أعرف.. أن نيران المهرجان التجريبي للمسرح قد انطفأت أو كادت.. وأنها أصبحت الآن تدخل في باب الذكريات أكثر مما تدخل في باب النقد والتحليل. ولكن تأثير هذا المهرجان وعروضه علي الحركة المسرحية العربية يجبرنا علي أن ننظر إلي الوراء قليلاً.. لنخرج بنتائج نهائية خصوصًا بعد أن هدأت العواطف واستقرت النفوس بعد إعلان الجوائز والتكريمات. رجال ونساء لا شك أن لجنة التحكيم التي تكونت من رجال ونساء خبروا المسرح وسرت الحياة المسرحية في دمائهم قد اشتملت علي اتجاهات مختلفة وأذواق متباينة.. يجعل من الصعب جدًا وصولها إلي قرار جماعي واحد ومع ذلك استطاع العرض الكوري الجنوبي المأخوذ عن مسرحية شكسبير الكبيرة (ماكبث) أن يوحد كل هذه الرؤي المتناقضة ويجمعها في صوت واحد. الادهاش المسرحي والحق أن العمل يصل بنا إلي مرحلة الادهاش المسرحي الحقيقي الذي تختلط فيه النظرة التجديدية بالحرص علي المحافظة علي الروح الأصيلة للعمل. وهذا ما سبق أن حققته فرقة أخري من كوريا الجنوبية قبل ثلاث سنوات في هذا المهرجان نفسه.. حيث فازت هي أيضًا بالجائزة الأولي للمهرجان عن عرض مأخوذ عن مسرحية (هاملت) لشكسبير، وها هي المعجزة تتحقق من جديد عن طريق (ماكبث) هذه المرة. أهم ما يلفت النظر في هذا الإعداد الكوري المتميز للمسرحية الإنجليزية العريقة.. هي قدرة المخرج علي الجمع بين الروح الآسيوية الأصيلة.. المختلفة في الكثير من تقاليدها المسرحية القديمة وبين الاتجاه العصري والتفسيرات الحديثة لهذا النص الرائع الذي تحدث فيه شاعر الإنجليز الأكبر عن جنون السلطة والطموح القاتل الذي يصل إلي حدود الجريمة وعن الدم الأسود المراق الذي يلوث التاج الذهبي ويقود إلي الدمار. الروح الكورية من خلال إعداد يتناسب مع الروح الكورية دون أن يضر بالمعني الأصلي للمسرحية الأوروبية استطاع المخرج الماهر أن يوظف كل إمكانيات المسرح الآسيوي.. وأن يدمجها بكل ما وصل إليه التكنيك الأوروبي الحديث من إضاءة وظلال وديكورات متنقلة. واستطاع أن يجد معادلاً شرقيًا.. لكثير من الأسس الأوروبية التي نهضت عليها المسرحية.. فعرض مشهد الساحرات.. الذي جاء (ساحرًا) حقًا بكل ما يحتويه من معان ورموز وجماليات شفافة وصلت إلي أقصي حدود التأثير. أو العلاقة الروحية الجسدية التي ربطت بين الليدي ماكبث وزوجها. أو حتي جنون الليدي وهذيانها، ثم المعارك الأخيرة.. التي قدمت بطريقة استثنائية خلابة.. خصوصًا مقتل الطاغية.. وأخيرًا لعبة كراسي الحكم المعلقة بالهواء والتي كانت تتناثر وتتنقل علي مدار أحداث المسرحية. كل شيء في هذا العرض كان يدل علي تمكن مسرحي واع.. وعلي فهم بأبعاد النص ورموزه وإيحاءاته.. وعن صرح ثقافي متكامل بين حضارة آسيوية غارقة في جذورها إلي أبعد حدود الزمن وبين حضارة أوروبية مازالت تنثر عطورها وتأثيرها علي كل أركان الدنيا. عمل يجمع بين الشمس المشرقة.. والقمر المظلم.. في وعاء واحد يزخر بالمعاني والرموز والموهبة التي تعلن عن نفسها بيسر وعفوية ودون أي مشقة. اجماع الآراء لذلك لم يكن غريبًا.. أن يفوز العرض بإجماع أعضاء لجنة التحكيم دون أي اعتراض أو مناقشة، علي عكس عرض برناردالبا المكسيكي الرائع الذي اختلفت حوله الآراء ولكنه مع ذلك استطاع أن يفوز في آخر لحظة بجائزة الإبداع الجماعي التي يستحقها بجدارة. عرض أخير.. أدهشنا وأمتعنا وأشعرنا كم يستطيع المسرح أن يجدد نفسه وأن ينقي دماءه من الشوائب هو العرض الإيطالي «صعود وسقوط مدينة ماهوني» المأخوذ عن مسرحية برخت الشهيرة والتي كانت واحدة من آخر الأعمال التي أخرجها الراحل سعد أردش للمسرح المصري، العرض الإيطالي.. فهم روح برخت حتي الثمالة.. وعبر عنها بطريقة يختلط بها الاستعراضي بالموسيقي الحية بالكوميديا السوداء بالنقد الاجتماعي اللاهب من خلال مجموعة متميزة من الممثلين شديدة الانسجام استطاعت أن تخلق جوًا (برختيًا) شديد الأصالة مع استخدام أجسام الممثلين وأصواتهم وحركاتهم بهارموني منسجم ومؤثر. صراع مدارس لقد دخلت المسرحية إلي حلبة المنافسة ولكن فازت عليها مسرحية بولندية صغيرة شديدة الذكاء وسريعة الإيقاع.. ولعل بطء الإيقاع في الثلث الأخير من المسرحية الإيطالية هو الذي سبب برود بعض أعضاء لجنة التحكيم تجاهها. ولكن ظلمًا فادحًا دون شك أصاب هذه المسرحية المدهشة في تكوينها وإخراجها وسلاسة أداء ممثليها جميعًا. هذا الظلم أصاب بشكل ما المسرحية المصرية (أطياف المولوية) التي لم تأخذ بمجامع قلوب اللجنة رغم زخم المكان الأثري الذي دارت فيه أحداثها.. والتكونيات المدهشة التي قدمها مخرجها.. وكان سبب إحجام اللجنة عن تكريمها هوإحساسهم أن المكان الخارق للعادة الذي دارت فيه أحداث المسرحية وهو (قبة الغوري) كان هو البطل الحقيقي للعرض، وليس النص أو معالجته أو طريقة أدائه. الرؤية السورية إذن شكسبير ولوركا وسرفانتس في الرؤية السورية كانوا الفائزين الكبار في هذا المهرجان الذي يبحث عن الحداثة والتجديد وهكذا تدور دورة الزمن ويتغلب القديم علي الجديد.. أو يلجأ الجديد إلي القديم لكي يزركش نفسه ويطورها. إنها مفاجأة مهرجان المسرح التجريبي لهذا العام.. وهي مفاجأة ذات وقع ثقيل لو عرفنا كيف ننظر إليها وكيف نحكم عليها. إذن مر المهرجان تاركًا وراءه نيرانًا مشتعلة وأسئلة لا تنتهي وعروضًا من الصعب نسيانها بسهولة. وكان علينا أن ننتقل من الرؤية المتأخرة إلي الرؤية المتقدمة التي تسعي إلينا بخطوات واسعة.. وهي هذه المرة تتعلق بمهرجان القاهرة السينمائي الذي سيرفع أعلامه بعد أيام.. حاملاً جرحه الأليم.. وهو عدم وجود تمثيل سينمائي مصري فيه.. في هذا البلد الذي ولدت فيه السينما العربية والذي كان واحدًا من أوائل البلاد التي شهدت مولد هذا الفن في العالم شهورًا قليلة بعد ولادته في أحد المقاهي الباريزية علي يد الأخوة لوميير. من نوع خاص مهرجان السينما هذا العام يوجه أنظاره إلي سينما من نوع خاص.. سينما لا تعبأ بأسماء النجوم ولا بالتكاليف الفلكية للفيلم.. قدر ما تتوجه إلي الرسالة الإنسانية التي يحملها الفيلم.. كائنة ما كانت الجهة التي تصدر منها هذه الرسالة. وهكذا مثلاً ستري نماذج من أفلام سينمات لم نعتد كثيرًا أن نراها علي شاشاتنا تتألق بمواضيعها ورسائلها الإنسانية.. وبمضونها الجاد الذي يخاطب قلب الإنسان وضميره. كما سيركز المهرجان هذا العام علي نضوج السينما التركية من خلال عدة أفلام (واحد منها مرشح لجوائر أوسكار هذا العام) وعلي وصولها إلي مستوي من الفنية باتت تحسد عليه. كما سيلقي الأنوار علي تنوع السينما الهندية (ضيف الشرف لمهرجان هذا العام) من خلال أفلام تتراوح بين الدراما الثقيلة والدراما الاستعراضية والدراما الإنسانية إلي جانب العرض المتميز الذي سيقام أمام الأهرامات لأبي هول السينما المصرية، شادي عبدالسلام وفيلمه الشهير (المومياء).. إطار ملكي لفيلم ملكي.. طال انتظارنا له.. لنقدم له حبنا واعتذارنا.. وزهونا وكبرياءنا بعبقرية صاحبه. رؤية متقدمة من الصعب من خلال هذه الرؤية المتقدمة.. أن نميز بين الأفلام التي سيعرضها المهرجان وأن نضع لها تقييمًا وإنما سنترك لجمهور قد ضاق ذرعًا بما يراه علي شاشاته من تفاهات سينمائية لا تحتمل.. الحق في أن يكتشف أن السينما هي ليست ما تقدمه له شركات الإنتاج التجارية لدينا وأن بحر السينما الأزرق الواسع والممتد.. بعيد جدًا عن هذه المستنقعات الآسنة التي تحاول أن تسرق اسمه.. وأن تحاول خداعنا بأن السينما هي ما تقدمه هي وليست هذه السينما الأخري ذات الشراع الأبيض المصقول.. التي تسير وتيدة متكبرة علي ألواح زرقاء من المواهب الحقيقية متجهة نحو أفق يشع إنسانية وحبًا وموهبة.