لدى كل مِنا حافظته الخاصة من الاقترانات الشرطية ، وقتما توافر الشرط انتفضت الذكرى بمنتهى الدقة وبصورة فورية من خزانة السنوات واطلقت شراعها فوق باخرتك ، وكأنها بوصلة النفس التى تُهديها الدَرب . وإذا بك تَصمت لثوانٍ مُستغرقاً فى ذلك الشرط وما استدعاه من خندق الذكريات وكأن السنوات لم تمضِ والأحداث لم ترحل والشخوص لم تتغير... إنها حافظة سحرية وأسرارها الكترونية، سرعان ما تطفو على شاشة عقلك مع كافة الملابسات العالقة بها سواء كانت مبهجة أو قاتمة وبنفس موجة الانفعال . وإذا بها تسكنك حالة شعورية نضرة وقتما هاجمتك الذكرى على حين غرة بدون سابق إنذار .. قد تبتسم عند مطالعة إنعكاسات ملامحك المهرولة إليك عبر شريط الذكريات ، أو تعبس حين تُطِل عليك آهاتك من تابوت الماضى .. وخزة مباغتة تلك التى تستشعرها ، ولا يَهم أهى وخزة مؤلمة أم يسيرة ؟ الأهم أنها استحتضرت بداخلك حالة تُعيدك مرة أخرى إلى كواليس الأحداث لتقهر بها ركض الأيام خلفك وما تقطعه المسافات من أزمانك الراحلة . عن نفسى يملؤنى الشجن حين استمع الى تلاوة الشيخ الراحل (عبد الباسط عبد الصمد) .. أشعر أن التأبين لن يكون تأبيناً إلا مع صوته المنساب فى حضرة الألم، وتبدو لى الدنيا كما لو كانت قد خَلت من البشر لحظة سريان صوته بالأجواء، حين تخبو كافة الأصوات عدا أيات الذكر الحكيم المُرَتلَة بصوته الملىء بالطمأنينة، ذلك الصوت الملائكى الذى اقترن فى وجدانى بذكرى رحيل أخى، فإذا ما مرت أصدائه بمسامعى ألقت التحية ثم رحلت وهى تحمل أشواقى وحنينى للأعزاء المُفارقين . كذلك هو فصل (الخريف) .. يحمل لى خصوصية عشقية ، فهو حمامتى الزاجلة التى تهدينى فى كل طواف نسائم عهدى بالحب، فكان هذا الفصل الرائع مهده الأول ومسرح أحداث ذروته ، وكلما ألقى (الخريف) تحيته على أيامى تذكرت أجمل ما فى العمر وراودتنى بهجة دافئة يانعة لم تقتص منها ضربات القدر ولم تمسسها عثرات الحياة . أما رائحة الياسمين الشهية ، فهى لا تذكرنى سوى بعشق الحياة .. وكأنها أكسيرها ، كلما طوقت أنفاسى اخفضَت عنى أحمَالى .. كلما سَرَت فى محيطى وَهبَت لى رونق الحياة ونضراتها ، فكم ودِدِت خلودها إلى جوارى أمداً ، لتطرد عن عالمى رزاز الوهن ورماد الألم وطعنات الكدَر. حقاً ،، ما المتعة إلا بهجة الاستحضار المفاجىء دونما الاستعداد، حين يرتسم على وجهك ملامحاً أخرى اشتقت اليها ، فعليك أن تكون عاشقاً للتفاصيل ولا تخشِ غدر الدنيا ، فكلما مضيت بأركانها، أحرص أن تدون بين شُرفاتها تمائم ذكراك ، وخبىء بمنحنياتها مظاريف إقتراناتك الشرطية التى تحفظ لك عهد لحظاتك .. فمهما نأت بك الأسفار ومهما جدفت بك المجاديف ، ستعيدك تلك الودائع الثمينة مرة أخرى إلى واحة اللحظات الأولى وكأنك لم تبرحها قط . المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية