إنه ثانية، موعد تسليم المقال الأسبوعى، الجسد والقلب والعقل منهكون جميعا بما لايسمح بأى كتابة، تنبع الكتابة من مكان دفين، مساحة بين الجلد واللحم بطول الجسد وعمق واتساع الروح، وحين تخرج تكون قد أنهكت كل شىء ووٌلد الكاتب\ة من جديد مع وليده\ها، شخص طبيب حالتى بأنها عرض الإجهاد المزمن، حين يستولى التعب على جسمك ويستقر فى العظام والضلوع ويتربع على الدماغ فتطير ملفات الذاكرة، بدايات اليوم تصبح الأصعب ونهاياته أصعب وأصعب لأنه لا راحة من نوم، وهل تريح ساعات قليلة ما أفسدته السنون؟ أهمس لنفسى أين رسالة نشر التفاؤل والجمال؟ أين الامتنان وكاميرات الإنسانية وصور الشمس بنورها حين تشرق وتنير وتغرب فتنير قلوبا جديدة؟، وتهمس لى نفسى معاتبة، وربما كل هذا فقاعة تهربين إليها من قسوة الواقع، اليأس راحة!" حين يبدأ الجمعة ولا تأتى كتابة، أرسل اعتذارا، كل ما سيخرج منى سيكون عدميا وحزينا ولايليق بجريدة مقاتلة أن أكون مصدرا لليأس فيها، بعد فترة يأتينى رد " حالتك ليست فردية، ربما هى حالة وطن، بل أمة كاملة والاستسلام لها لن يفيد، لك استثناء فريد حتى الصباح لإرسال المقال،نريد مقالا عن التفاؤل، يبعث فى الناس الأمل، لو فعلتِ نعترف لك بتفوق منقطع النظير،" أقرأ الرسالة واتوجه للهايبر ماركت لشراء الأغراض، أصبر على زحام الجمعة وأفكر فى موضوع لمقال ينزع منها اعترافا بالتفوق، التحدى منعش بلا شك! الأمل! الأمل! مممم! لكن الصبية التى تتقافز فى المكان المزدحم دون تقدير ولا رقابة من أهلها، والصغار الذين يتوهون، والأطفال التى تمشى تشنف بأنفها، تأكل الشيبسى وتمسح فى أكمامها وأهاليهم الذين لايحترمون المساحة الشخصية ويتجادلون بصوت عال أو يقفون لأكل الفول السودانى والتشبع منه وليس فقط لاختبار مذاقه يقضون على أى أمل! فكرت أن هؤلاء وأنا معهم من الطبقة المتوسطة بمستوياتها وأن خلف الصورة يختفى ملايين الكادحين والفقراء والمهمشين والجائعين والمدمنين، أى أمل تتحدث عنه المشهد؟ البلد فى سفح الجبلّ! "إيه.. مافى أمل!" مشيت أدندن وأضحك وأتخيل مقالا معكوسا عن ندرة الأمل وأتصبر بفكرة أننى لا أحتاج اعترافا بتفوق الكتابة من أحد، " أصلاً مواضيع تعبيرى كانت بتاخد درجة نهائية وأمى فخورة بيها!" ضحكت لنفسى. لكن التفكير فى أمى دفعنى للتفكير فى ابنتى وابنتها وابنة ابنتها وفى صفوف طويلة من العيال ستأتى للدنيا رغما عنى وسيسألون أين الطريق؟ ويتعجبون ماذا تركنا لهم من مخزون الإنسانية والأمل فى زمن الشتات؟ فهل لدىّ رفاهية فقدان الأمل؟ عٌدت للبيت أرتب المشتروات وأنا أفكر أنه قبل تخزين البقالة وبعد تخزين البقالة وقبل طبخ الطعام وبعده وقبل الادخار لتعليم الأولاد وبعده وقبل التخطيط للغد وبعده، وبأهمية كل هذه الترتيبات وقبلهم وبعدهم علينا أن نتزود بموجبات الأمل وبواعثه، لأننا نجر قاطرة كبيرة من المٌحزن أن نهجرها بمن فيها فى قلب الصحراء، ماهى هذه الموجبات؟ سأبحث، سأبحث بلا شك! ما دفعتنى له الكتابة من محاولة ايجاد الأمل كانت فى ذاتها أمل! المشهد .. درة الحرية المشهد .. درة الحرية