انطلاق فعاليات الملتقي التوظيفي السنوى لكلية الزراعة بجامعة عين شمس    التنظيم والإدارة: 59901 متقدم بمسابقة شغل وظائف معلم مساعد مادة    محافظ القاهرة يؤدي صلاة الجمعة بمسجد السيدة زينب    إزالة 30 حالة تعدي بأسيوط حفاظا على الرقعة الزراعية وأملاك الدولة    إطلاق مراجعات الثانوية العامة لمبادرة «تقدر في 10 أيام» بمطروح.. 29 مايو الحالي    توريد 572588 طنًا من القمح لمراكز التجميع بالشرقية    محافظ المنوفية استمرار تلقى طلبات التصالح على مخالفات البناء أيام العطلات الرسمية    تراجع اسعار الحديد بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 17 مايو 2024    تيسير إجراءات استيراد المكونات الإلكترونية للشركات الناشئة بمجال التصميم الإلكتروني    وفد جنوب إفريقيا: نأمل أن تتخذ «العدل الدولية» قرارًا بمنع تفاقم الأوضاع في غزة    إذا هوجمت رفح.. ماذا سيفعل نتنياهو بعد ذلك في الحرب؟    متحدث "فتح": نخشى أن يكون الميناء العائم الأمريكي ممرا للتهجير القسري للفلسطينيين    إصابات إسرائيلية إثر إطلاق 80 صاروخا من لبنان تجاه الجليل الأعلى والجولان    من بوابة «طلاب الجامعات».. بايدن يسعى لأصوات الأمريكيين الأفارقة بانتخابات 2024    كولر: لا نمتلك الأفضلية على الترجي.. ومباراة الغد تختلف عن لقاء الموسم الماضي    وفاة المراسل أحمد نوير.. ماذا كتب قبل رحيله عن عالمنا؟    فرق الصحة المدرسية بالقليوبية تستعد لامتحانات الشهادة الإعدادية    جمارك الطرود البريدية بقرية البضائع تضبط 3995 قرص ترامادول داخل كمبروسر    متحف الطفل يحتفي باليوم العالمي للمتاحف.. غدا    حفل ختام مهرجان المسرح وإعلان الجوائز بجامعة قناة السويس    منهم يسرا وعدوية.. مواقف إنسانية لا تنسى للزعيم عادل إمام يكشفها النجوم    «الصحة» توجه عددًا من النصائح لحماية المواطنين من مضاعفات موجة الطقس الحار    لأطفالك.. طريقة عمل ميني الكرواسون بالشوكولاتة    قافلة دعوية مشتركة بين الأوقاف والإفتاء والأزهر الشريف بمساجد شمال سيناء    لعدم تركيب الملصق الإلكتروني .. سحب 1438 رخصة قيادة في 24 ساعة    بشهادة عمه.. طارق الشناوي يدافع عن "وطنية" أم كلثوم    في يوم الجمعة.. 4 معلومات مهمة عن قراءة سورة الكهف يجب أن تعرفها    "الإفتاء" توضح كيفية تحديد ساعة الإجابة في يوم الجمعة    تفاصيل حادث الفنان جلال الزكي وسبب انقلاب سيارته    الأمن العام: ضبط 13460 قضية سرقة تيار كهربائى خلال 24 ساعة    محافظ أسيوط ومساعد وزير الصحة يتفقدان موقع إنشاء مستشفى القوصية المركزي الجديد    بحوزته 166 قطعة.. ضبط عاطل يدير ورشة تصنيع أسلحة بيضاء في بنها    روسيا: مستعدون لتوسيع تقديم المساعدات الإنسانية لسكان غزة    أحمد السقا عن أصعب مشهد بفيلم «السرب»: قنبلة انفجرت حولي وخرجت سليم    كوريا الجنوبية: بيونج يانج أطلقت صاروخًا باليستيًا تجاه البحر الشرقي    بعد 3 أسابيع من إعلان استمراره.. برشلونة يرغب في إقالة تشافي    برنامج للأنشطة الصيفية في متحف الطفل    ليفربول يُعلن رحيل جويل ماتيب    مصر تفوز بحق تنظيم الاجتماعات السنوية للبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية في 2027    هل يمكن أن يؤدي الحسد إلى الوفاة؟.. الأزهر للفتوى يجيب    الحبس والغرامة.. تعرف على عقوبات تسريب أسئلة الامتحانات وأجوبتها    مواعيد مباريات الجمعة 17 مايو.. القمة في كرة اليد ودربي الرياض    تأهل هانيا الحمامي لنصف نهائي بطولة العالم للإسكواش    انطلاق قافلة جامعة المنصورة المتكاملة "جسور الخير-21" المتجهة لحلايب وشلاتين وأبو رماد    تقنية غريبة قد تساعدك على العيش للأبد..كيف نجح الصينيون في تجميد المخ؟    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17-5-2024 في المنيا    انطلاق امتحانات الفصل الدراسي الثاني لطلاب الشهادة الإعدادية بالجيزة.. غدا    حدث ليلا.. أمريكا تتخلى عن إسرائيل وتل أبيب في رعب بسبب مصر وولايات أمريكية مٌعرضة للغرق.. عاجل    يوسف زيدان: «تكوين» امتداد لمسيرة الطهطاوي ومحفوظ في مواجهة «حراس التناحة»    بسبب عدم انتظام الدوري| «خناقة» الأندية المصرية على البطولات الإفريقية !    أستاذ تمويل يكشف توقعاته بشأن ارتفاع سعري الذهب والفائدة    مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17 مايو 2024    هانئ مباشر يكتب: تصنيف الجامعات!    برج الجدى.. حظك اليوم الجمعة 17 مايو: "جوائز بانتظارك"    " بكري ": كل ما يتردد حول إبراهيم العرجاني شائعات ليس لها أساس من الصحة    لا عملتها ولا بحبها.. يوسف زيدان يعلق على "مناظرة بحيري ورشدي"    طارق مصطفى: استغللنا المساحات للاستفادة من غيابات المصري في الدفاع    ترقب المسلمين لإجازة عيد الأضحى وموسم الحج لعام 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نص رواية سعاد سليمان "غير المباح" (1 من 2)
نشر في المشهد يوم 13 - 05 - 2013

لم تعد فتنة الحكي سلاحها ، قد تشتاق أحيانا لغزل خيوط الخيال الذي يسري بعقلها ليلا ونهارا، هل جف نبع الليالي الجميلة؟
بعدما فرغت حكاياها الطويلة ، طواها الزهد ، أغلقت مقاليد سحرها ، حتى عندما يلح عليها الحنين للقص وترى الشوق و الرجاء في عينيه ، لا تأخذها به شفقة أو رحمة ، وبتحد لا تخجل من إعلانه ترشقه بجواب لا يحتمل المراوغة و إن لم تنطقه ، فهي تصوبه إليه في كل لحظة ، لم تعد تطيقه هذا الشهريار ، تتساءل : أبعد كل هذه السنوات أحتاج لما أرويه له حتى يمنحني ليلة أخرى؟
لا.. لم يعد شهرياري ، لن يملك بعد الآن مصير شخوصي ومدن أحلامي ، رغم احتياجي الشديد للحظة بوح بما يفيد به عقلي وأضعت عمري اغزله لك رؤى ونهر حكمه لم يغرك فيض نورها بإضاءة كل المساحات المظلمة في عقلك ، أمنحك الحكاية تعيد تشكيلك ، فتتلهى بما تحفزك إليه ، فقط تقتل فيه مللك ورتابة مشاعرك ، تشغلك نساؤها ، وتبهرك تفاصيل اللهو ، تضيع الحكاية وتضيعني بحدود أسئلة تنهشني ، ولا يبقى مني ومنها سوى ما يزيد غرورك وتفاهتك ، ومايزيد خوفي أن انتهك محظوراتك غير المعلنة ، لذا فلن أضيع ما بقى من لحظات عمري حكاءة لمن امتلكني بسيفه ، ولكنها آخر الحكايا أختزنتها تؤنس وحدة أيامي الباقية ، أخاف أن يأزف موتي الذي أحسه وشيكا دون أن أكمل ما خلقت لأجله ، وكيف أترك سطوري ناقصة يملؤها الخواء؟
**************
تفيق شهرزاد من حديثها الصامت المرتبك تتعجل الثواني والدقائق تترقب ظهور دنيا زاد قبل أن تودع هذا العالم بماضيه وحاضره ومستقبله ، بأسراره وشهرياره . تنصت لوقع أقدام دنيا زاد ، ملاذها الأخير ووسيلتها الدائمة للنجاة .
هكذا استقبلت شهرزاد أختها بوجه يرتسم فوقه الحزن ، ويعلوه شحوب الموتى
: تشقق لحمي وجف .. أسمع تكسره.
أيقنت دنيا زاد هراء كل محاولات وكلمات المواساه لمداواة جروح امرأة كانت تنافس النور والبهجة . ترسل شهرزاد زفرة موجعة ، ترجو أختها أن تحفظ عنها آخر الحكايا ، تتلفت بحثا عن مجهول ، تتسمع صوت الهواء ، تهمس
: إنه قريب ... يحوم حولي ، أحسه في كل مكان !
: شهريار .. تؤكد دنيا زاد !
:لا.. بل الخوف الذي يستهلك طمأنينة النفس ، سنوات طويلة لم أعد أحصيها وحارس الموت لا يغفل عني هل عينه شهريار مراقبا لروحي؟
كل ليلة يراودني الحلم اللعين سيف شهريار ينغرس في رقبتي حتى المنتصف ، أصرخ ألا يقتلني ، ثم أتوسل أن يكمل قطع الرقبة كي أستريح .
من روحها تنثر دنيا زاد دفئا وحنانا على شهرزاد زهرة الدنيا التي صارت أوراقا جافة ، تخاف أن تضمها فتسقط وريقاتها ، تلمسها بحنو وحذر ، تهدئ ارتعاشة جسدها الهزيل.
تلمح شهرزاد حركة خلف الستائر فلا تبالي ، تهمس بوهن :فلتسمعي آخر حكاياي ، لو سمعها شهريار لقتلني ، لا وقت لدينا ، تحكي شهرزاد ، وقد استعاد وجهها رونق السحر :
بلغني أيتها الأخت العزيزة..أنه في أحد بلدان الدنيا الكبيرة ذات الحضارة العريقة أن حاكمها ، استيقظ ذات صباح يرافقه أعوانه من كبار الأطباء والعلماء والمشايخ والقساوسة ورجال وسيدات أعمال في بطانته فلم يجدوا أحدا بالمدينة ، كل شئ ساكن في المدينة الصاخبة ، توقفت حركة السيارات ، خلت الشوارع من المارة ، وكأنها مدينة أموات، لا ظل فيها حتى لشبح!
ها هي الارض مازالت صلبة تحت أقدامهم ، لم تنشق ولم تبتلعهم ! من سلب المدينة أهلها! هل طاروا مع الرياح؟
نما العبوس فوق وجوه اكفهرت بالدهشة والحيرة ، ترى أين ذهبوا ، لا ضحكة امرأة ولا صرخة طفل ، ولا همسة رجل ، هل حل بالبلدة طاعون أهلك الشعب؟ إذا فأين الجثث؟ أم ارتفعت الأرواح بأجسادها ؟ وإذا كانوا أحياء فأين هم؟ هل صورت لهم عقولهم الاختباء في سراديب تحت الأرض؟
استدرك الحاكم فسأل أعوانه : مابال السراديب السرية التي حفرناها للطوارئ؟ أليست خاصة بنا؟ فكيف اكتشفها الشعب؟ وبسرعة تتحرك مجموعة الأعوان يملؤها الأمل والاستعداد لعمل شاق لمعاقبة هذا الشعب الذي جرؤ على استغفالهم ومرواغتهم بهذا الاختفاء الجماعي المفاجئ ، كثرت التخمينات والظنون ، ربما هاجر الشعب ، إلى البلدان المجاورة ! ولكن متى وكيف؟ أو اختطفته كائنات فضائية ؟ أو من الجائز أن قنبلة أتت على المدينة نسفت شعبها !
يثور الحاكم :إذا كان ما تدعونه صحيحا فكيف لم نشعر أو نرى؟ واستبعدت كل الظنون ، توحد السؤال أين البشر؟
تاهت الإجابات ولم يعثر الحاكم على تفسير منطقي أو خيالي لما حدث ولم يصله سوى همهمات مبهمة ! غامت الرؤى ، وكأنما ثبتت أحقادهم على هذا المشهد الخالي من الحياة
..وعبثا أن يظهر للشعب أثرا، حتى عندما قام الأعوان بتمشيط المدينة وسراديبها تحت الأرض ، وفوق أسطح المنازل ، وجرى نهرهم الذي جف وصار طميا يسكنه الظمأ ، وبعد طول بحث في المدينة بأزقتها وحواريها ، خرائبها وميادينها ، فزع الحاكم وأعوانه ورفضوا تصديق ما أصبح حقيقة أمامهم ، ولم يستطع أحد منهم حتى في أكثر شطحاته الخيالية أن يصدق هذا الواقع ، صفع المنظر وجوههم الذاهلة ، أصابهم الرعب، كادت المفاجأة تحولهم أصناما.
في الميدان التاريخي الكبير والذي أصبح خرابا مهجورا بعدما كان يحمل نقوش حضارتهم وعلمهم القديم ، وجد الحاكم وأعوانه جافل لا حصر لها من الفئران بمختلف الأنواع والألوان والأحجام تصرخ بأصوات مزعجة ، يستحيل احتمالها ، تخترق الميدان الفسيح بهوس شديد، تقفز بغضب في وجوه الواقفين ، تتصارع على الجحور القليلة حول المكان ، من أين جاءت كل هذه الفئران ؟ أين الشعب؟ بدهشة يسأل الحاكم ، يرفض تصديق ما يبدو انه الحقيقة المؤكدة ولا شئ سواها ، إن شعبه قد تحول جميعه إلى فئران يحيطون به بعدما هرب أعوانه فزعا ورعبا.
*****
الفصل الثاني
" الحق ثقيل، لذا فالذي يرضي بحمله قليلون ، والباطل خفيف لذا يسارع الكثيرون لحمله، وهم أيضا الشهود والمدافعون "
"من برديات منف"
يخرج شهريار الذي كان يسترق السمع لحديث شهرزاد من مخبئه خلف الستار ، حينما صرخ حكيم الليالي مستنجدا به أن ينقذ أبناءه الخمسة المتقاتلين على السلطة في صراع طويل بدأ بينهم، ولا أحد يعلم كيف سينتهي؟ مصحوبا بسيل هادر من لعنات شهريار ذهب الحكيم أسفا، وما بين غضبه ومغالبة شوقه
لها يواجه شهرزاد مهددا أن تكف عن هراءاتها.
تومض عينيها بمكر لم يزله عبء السنين:ألا تروقك الحكاية؟ أما زلت تهوي قصص الجواري الحسان وبين مغامرات العشاق تتراقص نبضات قلبك؟
إن هراءاتي التي تسخر منها كانت زاد روحك الذي لم تشبع منه يوما، لماذا لا تكف عن نبش روحي؟ كيف تستبيح قدسية عالمي ؟ لم يعد هذا حقك.
ساخرا يتساءل شهريار : ومن سلبني هذا الحق؟ الآن بعدما صرت فريسة لخداعك ، فمنحتك عمرا ووجودا لا تستحقينه وتجاوزت سيفي الذي مازال يشتاق كثيرا لدمك.
تقاطعه غاضبة: أمنحك دمي ترتوي منه وليكن آخر قربان أهبه تكفيرا عن موت مؤجل.
منهكا يركع شهريار: ألأنك دائما تشعلين ظمئي، يطاردني صوتك.. أستجدي دفئك في صحوي ومنامي؟
ترميه شهرزاد بسؤال حيرها طويلا: كيف ينشد الدفء من جف نبعه وتيبس الإحساس بدمائه ، مازالت لمساتك تمزق جسدي ، منحتك برودة روحي وارتديت الصقيع، أطفئ نيران الجسد المتوهج بلهفة للارتواء.
في صدرك وحنانك المخادعين بحثت عن السكينة ، فأودعتني القبر حيا يا شهرزاد!
بحسم : لم تشبع حنيني للارتواء ، لم أخترك ولم أجدك أبدا زادا لقلبي الجائع ، وعليك الآن أن ترحل عني .. متعثرا في شيخوخته ، ناظرا حوله بريبة وشك ، يمضي شهريار حاملا عطشه وشوقه خارج حدود همسات شهرزاد .
تهفو شهرزاد للراحة ، تخايلها الكلمات ، تعود برعشة وهج الحكاية ، تقترب من دنيا زاد ..
بلغني أيتها الأخت العزيزة : أن غضب الحاكم وصل أقصى مداه ، فعقد اجتماعا عاجلا ، يستجوب فيه الأعوان عما حدث للشعب ، ولماذا ؟ وأين ؟ ومتى؟ وكيف ؟
وما إن بدأ الكلام حتى قاطعه أحدهم بحماس شديد قائلا: لأنهم طغوا ، إنه شعب غضب الله عليه وباء بإثم عظيم ، ابتعد عن طريق الله ، اختار الضلالة طريقا " وما يأتيكم من خير فمن عند الله وما يأتيكم من شر فمن أنفسكم " .
وواصل في حماسه : ما حدث من فضل الله وإبقائه علينا في أحسن صورة لخلقه لهو دليل حاسم قاطع على أننا نحظى برضاه " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " فأبقى على خلقنا في أحسن تقويم ، ورغم هذا سيشيع الحاقدون أننا سبب انتكاسة هذا الشعب .
ضاربا الهواء بقبضة يده : ألا سحقا للقوم الظالمين ، خسئوا ، ومن يظلمون ويتهمون؟..نحن؟ من نشقى ونعمل على راحتهم؟ نواصل الليل بالنهار .. نكد ونجتهد تحت زعامة زعيمنا مشيرا إلى الحاكم وقيادة قائدنا الذي بحكمته نهتدي وعلى طريقه وخطاه نسير.
يمنع استرساله تصفيق حاد يقطعه صوت شاعر الحاكم معترضا: الحق..والحق أقول إن هؤلاء الذين نكيل لهم الإهانات .. من حلت بهم الكارثة فيهم آباؤنا وأمهاتنا وفلذات أكبادنا.
يقطع بوادر اندماجه في خطبة طويلة نظرة ساخطة من الحاكم فيشده أقرب الواقفين بجانبه ، يتلجلج باضطراب ، يهبط غائصا في مقعده.
تنحنح الحاكم واعتدل في جلسته وهو يعيد هندمة كرافتته الحريرية محاولا التحلي بالهدوء:أيها السادة..أنتم رجال المدينة وكبراؤها .. المسئولون أمامي عن أحوال هذا البلد الآمن ، ومنذ أن حلت بشعبنا الحبيب تلك الكارثة لم يقدم أحدا تفسيرا لما حدث .
يبادر مسئول شئون مجلس الحاكم : سيدي.. إنني أعلنها صريحة ، لقد تهاون السيد مسئول الصحة في الحفاظ على حياة وصحة المواطنين فاستفحلت أمراضهم وهكذا حلت الكارثة .
يهب مسئول الصحة فزعا : لا يا سيدي.. هذا محض افتراء يتهمني به زميلي المسئول لنفي التهمة عن صديقه مسئول شئون " الفرفشة والنعنشة " باعتباره" بيروق له مزاجه ، ويعكر مزاج المواطنين الغلابة فأصابهم بالإحباط والغم من البلاوي اللي بيعرضها عليهم سيادته كل يوم في وسائله المسموعة والمرئية "، وأدى هذا إلى انفجار كانت نتيجته الطبيعية تمزق خلاياهم الحساسة فتحولوا فئرانا..وأنا دكتور ومسئول علميا عما أقول ، وعلمي غير مشكوك فيه، فكما تعلمون أنا حاصل على كل شهاداتي من أشهر جامعات العالم المتقدم ومستعد حالا لتقديم تقرير يفسر الحاله الصحيه للشعب المسكين .. وقانا الله واياكم مصيره
تتداخل فوضي الكلمات بين الجميع ، ينفرد كبير الاطباء بالحديث : اسمحوا لي ، مع احترامي الكامل للسيد الدكتور مسئول الصحة فإن تشخيصه للحاله غير دقيق علميا ، فاذا سلمنا جدلا بحدوث انفجار للمواطنين فهذا لا يحولهم من بشر إلي فئران ، ولكن الي اموات .. وحكايه الشهادات العلميه لسيادتك دي كلنا عارفينها.. اما التشخيص المبدئي للحالة فأرجعه لنوعيه الطعام ، ويملؤني الشك بأنها مؤامره من الخارج لسلب هذا الشعب العريق حقه في الحياة الكريمة التي وفرها له حاكمنا العظيم خلال مسيره عطائه الممتده ثلاثين عاما ، ونطمع في المزيد من ديموقراطية حكمه والكثير من خطوات التنمية التي ما زال يسعي لتحقيقها ، وهذا الشعب .. هؤلاء المواطنين الغلابة، يجهش بالبكاء " يا عيني عليهم.. حالهم يصعب ع الكافر" يهدأ قليلا، اعتقد تحديدا ان التسمم الغذائي جاءنا في ارغفة الخبز المستورد من الدوله التي اصبحت صديقه ، والمتقدمه تكنولوجيا وحربيا ونو....
يحتج وزير الخبز: ألفت نظر الزميل لخطورة ما يقول وارفض بشدة هذا الاتهام وأطالبه فوراً بالاعتذار ، إن تاريخي معروف فأنا اكثر منه وطنيه ولا اقبل اي شبهه تطعن في شرفي وسجل نضالي الذي كتبته بروحي ودمي
تتعالي الاصوات ، تتداخل ، تخرس جميعاً عندما يصرخ الحاكم محتداً : كفي مهاترات ، حتي الان لم افهم السبب ، ولماذا لم نتحول نحن .. يضع يده علي رأسه ويرفع حاجبيه ، نحن فئراناً مثلهم؟. اضطربت قاعه الاجتماع لغواً وفوضي حين اكتشف الساده المجتمعون بعض الفئران تجري بسرعه ، يتحاشاها المشايخ خشية نقض وضوئهم..ذهل الحام من ازدياد أعداد الفئران المتسللة ، أصابه الذعر ، انسحب معلنا رفع الجلسة والعودة مساء بعد تنظيف القاعة من الفئران المدنسة.
************
الفصل الثالث
" حقا إن الأرض تدور كعجلة الفخار واللص أصبح صاحب ثروة "
" من أقوال ايبور"

حول نوافذها يحوم، يتحين الفرصة. عبثا يحاول التقاط كلمة..معنى..تخترق أذنيه صرخة هلع تشق ضباب الليل وتمضي كالسهم لقلب شهريار ، بينما تسقط شهرزاد تقلب وجهها بأركان الغرفة ، علها تجد مهربا مما تراه ، جسد ابنها حدشيار المسجي في دمائه وبرقبته سيف أخيه حزم يار ، وزوجته الجزعة والتي تندب بصوت ناعق :" راحت رجال العز و الهيبة وجت رجال ما تستحي العيبة".
ترمي حزم يار قاتل زوجها بنظرة كره أفزعته فنكس رأسه لكنها لم تمنحه أمل التراجع :" الموت لم يأخذ الرمة .. ياخد المليح وصاحب الهمة "
بأظافرها تخمش وجه حزم يار ، خدشت أيضا وجهها ، اندفعت في هياجها تمزقه ، تمزق نفسها.
منكمشة في ركن قصى تتكور شهرزاد على نفسها ، لم تعد تشعر بشئ ، تمسدها دنيازاد والدموع ترتجف في عينيها : " هو الموت يا شهرزاد لا منجى من الموت، والذي أحاذر بعد الموت أدهى و أفظع".
عبثا حاولت شهرزاد الفكاك من غوايه الحكاية فلم تجد مفرا سوى التورط فيها، راحت والرعب يتملكها اصطياد الخيالات الجامحة للكلمات ، تقول شهرزاد ..
بلغني أيتها الأخت العزيزة:
إن مندوبي وكالات الأنباء العالمية قد تجمعوا في زحام شديد، انطلقت فلاشات الكاميرات ، امتدت أسلاك الميكروفونات ، تعددت الأسئلة تشق رأس الحاكم وتدق بابا جديدا للحيرة والارتباك ، انشغل بعض الأعوان برسم ضحكة بلهاء ، وتهيئة أنفسهم أمام عدسات المصورين المفاجئة ، بصوت صارخ أمر الحاكم كبار رجال الشرطة بعدما صار صغارهم ضمن فئران الشعب أن يفسحوا له طريقا بين الزحام، يحمونه من هذا الكم الهادر من صحفيين ومراسلين لم يرهم من قبل ، حتى في احتفالاته السنوية بعيد ميلاده ، وعيد تولية الحكم ، خاصة من كان يدعوهم ويجزل لهم العطايا السرية والعلنية ، لم يكونوا يوما بمثل هذا الاهتمام ، راودته ضحكة ساخرة عندما تذكر صوت شخير أحدهم أثناء القائه خطابه السنوي في المجلس الموقر العام الماضي .
بعد طول جهد أفسح كبار رجال الشرطة طريقا للحاكم وأعوانه بين تدافع المراسلين ، وأغلقوا فورا باب قاعة الاجتماعات ، فكما أعلن الحاكم ( الجلسة سرية للغاية).
ما إن استوى الحاكم في مقعده ، ضرب بيده فوق مكتبه الفخم ، مهددا متوعدا بالويل العظيم لمن يتفوه بأية كلمة قبل السماح له ، بدأ يقرأ من ورقته : حضرات السادة الأعوان حتى الآن لم يقدم تفسيرا لما حدث ، وكيف ولماذا؟ وكالعادة فشلتم في الاتفاق على رأي واحد ، والآن بعدما تسرب الخبر عمدا ، وأصبحت الكارثة التي حلت بشعبنا حديث العالم ومثار اهتمام الدول العلمية القوية التي قد تفرض علينا عقوبات دولية إذا ما طبقت مواد قانون حماية الإنسان أو الحيوان ، وما أخشاه أن تظن خطأ أننا السبب المباشر لما حدث للشعب ، وتطالب بحق حمايته، ومن يعلم قد تلجأ إلى تحريره بالقوة . حضرات السادة ، الموقف أكثر من خطير لم يعد لدينا الوقت لشرح الأسباب خاصة أنهم تجاهلونها ، والسؤال الذي يفرض نفسه الآن ما هو الحل؟
لم تفسر المناقشات الطويلة إلا عن الموافقة بالإجماع على تسخير كل أجهزة الحكم لإنجاز المهمة الوطنية " علاج الشعب حتى يعود بشرا".
..بدأ مسئول الأمن و الحماية يرفع يده بحذر طالبا الحديث، يتلفت حوله بنظرات ثعبانية ماكرة وبصوت يسبقه الفحيح :" في دقائق قصيرة سأشرح اقتراحي ووجهة نظري ، وسأعيد عرض مشروعي ، وإني على ثقة أنه الحل السريع لما نحن فيه ، بتوتر يعيد ترتيب أوراقه : عندما قالوا الشعب مكتئب تقدمت بمشروع ( رفض حينها ) أطالب فيه بالمزاج لكل مواطن ، وهذا المشروع كان سيحقق طفرة في تكوين الشعب أو على الأقل تجنيبه ما حدث ، ومن خلال موقعي ، وبدافع من واجبي الوطني ، طبقت مشروعي في نطاق متوسط ، فكثيرا ما تغاضينا عن التجار الكبار للصنف ، وللعلم معظمهم أصدقائي ، حتى ما كان يتم ضبطه من البضاعة نحرق ربعه فقط ، ولم نقصر " يلتقط أنفاسه " قالوا: الشعب عنده كبت ، فتهاونا في إغلاق منافذ المتعة المعروفة فماذا أفعل؟ إن ماحدث لشعبنا ... يبكي وينظر للحاضرين خجلا " سامحوني دول صعبانين عليا قوي ، أقول إيه أنا أكتر واحد مضار في المصيبة دي " ، فهل تعلمون أنني تعبت بحثا عن عائلتي فوجدتهم تحولوا جميعا إلى فئران . أما عن توريد الصنف ، فأرجو الاعتماد على شخصي المتواضع ، وأعدكم بأني لن أقصر أبدا في أداء واجبي ، أما المشكلة الثانية : منافذ المتعة ، فلا تدخل في نطاق اختصاصي!
نظرات ذات مغزى تبادلها الحاضرون ، تهامس مسئول الخبز..وهل يكفي مخزونه من البضاعة لكل هذه الملايين؟
.. بسيطة يقول مسئول النعنشة .. يمكنه الاستيراد المهم أين نصيبنا من الصفقة ؟.
اقترح مسئول الخبز تسريب ورقة لمسئول الأمن والحماية تحمل ثلاث كلمات يختار احدهما ( المشاركة النسبة إلغاء الصفقة ) .. بهزة من رأسه أرسل مسئول الامن والحماية الموافقة علي الاختيار الأول وتعفف بعض الأعوان عن المشاركة خوفا ورهبة من مسئول الأمن والحماية وزهد الآخرون طمعا واملا في صفقات أخري يراعيهم فيها زملائهم الثلاثة .
بخبرته الطويلة يستشف الحاكم مايدور تحت الترابيزة " يسرها في نفسه ، وعلي غير المتوقع يهب أحد كبار المشايخ الخمسة زاعقا : هذا منكر وضلالة ، لن أوافق علي هذا المشروع فهو حرام .. حرام ، شاركه أحد كبار القساوسة مؤكدا أن محاولة تخدير الروح التي هي ملك الرب يُعَد حراما .
نطق الحاكم ضاحكا : وأنا أوافق علي رفض المشروع ملقيا بنظرة تشف للوزراء الثلاثة شركاء الصفقة .
تعالت أصوات المراسلين خارج قاعة الاجتماعات بوصول مندوبي منظمات حقوق الإنسان وجمعيات الرفق بالحيوان ، يعود الحاكم مستدركا الموقف ، يكرر السؤال نفسه : ماهو الحل؟؟ .
****
الفصل الرابع
" إن حدود الحق واضحة ، والحلال بُين والحرام بُين والمرء يفعل ما تعلمه من ابيه "
من تعاليم بتاح حتب
يقول شهود عيان إن العنف والقسوة التي فرضها حزم يار دستورا لحكمه اشعلت مزيدا من الصراع ، وفاضت قصور آل يار بالأحقاد والمؤامرت ، والتي فشل العقلاء في احتوائها لإصرار حزم يار علي قتل أخيه نظم يار ، بعدما وسوس له جواسيسه وبطانته أنه رأس الفتنة والطامع في عرشه .
وإيقافا لجريان بحار الدم بين أهلهما وشعبهما ، اختار نظم يار مبارزة أخيه الملك ، بعدما فشل في اقناعه باصلاح الأخطاء الفاحشة التي يرتكبها .
تقطعت أنفاس الأخوين لطول مبارزة تعادلت فيها مقدرتهما القتالية ، فأوعز حكيم الليالي لأنصار الطرفين الرجوع لصوت العقل رافعاً كتاب الليالي فوق حد سيفه يتبعه الباقون .
وتقديرا لحكمة ألف ليلة تراجع المتبارزان ، اقسما بحياة أمهما واهبة الليالي الألف وصانعة وجودهما أن يرتضيا تحكيم ضميريهما في تقسيم مملكة شهريار بالعدل .
وما بين القسم ولفتة الود للقاء قلوب لم يكتمل شق السيف رأس نظم يار ، فسقط جسده تحلق حوله الليالي حزينة .
كامرأة عادت من القبر صارت شهرزاد ، تهفهف حولها الوحدة والهواجس وأسئلة بلا إجابات : لماذا يا دنيا ؟ كيف يترك ابن قلبي أخيه نهبا للطيور الشرهة ؟ هل مزقته الجوراح وأخذته بعيدا ؟ متي عرف أبناء شهرزاد الغدر والخسة ؟
بين طيات أحزانها تخفي دنيا زاد ما لا يصدق ، حينما رأت حزم يار يرشق بسهامه جمجمة أخيه التي أصبحت تسليته المفضلة يمضي بها أوقات فراغه .
اعلم يادنيا ، أنتم الذين لا تعلمون ، تقول شهرزاد وهي تخطو مرتجفة تناجي غائبا ، وكأن ما حدث لا يخصها تعاود الحكي ، تاركة دنيا زاد للدهشة والفضول .
بلغني ايتها الاخت العزيزة :
إن رنين التليفون المتواصل والذي تجاهله الحاكم وأعوانه قد يحمل حلا ، نقله احدهم الذي تطوع بالرد ونقل نص المكالمة مما زاد حيرتهم ، خمسة من السجناء المليونيرات بينهم مسئول سابق بتهمة الاستيلاء علي أموال المدينة بطريق غير مشروع لم يتحولوا فئرانا !!!
ليس هذا فقط ، ولكنهم يعرضون المساهمة في حل مشكلة الشعب بكافة إمكانياتهم الانسانية والعقلية ، ورغم علم الحاكم بالمصالح المتبادلة بين أعوانه والسجناء فقد أفرج عنهم بعدما تعهدوا برد ما نهبوه من اموال المدينة ، حيث أوشكت خزانتها علي الإفلاس ، وأنهي الحاكم الجلسة معلقا : ليس شرطا كل ما نهبوه يكفي بعضه .
************
شارك المليونيرات الخمسة مجلس الحاكم وأعوانه لعرض حلول لعلاج الشعب ، وعلي غير رضا سيدة الأعمال الجميلة التي مازالت تصر علي اقتراحها باستبدال الشعب وللتعريف بها كما تقول عن نفسها في كل الوسائل المرئية " إنني عصامية بدأت من الصفر " هوايتها المفضلة الزواج بكبار السن الأثرياء ، تفضلهم دائما رجلهم والقبر " وتمر حاليا بحالة نفسية وعصبية سيئة إذ خذلها آخر أزواجها ، وعلي حد تعبيرها مكلبش في الدنيا " فأهملته ولم تعد تحرص علي تخبئة بعض قطع الملابس الداخلية المحشورة دائما في حقيبة يدها ، وتتجاهل اسئلته اللحوح ، لماذا لا تمارس أعمالها إلا ليلا ، وتفوح منها رائحة .. يعرفها جيدا .
بإغراء تجيد ممارسته تطلب السيدة فرصة أخيرة لدراسة مشروعها واستيراد شعب جديد وبسرعة تلاحقهم بعرض عدة كتالوجات وألبومات تشير قائلة : هذه بعض صور لعينة الشعب المقترح استيراده " ياي حاجة اورجينال خالص ، ح يبقي شباب كلهم حلوين ونضاف كده ، وريحتهم تهفهف ، عيون خضر وزرق ، أما البنات أيه "مُزز" تعرض الصور علي الحاضرين فأغمي علي أحدهم ، واستأذن آخر لدخول دورة المياه ، وشهق البعض إعجابا ، تكمل السيدة : أما البيبيهات الاطفال يعني توفيرا للنفقات بلاش منهم طبيعي إن الشباب والبنات ح يخلفوا أطفال زيهم حلوين ، وبكده نعمل شعب جديد وعلي مزاجنا ، بتكلفة أيه ملاليم ، مليار دولار بس ، ويتحقق الحلم الوطني اللي عشت طول عمري أحلم بيه .
يفزع الرقم المطروح الحارس باشا أحد المليونيرات المفرج عنهم ، ورغم مدة سجنه لم تخف عليه معرفة الطريقة التي تمارس بها السيدة أعمالها ومناطق نفوذها !
****************
متذللا يجلس الحارس باشا تحت قدمي الحاكم : لا يا سيدي لا توافق علي استبدال شعبك ، تعلو أصوات تمنعه من الاسترسال ، يكمل وسط الضجيج : ماذا لو عاد شعبنا العظيم إلي طبيعته بمعجزة سماوية ؟ هل نصدَرهم لدولة أخري مثلا ؟ إن هذا المشروع استعماري ، من يضمن ياسادة الشعب الجديد ؟ هل سيكون مطيعا أم سيرفع شعار التمرد ويطالب بتغيير قوانيننا العريقة ودستورنا الخالد ؟ وربما يطالب بتغيير نظام الحكم ، يتمكن من الاستحواذ علي إنصات وإعجاب الحاكم موجها الحديث إليه : الكارثة ياسيدي انهم قد يطالبون بتغييرك أنت شخصيا ، ويرفعون شعار " كفاية حرام " المنتشر حاليا في بعض المدن التي تريد السيدة استيراد الشعب الجديد منها ، ولا تنس ياسيدي أنهم شعبك الذي أقام لك التماثيل في كل مكان وجعلك رمزا له ، والذي يهتف دائما أن يفديك بالروح والدم ، وهو من يتحمل عناء ومشقة مراحل التنمية الأولي والثانية وحتي الألف ، هل جرؤ علي الاعتراض ؟ هل سألوا أين عائد التنمية خلال الثلاثين عاما الماضية ؟ ياسيدي بالبلدي كده " من عاشر القوم " " وخلينا زيتنا في دقيقنا " واللي نعرفه أحسن من اللي ما نعرفوش " تنفجر السيدة غضبا : وأيه هو الحل ياحكيم زمانك ؟
ينحني الحارس باشا بأدب أمام الحاكم : لقد اتخد سيدي قراره مسبقا ، ووافقتم حضراتكم علي علاج الشعب ، وأقترح لسرعة الإنجاز الاستعانة بالساحر المشهور مستشار الرئيس الأسبق للدولة القوية ، له قدرات عجيبة رأيتها بنفسي في المرئيات الخارجية ، ودعوته لن تكلف كثيرا ، فقط الإقامة في قصركم الفاخر ، يخرج من جيبه آلة حاسبة : ولو حسبنا أجره دولار عن إعادة كل فأر ، نجد الناتج .. بسيطة كذا مليون .
علق مسئول الخبز ولكن هذا كثير ، لا نستطيع إنفاق أموال الشعب هكذا !! يرد الحارس : نعم ولكننا نعالج بها الشعب ، وسأل مسئول الخزانة : ومن يتحمل فرق ارتفاع سعر الدولار ؟ فأجابه الحارس أنها تصير ضرائب علي الشعب بعد شفائه ؟
لم يستطع أحد المعترضين التفوه بأية كلمة بعد موافقة الحاكم علي الحل الذي قدمه الحارس باشا ، وتركهم يتفحصون صور الفتيات الجميلات اللاتي لن يروهن أبدا إلا صورا .
******************
ظفر الحارس باشا بالصفقة وسط حقد الحاضرين ، وبدلال هَنأت السيدة الجميلة الباشا وأقنعته بقدرتها علي تخفيض ما سوف يتقاضاه الساحر ، والفرق مناصفة بينهما ، وافق الحارس باشا علي مشاركة السيدة الجميلة تحت تأثير إغرائها فسحبته من طرف كرافتته وانتحت به خلف مكتب مسئول النعنشة تؤدي طقوس توقيع الصفقة ، بينما ذهب المسئول ليلقي بيانا مقتضبا قال فيه : لقد توصل حاكمنا المعظم بحكمته لحل مشكلة عودة شعبنا الحبيب إلي طبيعته وقرب زوال الغمة .
***
الفصل الخامس
" إن الأسي يملأ قلبي ، ليتني رفعت صوتي في ذلك الوقت حتي كنت أنقذ نفسي من الألم الذي يعتصرني" .
من أقوال الحكيم أيبوور
أصبح حزم يار صيدا سهلا في أيدي بطانته ، تنفذ وساوسهم كجمرات لهب تشغل عضبه وغدره وتستفز عنفه وقسوته ، يبحث عن مبرر ووسيلة لقتل أخيه الرابع فخر يار أسير سجنه ، كما بدأ يحشد جيوشه لمطاردة أصغر إخوته حكم يار الذي فر هاربا ، متحالفا مع الدولة المجاورة العدو التاريخي لمملكة آل يار والتي استقبله مسئولوها بفرحة وريبة ، وأخضعوه لتحقيق طويل سهَل لهم طريقا للنفاذ إلي المملكة العريقة ، وبحسب اتقافية التحالف ينصَب حكم يار ملكا تحت رعاية دولة التحالف وتخليص مملكة آل يار من ظلم ووحشية حاكمها .
وكأنها تقرأ الغد تقول شهر زاد : مازال حزني وحيدا أكفنه كل يوم ، وفوهة القبر تنتظر المزيد ، تسأل حكيم الليالي : أخبرني هل مكتوب في لوحك المسطور أن اتنفس الألم وأشقي بالعذاب ؟ كيف تسلل الموت إلي أبنائي بينما يحوطني ؟ يترقب روحي ، هل زهدني ؟ كيف فر مني إليهم ؟ بالأمس القريب حشد يار ونظم يار وغدا ... لماذا ؟ لماذا لا يتركهم ويحنو عليَ يحتويني ، يفك اسر روحي ؟ يكتب أخر سطوري اليوم فأنا لا أشتهي غدا أي غد .
يغلق حكيم الليالي كتابه القديم ، يمضي ليدوُن آخر الفصول في تاريخ مملكة آل يار ، تعلو زفرات تكويها اللوعة تقول شهرزاد .. بلغني أيتها الأخت العزيزة :
إن مئات العيون تحدق دهشة لما تنقله عدسات المصورين والمراسلين ومندوبي الجمعيات والمنظمات الدولية من الميدان التاريخي الفسيح ، والذي تحمل جدرانه قصة كفاح هذا الشعب وتسجل حضارته وعلومه ومجده القديم ، ذُعرت الفئران من الأضواء وفلاش الكاميرات التي احاطت بهم فهربوا فرادي وجماعات ، أما المتمرسون منهم فوقفوا مبتسمين ، واستعاد بعضهم الوقفات المعتادة لالتقاط عدة صور من مختلف الزوايا ، وشقت فأرة بنية الزحام تخطف الميكروفون من إحدي المراسلات ، تتخذ وضعا استعراضيا أمام الكاميرا وسط دهشة الجميع الذين ظنوا أن ذلك عملها الأصلي ، ولم يستطع أحد تفسير صوت الفئران ، لذا لم يتمكن المراسلون من إجراء أي حوار مع شعب الفئران ، وانتهز أعضاء وفود منظمات حقوق الإنسان وجمعيات الرفق بالحيوان الفرصة لتسجيل احتجاجهم واعتراضهم أمام الوسائل المرئية علي الظروف الوضيعة وغير الملائمة التي يعيش فيها الفئران ، واختتم المراسلون تغطيتهم بتسجيل الخناقة التي نشبت بين مسئولة جمعية الرفق بالحيوان وزميلتها مسئولة حقوق الانسان لاعتراضها علي وصف الفئران بالحيوانات ، فهم في الاصل بشر ، تدافع عنهم الشرعية الدولية وكافة منظمات حقوق الانسان العالمية .
***********
في لمح البصر نجح الساحر في إخفاء ملايين الدولارات التي حصل عليها وفشل في إعادة الشعب بشرا ، فتوعده الحاكم بالقتل إن لم يغادر المدينة خلال ساعة ، فخرج مطرودا ، وأمام أعوانه استعرض الحاكم خسائر المدينة منذ بداية الأزمة منبها إلي ما تعانيه الميزانية من عجز متراكم ، وأعلن حالة التقشف منذ هذا التاريخ !
العلم ، العلم ياسادة ، ردد كبير الأطباء : كيف تجهلون التقدم العلمي المذهل خاصة في الطب وتلجأون للدجل والشعوذة ، وكأننا نعيش عصور الظلام ، لقد أعددت قائمة بالأطباء العالميين الذين حققوا معجزات في الطب ومازالوا ، وبالفعل وبعد أذن سيدي الحاكم أجريت اتصالات مكثفة معهم ، وقد أبدوا استعدادهم لعلاج الشعب مجانا ، فقط الانتقالات والإقامة ، واستيراد بعض الأجهزة الطبية التي يحددونها لتساعدهم في تشخيص الحالة ، وتحدوهم رغبة أن يوافق سيدي الحاكم علي حصولهم علي بضع مئات من شعب الفئران يجرون عليه تجاربهم العلمية وهذا من أجل خدمة الانسانية .
************
بأجهزتهم العلمية الحديثة نجح الاطباء العالميون في التقاط أعداد قليلة من الفئران الهاربة إلي الجحور التي حفروها في جدران الميدان التاريخي واضطروا إلي هدمها حتي يحصلوا عليهم ، وبعد كثير من الفحوص والأبحاث الدقيقة أعلن الأطباء عجزهم عن إيجاد علاج ، وذكر التقرير الطبي الذي تركوه للحاكم أن جميع خلايا الفئران بشرية ، ولا يوجد خلل واحد في وظائف أجهزة الجسم الحيوية ، والمخ في حالة نشاط طبيعي ، واختتم التقرير بنتيجة وهي أن نسبة ذكاء الفئران تصل إلي مائة في المائة ، ولكنهم لم بستطيعوا تقديم تفسير علمي لذلك .
بنفاد صبر ألقي الحاكم بالتقرير الطبي ، وعاد السؤال يتأرجح ما هو الحل ؟
************
بعد طول تردد اقترحت الفنانة الكبيرة ذات الصيت المعروف استخدام الموسيقي والغناء لعلاج شعب الفئران ، تقول ضاحكة : طول عمره شعبنا فنان بيعشق الموسيقي والغنا تمصمص شفتيها ياسلام الشعب ده هو اللي توجني نجمة الجماهير ياخسارة ، قلبي بيتقطع حسرة عليه ، أنا مستعدة انطلاقا من واجبي الوطني اتبرع بكل البوماتي وشرائط الفيديو كليب وأفلامي لعرضها مجانا !
بتهكم يقول أحد المشايخ : يبدو أن الست بالها رايق ، موسيقي ايه وغنا ياست ؟ أحنا في كارثة يتمتم صحيح ناقصات عقل ودين " يهب واقفا يتبعه زملاؤه ، يلملم جبته وقفطانه : هيا يامشايخ نقيم صلاة استغاثة لعل الله يرحمنا ........سبحانه .
*****************
تنتقل سيدة الاعمال الجميلة بجانب المطربة التي اصابها الوجوم والاحباط ، تربت علي كتفيها : ولا يهمك صدقيني بدون مجاملة فكرتك رائعة وفنك كمان ، ده انا من زمان نفسي اقابلك ونعمل بزنس مع بعض .
بإبتسامة يقول الحاكم " شر البلية ما يضحك " فلنجرب ، أنا فاكر مرة قريت إن الموسيقي علاج.. يحزم أمره أوكيه ، أنا موافق ونشوف النتيجة .
**************
ما إن صخبت الموسيقي حتي تملك شعب الفئران الذعر وولوا هاربين في كل الشقوق والجحور التي زاد عددها ما بين الحوائط وتحت الأرصفة ، وعندما اعتادت هذا الصخب والصوت الزاعق بدا تنطيطهم مع الموسيقي وأخذت بعضهم النشوة فراحوا يرقصون حتي أغمي عليهم ، ولم تخف المطربة سعادتها بنجاح أغانيها في ترقيص شعب الفئران ، فاندست بينهم تشاركهم الرقص والغناء .
************
طالت مدة الجدل حول مشكلة الشعب الذي تحول فئرانا ما بين علاجه واستبداله ، ولم يهتم الحاكم وأعوانه بتوفير أي رعاية له ، الشوارع نظيفة حتي من التراب والقمامة التي اجهزت عليها الفئران بعدما استنفدت كل ما توفر من طعام داخل البيوت وخارجها ، ولكنها فشلت في الدخول للقصور الفخمة ذات الحراسة الاليكترونية التي تمنع حتي دخول نملة ، وبمهارة استطاعت الإفلات من المصائد ونهش الكلاب وفخاخ الطعام المسموم في البيوت القليلة للجاليات الاجنبية ، فراحت تنبش بطول المدينة وعرضها عما يسد جوعها ، فلم تجد سوي دواليب وخزائن مكدسة بما لا يحصي من الاموال والذهب ، احتاروا ماذا يفعلون بها ، وبدون اتفاق بينهم جمعوها ما بين ارجلهم وايديهم إلي الميدان ، فاضت نشوتهم ، عبثوا ماشاؤا بالاموال ، مزاقوا بعضها ، وبالوا علي البعض منها ، وأوقدوا الكثير منها نارا يستدفئون بها ليلا ، تفنن عشاق الذهب منهم في التزين بالجواهر والذهب المنثور حولهم ، وحينما زهدوا في اللهو والزينة احتجت عصافير بطونهم جوعا القوا بكل هذا ، وراحو يبحثون بجنون عن فتفوتة خبز بلا جدوي واستمروا في بحثهم يقطعون المدينة جريا وصراخا .
سعاد سليمان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.