيلسوف : الحل بسيط ومنطقي كيف غاب عن فطنتكم ؟ القطط السلاح التقليدي للقضاء علي الفئران منذ بداية البشرية .
بتهور أدي إلي تصادمهم اندفعوا جميعا بحثا عن القطط ، حتي قطط الحاكم المدللة تنازل عنها مشاركة منه في قتل الفئران .
********************
بتحفز تستطلع الموقف ، وقفت القطط علي حدود تجمع كتل الفئران ، تقترب ببطء استجابة لدفعات الأعوان لاختراق الميدان ، تتمهل .. تحبو .. تشمشم .. تندس بين جموع الفئران ، حتي المستوردة منها صارت تتمسح بهم في ودَ ، وهكذا كان من الصعب أن تحدد موقع القطط من الفئران إلا كبقع مختلفة الألوان والأحجام في مواضع متفرقة من اللون الأسود الذي يشكل تكوين شعب الفئران .

**********************
بالجهود الذاتية جمع الأعوان جميع أنواع السموم المحلية والمستوردة ، نثروها في كل الجحور والشقوق والطرق ، حتي السماء تقطر سماً ينتشر في الهواء ، وإلي قصورهم المنيعة بأجهزتها صانعة الهواء النقي هرب الحاكم وأعوانه .
وانشغل شعب الفئران بمراقبة وميض البرق ، ولوا وجوههم شطر السماء ، فأرسلت إليهم بترياق النجاة ، مطراً طهوراً يغسل الأرض والهواء وجلودهم فصاروا أكثر لمعانا وسمكا وسواداً .
******************
ممسكاً بصليبه الخشبي العتيق ، غائباً في تهجده يجلس القس يحتويهم بعيون تتدفق طيبة وحنان ، يرشم علامة الصليب ، يدعو : يا رب ارحم ، تعهدهم بالمراحم والرأفات ، اشفهم ، انزع عنهم وعنا كل مرض ، وكل سقم ، وروح الأمراض اطرده ، والذين أبطئوا مطروحين في الأمراض أقمهم وعزهم ، والمعذبون من الأرواح النجسة اعتقهم جميعا .
**************
لم يهتم بالأحجبة والرقي الورقية التي تسقط من بين يديه وجيوبه والجراب الذي يحمله ، يطوف حول الدائرة ، يعلق حجاب برقبة كل فأر ، يردد : إنما اجري علي الله ، لا أريد منكم جزاءاً ولا شكوراً ، عودوا إلي بارئكم ، ادعوه مغفرة ورحمة ، اللهم نجنا مما نخاف .
يخترق الدائرة يذهله منظر القس ، تتحلق حوله الفئران ، يجاوبه القس آمين ، يرشم علامة الصليب يتمتم ، باسم الرب أدعو ، إنهم أبناؤك ، روح منك ، امنحهم رضاك وبركاتك " يؤمن الشيخ آمين .
----------------------------
الفصل السابع
عندما يرفع فرعون السوط بيده اليمني يسقط الميزان من يده اليسري
من برديات منف
تحت قدمي شهرزاد يركع حزم يار ، يغسل بدموعه غضبها المكبوت ، يتمني أن تعنفه ، تطرده ، تلعنه حتي ، لكنها لا تفعل ، يستعطفها طالبا النصح والمشورة ، تقاوم رغبتها في ضمه إليها ، أو طرده خارجا ، ضاربا كفا بكف .. كل شيء يضيع ، تركني وزرائي وأصدقائي تحالفوا مع حكم يار والأعداء ، أنهم علي أطراف المدينة لم يبق إلا الضياع ، لم يعد أمامي اختيار ولا أمل ، يجاوبه صمتها ، مهتاجا يلقي باللعنات يمضي حزم يار .
: لن أترك عرشي ، لا احتاج مشورتك يا شهرزاد ، سأقاوم حتي آخر أنفاسي ، وآخر سيف في يد جنودي .
جنودك !!! ساخراً يردد شهريار : جنودك باعوك وتركوك نهباً للهزيمة والانكسار ، قبضوا ثمنك دنانير ووعوداً ستتبخر في الهواء .
ينادي شهر يار أبناءه القتلي ، أنقذوا مملكتي يا أبناء شهر زاد ، أين صمودك يا حشد يار ، هل اكتملت خططك القتالية يا نظم يار ، فك قيودي وقيودك يا فخر يار ، بجانب أبيك وأخيك كن يا حكم يار .
لا ثمرة بغير أوان ، : هكذا بلغني أيها الملك ال .... تقول شهرزاد .

إن الحاكم صار قلقا يتخبط في قراراته بعد فشله في التخلص من شعب الفئران ، وتعثر صفقة استيراد الأطفال لعدم مطابقتها للمواصفات المطلوبة ، وإذا توفرت كان خوف الدول المصدرة علي أطفالها من أمراض الطاعون المرتبط بوجود الفئران عائق آخر أفسد حلم الحاكم بشعبه المنتظر ، فأعلن أنه علي كل الأعوان والمسئولين في المدينة تعلم لغة الفئران ، وبصرامة كبح الهمسات المعترضة ، : أنها وظيفتكم وواجبكم .
***********************
تأهبا للاختلاط بالفئران وتجنباً للعدوي والأمراض استورد الأعوان أحدث أنواع المطهرات والكمامات الطبية ، وعلي حدود الكتلة السوداء في الميدان الكبير وقف الأعوان يرقبون شعب الفئران صامتين إلا من خروشة الاحتكاك بالجحور، وفقد الأعوان الأمل في سماع أي صوت أو أشارة يتلمسون بها طريقا للتفاهم معهم ، وأن بهرتهم الهزات الجسمانية الجماعية للفئران كتلك التي يهتز لها الجسد عند الضحك ، بينما انتشت الفئران بتبادل أدوار الانتظار الذي يمر به الأعوان ، ووجدها فأر فهلوي فرصة للسخرية فنقش بأظافره فوق الأرض : قاعدين ليه ما تقوموا تروحوا ، قلده آخر بالحفر أسفل الحوائط : مش عايزين النهاردة ولا أي يوم تاني .
**********************
أعقب ذلك همسات تنتقل بين الفئران ، يهتزون أثرها في حركات إيقاعية ، وأفرط البعض فأستلقي علي قفاه يرفس بقدميه .
فشل الأعوان في تعلم لغة الفئران ، بات مؤكدا بعد الذي قرءوه أن الفئران تعمدت الصمت في حضرتهم ويتخذون ضدهم موقفا عدائيا .
*******************
تحول فزع الحاكم وأعوانه من مجموعة الفئران التي قفزت فوق منضدة الاجتماع إلي ضحكة سخرية حينما قرأ الطبيب البيطري للحيوانات المدللة للحاكم والأعوان ما حاول وفد الفئران نقشه بأظافرهم معلنين رغبتهم في التفاوض وعقد اتفاق بين الطرفين ، بعدما اقنع الفأر السمين الحاكم أنه الممثل الشرعي لشعب الفئران الذين اختاروه حسب قوله والوفد المرافق له بأغلبية ساحقة ، وبناء علي رغبتهم أن يحكمهم واحد منهم ، ويطالب بتعينه ملكاً عليهم " ملك " وليس أي منصب آخر ، ودفعاً لغضب الحاكم الذي بدأ يلوح أكد الفأر أن ذلك لمدة قد تطول أو تقصر ، ولكن يشترط أن تكون كافية لدراسة الأسباب التي حولت الشعب إلي فئران ، كما يتعهد بالمشاركة في إيجاد علاج حتي يعود الشعب بشراً في أسرع وقت ، واختتم الطرفان الاتفاقية بأنه منذ هذا التاريخ يصبح شعب الفئران مسؤولية الملك الفأر تحت رعاية الحاكم وأعوانه .
مستغرقا في الضحك وافق الحاكم وتم تعيين الفأر ملكاً ، يقول متعجباً : وأهي فرصة بعد حل المشكلة نعلنها ملكية .
علي قدم وساق تجري طقوس تنصيب الملك الفأر ، يشارك فيها الحاكم والأعوان ، ويُنقل الحدث لحظة بلحظة في كافة الوسائل المرئية والمسموعة.
تآكلت كل الموانع الحجرية والصلبة في الميدان التاريخي الكبير وما حوله ، ونفذت كل الفئران من الفتحات التي اتسعت يكنوُن فيها ، وفي رحلة قرضها لكل ما تجده كغذاء ، ونحت لقواطع إنسانها الأمامية لتحفظها حادة باستمرار وكي لا تنمو إلي الحد الذي يمنعها من غلق فكيها والتي قد تخترق سقف حلقها فتموت ، وتلاشي ما كان مكتوبا بلغتهم القديمة علي الأحجار والأخشاب وفي الأوراق والكتب وتصف حضارتهم العظيمة فصارت أمجادهم مجرد حفائر بلا معني تكمن في عمق الحجر ، أتاحت مثوى للسوس أن ينخر فيها ، بعدما نبش الفئران بأظافرهم أحجار الميدان لصنع جحور تؤويهم .
منتشيا وحوله مستشاروه وقف الملك الفأر وسط الميدان يلقي الخطاب الأول لشعبه :
شعبي الحبيب ، بايعتموني لأني منكم ..
تسري همهمة بين الفئران ، بتجاهل يواصل الملك الفأر : إن هذا الشعب الطيب عنواني ، ومن أجلكم ح اعمل قلبي جحور شعبية أدفنكم قصدي أريحكم فيها .
بغير صوت أو هم الذين أصبحوا صًُما لا يسمعون ، يكمل الملك الفأر : شعبي الحبيب أعدكم أن عهدي سيصبح عهداً من النهضة والرفاهية .
موجة تسري توقظ نبض الأنسجة والأعصاب ، تمس الجميع ، صراخا وقفزا ، تتحول الفئران إلي أشباح مجنونة راقصة ، يذمون ، يدمدمون ، يلقون بالحجارة علي منصة الملك الفأر ومستشاريه الفارين هربًا.
------
صار معروفا للجميع في المدينة أنه إذا همس الحاكم في مقره هز الرعب والفزع الملك الفأر الذي يتخذ من جحراً علي أطراف الميدان التاريخي وموقعا له ، وفشل مستشاروه في شد أزره وبث القوة داخله لدرجة استعانتهم بطبيب نفسي ليخلصه من المبالغة المفرطة في رعبه من الحاكم ، وأن أرجعوا هذا السلوك لما لاقاه في بداية تنصيبه حينما صورت له خيالاته أنه يستطيع المطالبة باختصاصات تدبير شئون مملكته من وجهة نظره .
كان الحاكم قد استدرج الملك الفار ، وفي مصيدة حديدية حبسه بدون طعام أو شراب ، وتفنن الأعوان في تعذيبه والسخرية منه ، وصارت هوايته الخاصة إجباره علي تقديم عروض بهلوانية مختلفة كنط الحبل وتقليد الحيوانات ، وأخيرا الرقص عشرة بلدي ، وبتحريض من مستشاروه أضطر مرعوبا إلي إرسال احتجاج ودود يشجب فيه ما يتعرض له شعب الفئران من محاولات مستمرة لإبادته وسرقته من قٍبل الأعوان .
كشف الاحتجاج الودود الذي أرسله الملك الفأر سر الجرح الغائر الذي يخفيه كبير الأطباء في يديه، حينما خمشه فار بعنف حاول اصطياده ، وحول السؤال الوارد في الاحتجاج ، أجاب احد الخبثاء من الأعوان أن كبير الأطباء يُتاجر في تصدير الفئران خارج البلاد ، وضبطه المستشار الأمني للملك الفار حيث رصدت التقارير أن بعض المعامل الدولية جعلت من كبير الأطباء وكيلها في سد حاجاتها من فئران التجارب ، ولم يلحظ الجميع القلق الذي ينهش قلب كبير الأطباء انتظارا للحصول علي موافقة الحاكم علاجه علي حساب المدينة خشية الإصابة بالطاعون ، ورغم ذلك لم ينس أبدا أن يأخذ معه بعض الفئران ، وعلي حد تعبيره " أهي علاج وزيارة وتجارة ... " .
أرسل الحاكم إلي الملك الفأر اعتذاراً نيابة عن كبير الأطباء ، الذي اقسم بعد مرضه الأخير أنه لن يقترب من حدود ميدان الفئران طوال حياته إذا عاد سالما من رحلة علاجه ، وموجها إنذاراً للملك الفأر لتقاعسه إنجاز ما وعد به من دارسة وتقرير عن أحوال شعب الفئران ومشكلاتهم لتحديد العلاج لعودتهم بشرا رغم مرور عدة أشهر.
بهمس خافت : هذا الإنذار مرفوض .
يعترض المستشار القانوني للملك الفأر : بأي حق يوجهه هذا الحاكم لسموك يا مولاي ، الشعب شعبنا ونحن أكثر معرفة به ومسئولين عنه ، أنت الملك الشرعي للمدينة ، يكمل بلهجة خطابية حذرة : فأنت من الشعب وإلي الشعب ، ماذا يعلم الحاكم عن شعبنا ، وماذا فعل من أجله قبل الكارثة أو بعدها ، وإن كان حقاً يهمه فلماذا لم يحافظ علي أمواله التي سرقها كبار رجال الأعمال وهربوا بها خارجاً ، آخرهم الحارثي باشا ؟ وطوال ثلاثين عاماً مدة حكمه لا يملك غير إعلان التقشف وربط الأحزمة فوق البطون بحجة إفلاس خزانة المدينة .
أتعلم يا مولاي بحسبة بسيطة كنت قد أعددتها في دارستي الاقتصادية ، لو حسبنا ما تم نهبه وتهريبه خارج المدينة في العشر سنوات الأخيرة فقط ، وقسمناها علي عدد الشعب ، يصبح نصيب كل فرد منهم نصف مليون دولار علي أقل تقدير .
يتفحص أوراقه ، وبعد مراجعتي لمواد الدستور المنصوص عليها في الاتفاقية التي بيننا وبين الحاكم تأكدتُ أن هذا الإنذار غير قانوني ، وجوده شخصيا بيننا نحن شعب الفئران تحت مُلك مولاي الفأر الأكبر غير مبرر ولا منطقي .
يضيف : كما أن الدارسة التي تعدها لم تنته بعد ، ولا أري ضرورة للتعجيل بها ؟
قلقاً متلفتاً حوله : لماذا ؟؟؟ يتساءل الملك الفأر ؟
بدهاء يؤكد المستشار : بانتهائها ينتهي دورك وتفقد ملكك ونعود إلي ما كنا .
يحتار الملك الفأر : أليس جميلاً أن نعود بشراً ؟
: وبماذا يفيد .. ؟ يجيبه المستشار : ت وماذا جنينا من البشر الذين تتعجل العودة إليهم ؟
: وما ذنب الشعب ؟ يعترض الملك الفأر
: وما ذنبنا نحن ؟ وماذا يضير الشعب لو ظل هكذا عدة سنوات أخري ؟ يتأفف الملك الفأر : ولكني ضقت بالنكات اللاذعة ، وأحيانا الفاحشة التي يمطرنا بها الشعب ، وما يفعله الحاكم كل يوم .
أما بالنسبة للشعب ، عادي طول عمره كده ، يردد المستشارين في صوت جماعي : هما يقوله اللي عاو زينه ، واحتا بنعمل اللي عاو زينه ، أما الحاكم فلا حيلة لنا ولا فرار .
.............................................
الفصل الثامن
ولكن افتح عينيك ، فقد يمتلئ المرء بالثقة ثم يتكشف الأمر عن حسرة لثقة جاءت في غير موضعها ِ.
تعاليم ماري كارع
تدق طبول الحرب حول مملكة آل يار ، تزحف أقدام الداخلين إليها ثقيلة تجثم فوق أنفاس البشر فيها ، ينزوي شهريار في ركن بعيد وحيداً ، مطلقاً لحيته وجنونه ، متنمراً يمنع حكيم الليالي إذاعة المزيد من أخبار توالي سقوط مدن وقري مملكته ، يخاف سماع النبأ الحتمي أن جنود الغزاة بقصره ، بين أهله وجواريه يدقون بابه .
هده الرعب حين راوده خيال أنهم سيحتلون شهزاد ، يعتقلون حكاياتها ولياليها ، أو يسحقون بأحذيتهم حكمتها ونورها ، مازال يراها بهية ، قادرة علي منح الكثير الذي يشتاق إليه .
بتودد يسعي إليها ، هيا يا شهرزاد ، أسعديني بلياليك الجميلة ، دثريني بدفء حكاياتك ، اغمريني بسحر وصالك ، بفكر مشتت تحكي شهر زاد ........ بلغني أيها الملك المخبول
أنه في الوقت المستقطع من العاب الملك الفأر البهلوانية أمام الحاكم قرر إجراء جولة تفقدية لشعبه كما يقول عنه ، والذي حاول عبثاً مد جسور الود والتواصل معه ، فشاهد احدهم يحمل آخر هزيلاً فأشاد ومستشاروه بالتعاون والترابط بين الشعب الذي أصبح كالبنيان المرصوص ، اعترضهم فأر ضجر موضحاً : ده مش تعاون ده من فقر عهد سموكم الدكر .
بتهديد وإلحاح من الحاكم اضطر الملك الفأر ومستشاروه إلي البحث في مشكلة شعب الفئران ، وبفخر انطلق المستشار العلمي للملك في اقتراح حل يقول : اعتقد أنه من الأفضل الإسراع .
سأله : الجميع هل ستأتي بمعجزة ؟
أجاب : الاستنساخ ، معجزة العلم ، خاب أمل الجميع ، كيف ؟ والمستنسخ سيكون بالطبع فأراً ؟
: جهلة يردد المستشار العلمي : بالهندسة الوراثية نتحكم في تكوين الجينات ، ولدينا نموذج ، فاكرين لما حاكم المدينة المجاورة أراد عمل نسخة منه ، وبعد دفع كافة التكاليف كان المستنسخ منه حمار ، وعندما احتج غاضبا قامت مجموعة علماء آخرين باستنساخه طبق الأصل ، وفرحا سألهم من أين حصلوا علي العينة التي اعتمدوا عليها للوصول إلي هذا التطابق ؟
أعلن العلماء أنهم اخذوا العينة من الحمار ، وقياسا علي ذلك سيكون المستنسخ من فئران كان أصلهم بشرا بشرا أيضا .
---------------
بعد الفضيحة المدوية للاستنساخ المشوه لفأر متوحش أثار الذعر في المدينة وهدد وأعوانه بالنهش المسعور ، مما اضطرهم لقتله وغلق باب حل الاستنساخ .
لذا قرر الملك الفأر العمل بجدية لحل مشكلة شعب الفئران ، فأذاع بيانا يطالبهم فيه بالتعاون من اجل مصلحتهم واعدا بحل كل مشكلاته وما ينغص حياتهم خاصة قبل تحولهم فئرانا ، وأضاف البيان : إن باب الملك ومستشاريه مفتوح دائما لتلقي شكاوي ومطالب الشعب .
مئات الآلاف بل الملايين من الأوراق مكدسة في أروقة ودهاليز الملك ومستشاريه ، تئن بشكاوي الشعب ومتاعبه وآلامه ، اكتفي الملك ومستشاروه باختيار نماذج تمثل عينة لمعرفة مشكلات الشعب .
شهور بل سنين نحتاج إليها لقراءة كل هذه الأوراق ، هكذا قرر المستشار الثقافي للملك الفأر ، وأضاف حتي الآن كل ما قرأناه و درسناه لم يكشف أو يحدد السبب الجوهري لما حدث له .
بلا مبالاة خمش المستشار الثقافي للملك الفأر وهو ثائر شعبي سابق أحد الأوراق المكدسة بشكاوي الشعب مطلقا ضحكة مكتومة ، لم يفهم مغزاها الآخرون وراحوا يشكلون بأوراق الشكاوي قراطيس ومراكب يرشقون بها بعضهم ، يعلو بينهم ضجيج السخرية .
..................................
الفصل التاسع
تعلموا ، لتتعلموا كيف تعملون فإتقان العمل صلاة تقربكم من الإله ، وعين الإله لا تغفل عما تعملون .
أناشيد اخناتون
صمد أهالي مملكة آل يار لطول حصار مدينتهم ، رغم ما أشاعه المصير الغامض للملك حزم يار من التناحر والاختلاف ، وما بين الفرح باختفائه وعدم التصديق والتنبوء بعودته للانتقام .
علي قلب رجل واحد أحاطوا بقصر شهرزاد ، يحمونها بأجسادهم المتداعية للسقوط .
حول شهر زاد التف الجميع ، تحصنوا بها ، بهشاشة المقاومة تحاول بث الطمأنينة بينهم : اكتب يا حكيم الليالي .. تقول شهرزاد : الإنسان لا الكنوز ولا التماثيل هو التاريخ فاصنعوا تاريخكم القادم ، لن تزول حضارتكم بحرق كتبكم وإن كانت بالآلاف ما دمتم قادرين علي صنع وكتابة الأعظم منها .
مازال شهريار يهذي : تقدست لياليك يا شهر زاد .
بمرارة تبتسم : بلغني أيها الملك المكسور :
إن الفأرة التي انتفض جسدها المنتفخ تزوم بصوت لم يستطع الآخرون تفسيره ، ترسل حرارة زفراتها دعوة لجاراتها اللاتي تحلقن حولها مشدوهات فاغرات الأفواه لما يعتريها من انقباض وانبساط يكاد يزهق روحها ، أفسحن مكانا لما بدا يظهر من بين رجليها ، قدمان صغيرتان تتبعهما أجزاء بشرية أخري ، وصرخة ضالة تشق الليل أطلقها الطفل الوليد ، دقيق الملامح صغير التكوين ، انحنت أمه الفأرة تهمس : لقد رايته بالأمس في منامي ، إذن لم يكن حلما ، علت الضجة معلنة الحدث السعيد .
وليد طفل السماء ، هكذا اسماه الحاكم واستقبله فرحا ، مستبشرا يتشمم أنفاسه ، يحتضنه بشوق ولهفة الحنين لدفء اللحم الحي ، يتطلع بأمنية حارة إلي مزيد من المواليد تكون نواة لتكوين شعبه الجدية ، بعدما يئس من عودة شعب الفئران إلي بشريتهم ، وأوقف صفقة استيراد الأطفال ، وأعلن أن شعب الفئران صار تحت حمايته شخصيا ، لأنهم كما يقول صُناع شعبه الجديد .
----------------------
برعب حقيقي أيقن الملك الفأر الخراب والزوال السريع لملكه بمجرد سماعه بمجيء الوليد الذي اعتبره شؤما ، يتنطط فزعا : سيعدوننا إلي ما كنا ، لا بل سيقتلوننا ، ما حدث كارثة ، ضاع ملكي .
: يجب استعادة الطفل ولو بالقوة ، يقرر المستشار القانوني للملك ، الطفل من حقك يا مولاي وفق نصوص الاتفاقية .
: وما الفائدة ؟ وماذا أفعل به ؟ تتلاحق أسئلة الملك الفأر .
: ، نفحصه ، نتأكد أنه ينتمي لشعب الفئران ، قد يكون مدسوسا علينا ، كما أننا نتمسك بحقنا القانوني فيه .
يتصنع الملك الفأر الهدوء والوقار ، : نعم من اجل بقاء هذا الشعب الفئراني العظيم لابد من استعادة الطفل ، وإذا اكتشفنا أو شككنا أنه متآمر ومدسوس علينا ، فسيلقي جزاء كل خائن ، وسأحارب بكل ما أملك من قوة للحفاظ علي شعبي إذا رفض الحاكم إعادة هذا المتآمر .
----------------------
فتح مولد الطفل وليد باباً جديداً للقلق ، زاد اتساعا بمجيء " ولادة " ثاني طفلة بشرية ، وتتابعت المواليد المتلاحقة لشعب الفئران ، والذي صار يمارس الإنجاب كالتنفس ، وضاقت الحيل والسبل بالملك الفأر ، بعدما فقد سيطرته علي الشعب والمواليد وحتي مستشاريه .
بعد مشقة توحدت جهود الملك الفأر ومستشاريه لإنقاذ ما تبقي من ملكهم ومناصبهم ، حاولوا تطويق شعب الفئران والتفريق بين ذكوره وإناثه ، و تعددت المبررات ما بين منع الاختلاط بدعوي تجنب الفاحشة ، والتطهر من الرجس الناتج عن التقارب حتي لو كان عرضا ، كما وضعوا شروطاً معقدة للحصول علي تصاريح الاقتراب من أنثي ، والخضوع المستمر للفحص والتفتيش والمراقبة ، ولم تفلح كل هذه الإجراءات في الحد من ارتفاع معدلات المواليد ، فوصل عدد الأطفال في عام واحد إلي مليونا طفل ، وضعهم الحاكم تحت رعايتهشخصيا ، وأقام لهم مدينة صغيرة لتربيتهم وتعليمهم علي احدث الوسائل العلمية وبالفعل شرع في استقدام الأطباء والمعلمين لرعايتهم .
--------------------
من يضمن للملك الفأر وسيلة يقطع بها إنجاب مواليد آخرين ،
: التسريب يا مولاي ، ينصح المستشار السياسي للمك الفأر ، عليك بتسريب هذا الشعب إلي المدن البعيدة والتي لا تدخل ضمن حدود مدينة الحاكم وما بقي من شعب الفئران هو ما يثبت ملكنا ويمنحنا الاستمرارية .
خمسة ملايين وصل عدد الأطفال المواليد خلال أربع سنوات ، ومازال الملك الفأر يجرب كل وسائل منع إنجاب أطفال جدد .
: يا مولاي هذا شعب لا يعرف مصلحته ، يقول المستشار العلمي للملك الفأر ، والحل العلمي في هذا الموقف هو تعقيم الإناث وزيادة في الحيطة والحذر نجري عملية إحصاء للذكور ، وهكذا نحمي الشعب من نفسه ، هم لا يعلمون أن كثرة الإنجاب تعوق معدلات التنمية وتقلص فرص الرفاهية التي تسعي سموكم لتحقيقها لهم .
-------------------------
هباء ضاعت كل محاولات الملك الفأر ومستشاريه في إقناع شعب الفئران بعدم الإنجاب ، ولم تفلح كل عمليات التعقيم والاخصاء التي حاولوا إخضاع الشعب لها بالقوة ، ومازال البحث جاريا عن طريقة لإيقاف طوفان الإنجاب عند الشعب المعروف بخصوبته الإنجابية .
....................................
الفصل العاشر
.... ولا يرض النهر لنفسه أن يبقي مختبئاً ، وإنما يكتسح السد الذي يخفيه . !

من تعاليم ماري كارع
عشرة ملايين وصل عدد المواليد ، وسنوات خمس بلغ عمرهم في المدينة الجديدة ، وأيضا عمر مأساة شعب الفئران الذي عزت عليه فتافيت القوت اليومي ، حتي بقايا موائد الملك الفأر ومستشاريه وما فاض من موائد الحاكم وأعوانه لا يكفي ، وما يتبرع به أصحاب القصور المنيعة الخمسة آلاف حسب آخر إحصاء لهم ، والذين يعيشون حياة أسطورية لم يستطع الشعب سابقا دخولها أو حتي تخيلها في أحلامه ، كل هذا لا يسد جوع الفئران ، فهل يختلف مصير المواليد عن مصير الشعب ؟ .
أصبحت مدينة المواليد تحت رعاية الحاكم وإشرافه ، يشارك في تأليف مناهج الدارسة بعدما ظهرت عليه مواهب احتار الأعوان في تفسيرها من تأليف الرواية والقصة والشعر ، خاصة كتابة أناشيد الصباح ، وباكتمال عدد المواليد عشرة ملايين ، تسلم الحاكم تقارير أطبائهم ومعلميهم التي تؤكد أنهم ذوو نسبة ذكاء مرتفعة كما اثبتوا قدرة مدهشة علي استيعاب كافة العلوم الدراسية وإن ظلت أسئلتهم حائرة بلا إجابات ، من أين جاءوا ؟ ولماذا فقدوا جميعا إباءهم وأمهاتهم ؟
------------------
قرر الحاكم الاحتفال بالأطفال الذين أتموا عامهم الخامس ، فاختار مائة في مقدمتهم الطفل وليد والطفلة ولادة ، وفي غفلة من الجميع اختفي طابور المائة ، فزع الحاضرون من ارتفاع أصوات مزعجة تخمش الأبواب ، وفئران تتوه في كل الاتجاهات لا تعرف مخرجا ، وبعد طول تخبط تهتدي بحاسة الحنين إلي منفذ تجتازه هاربة تتبعها عيون الملاحقين .
وكأنها تتبع بوصلة تجذبها إلي الميدان التاريخي وبلهفة الشوق تندس بين جموع لا حصر لها من فئران تلهو أحيانا ، تلبد في الجحور بعض الوقت ، تنتشر في الحواري والأزقة ليلا ويجمعهم ميدان كبير يسعهم جميعا .
----------------
بامتداد ما بين النهرين صنع الغزاة جسرا من الكتب التي نجت من حريق المكتبة العريقة ، تلك التي نُهبت كنوزها ومخطوطاتها فمروا فوقه ، ومن أجساد البشر قي مملكة آل يار أقام حكم يار وحلفاؤه معبرا لدخول قصر شهرزاد
باهتة كالشبح صارت شهرزاد ، ترتعش ، تدثرها دنيا زاد ، تحيط بها وجوه صنميه كثيرة وغريبة ، تشيع جوا مقبضا حزينا ، يقف الجميع مكتومي الأنفاس مهزومي الروح ، محمومة الجسد ترقد بينهم ، تهذي
: ضاع الوليد ، فئرانا صغيرة صاروا ، أنه ، أنهم ، يخفت صوتها ، يستنطقها شهريار ، تهمد أنفاسها ، تستجديها دنيا زاد ، يتسمع صمتها حكيم الليالي ، سكتت شهرزاد .. سقطت شهرزاد .
(تمت)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.