قبل أكثر من ثمانين عاماً، استطاع الفتي الإسكندراني «سيد درويش» أن يملأ الدنيا غناءً وطرباً، حين ضرب بكل الأعراف عرض الحائط، كان ذلك من أجل الوصول بالفن إلي صيغة تربطه بالحياة، لذا كان من الطبيعي أن يهجر أغنيات «حبيبي/ صدك/ خدك/ هجرك/ وجدك/ عيونك/ قلبك»، من أجل فرض لون غنائي جديد يمكنه التماس مع واقع تلك الفترة، فأوجد ما يعرف بالغناء للطوائف وأصحاب الحرف كبديل حقيقي يمكنه أن يطرح- أي سيد درويش- من خلاله أشكالاً أخري بهدف تحريك الراكد في الغناء المصري، فقد غني «سيد درويش» لغالبية الطوائف وأغلب الحرف والمهن، فقدم أغنيات ل «السقايين- السودان- الرشايدة- الشيالين- الشعراء- الأروام- المراكبية- الموظفين- أبناء الذوات- الوارثين- الصنايعية- المغاربة- تجار العجم- الجزارين- الحمارين- الباعة- الصعايدة- السياس- الجرسونات العربجية- النشالين- بائعي اليانصيب- الفتوات»- أي أنه لم يترك حرفة أو طائفة إلا وتعرض لها في غنائه وموسيقاه، ولقد فتح «درويش» في غنائه باب التمرد والتجرؤ علي القاموس الغنائي المستعمل في هذه الأيام، واستبدله بالقاموس الاجتماعي متحدياً موجات التتريك في الغناء المصري آنذاك، ومن الأمثلة التي قدمها- سيد درويش- كدليل علي الجرأة وكسر الحاجز ما بين الحياة والفن، أغنياته عن الحشاشين والتي نذكر منها «إسأل مجرب زي حالاتي/ حشاش قراري يسفخ يوماتي/ خمسين جراية/ ستين سبعين/ هئ هئ يا مرحب» وفي موقع آخر من النص يقول «ساعة ما نسمع رنة نموسة/ تبص تلقي كل الشخوصة/ إكسبريسات راحم طايرين/ هو احنا يعني علشان غلابة/ لا بتوع قراية ولا كتابة/ يهينونا ما تجيش/ تحيا التفانين/ كان يبقي شنبي من غير مؤاخدة/ علي كلب رومي ولا علي معزة»- إلي آخر النص الذي يخرج فيه عن القاموس التقليدي بمفرداته، النص من كتاب «من أدب الجريمة» ل «السعيد مصطفي السعيد صدر عن دار المعارف 1964، ومن رواية «فيروز شاه» تغني المجموعة من ألحان «خالد الذكر» الشيخ «سيد درويش» أغنية «شامبانيا يا سلطانة الخمرة»، ونذكر منها «شامبانيا يا سلطانة الخمرة/ يا مشروب السلطان والأمرا/ شامبانيا هيجتي الناس/ يا لؤلؤ يضوي في الكاس»، كذلك غني «سيد درويش» للكوكايين في رواية «رنّ» التي قام بتلحين أغنياتها، فراح يعلق علي تعقب السلطات في هذه الفترة لكل من يتعاطي الكوكايين وقدم من أشعار «بديع خيري»، «إشمعني يا نُخ الكوكايين كخ/ دا أجل المخ هلاك إعمله علي غيرنا/ رايح لي تجخ وجاي تطخ/ شط هو أنت شريكنا حتي في مناخيرنا/ إيش عرفك إنت يادونكي»- فانظروا معي مفردات «نخ/ كخ/ تجخ/ مناخيرنا/ دونكي» وغيرها، إن الروايات التلحينية التي قدمها «سيد درويش» مليئة بمثل هذه المفردات الجريئة والصادمة ونحن نؤيد مثل هذه المفردات، لأنها ابنة الواقع وتجاربه وليست وليدة الصدفة أو نبتا شيطانياً كما أشرنا سابقاً، فمن الطبيعي أن يقدم كل زمن ما يعبر عنه، لقد وعي «درويش» هذه الحقيقة جيداً واقترب من الواقع بتفاصيله، لذا كان بديهياً أن يحيا كل هذا التاريخ، لأنه ابن الحياة وتفاصيلها، وكما أشرت لقد غني «سيد درويش» للعربجية والحشاشين ودون أن يجمل مفرداته، بل كان علي مستوي الحدث، وتأملوا معي أغنية الختام في رواية «كله من دا»، الفصل الأول «جاي بتبصبص يا أقرع ياجرنش/ يا بوز الإخص ياعفش يانفش»، لقد كان «سيد درويش» من أوائل المكتشفين والمقدمين لمثل هذه المفردات الصادمة والجديدة. الخلاعة والدلاعة مذهبي في العام 1926 سجلت سيدة الغناء العربي «أم كلثوم» أغنيتها «الخلاعة والدلاعة» علي اسطوانات أوديون، وهي من الأغنيات ذات الجمل الجريئة والصريحة ومنها نورد «الخلاعة والدلاعة مذهبي/ من زمان أهوي صفاها والنبي» - ولعل مطلع الأغنية هو أجرأ ما فيها، وربما كتب هذا المطلع من أجل لفت الأنظار، أما باقي النص فعادي وبسيط ومنها «لما يخطر جي عندي بمشيته/ تلقي قلبي له يميل من فرحته/ شوف دولاله ولا قده وطلعته/ يفرح القلب يا ناس كده والنبي.. إلي آخر النص»، وربما كانت هذه اللغة هي السائدة في تلك الفترة، ولا سيما في أغنيات سلطانة الطرب «منيرة المهدية»، ولعل التنافس ما بين «أم كلثوم» و«منيرة المهدية» هو أحد الأسباب التي دفعت «أم كلثوم» إلي أداء مثل هذه الأغنية، والتي تجاوزتها بعد ذلك حيث قدمت أغنيات نستطيع أن نصفها بالأغنيات التاريخية، ولا سيما مع الثنائي المجدد «أحمد رامي»، و«محمد القصبجي»، كذلك تجربتها مع السنباطي العظيم، إن تجربة «أم كثلوم» بثقلها الفني والتاريخي جعلتنا نتجاوز مثل هذه الأغنية. السلطانة سميت «منيرة المهدية» بالسلطانة- أي «سلطانة الطرب» لما كان لها من سلطان علي قلوب المستمعين، و منذ أكثر من ثلاثة أرباع قرن كانت تغني «منيرة» من ألحان الشيخ «زكريا أحمد» أغنية باسم «إرخي الستارة» وهي من الأغنيات التي انتشرت بسرعة البرق، وقد سجلتها «منيرة المهدية» علي اسطوانات «بيضافون»، وكذلك قدمتها «نعيمة المصرية»، ومن بعدها قدمها المطرب الشهير «عبداللطيف البنا»، وهي من الأغنيات الجريئة والصريحة في تراثنا الغنائي وكلماتها كالتالي «ارخي الستارة اللي في ريحنا/ لاحسن جيرانك تجرحنا/ يافرحانين يامبسوطين يامفرفشين يامزقططين ياحنا دلوقت أنا بس اللي ارتحت/ لا حد فوق ولا حد تحت/ يعرفني جيت ولا روحت/ ولا حدش يقدر يلمحنا.. يامبسوطين يامزقططين/ قلبي بيطب قوي وخايفة/ عندك شباك نواحي العطفة/ افتح درفة واقفل درفة/ وقوم نغير مطرحنا/ يامبسوطين يامزقططين/ عقدتنا هناك دي كانت غلطة/ ناولني الكاس بلا مغالطة/ خدلك شفطة وإديني شفطة/ وقوم نغير مطرحنا/- ربما لو قدمت إحدي المطربات هذه الكلمات الآن للاقت من الهجوم ما يقعدها عن الغناء لما في الأغنية من إشارات واضحة ودعوي للجنس لا تخطئها إذن، وليست هذه الأغنية هي الوحيدة بين أغنيات «منيرة المهدية» فهناك أغنيات أخري نستطيع أن نستعرض منها أغنية «بعد العشا» وهي من الأغنيات المكشوفة أيضاً وتقول كلماتها «بعد العشا يحلا الهزار والفرفشة/ ياحلو فاكر وادي القمر/ زعلت من إي إي شمر/ انسي اللي فات وتعالي بات/ ليلة التلات مستنظراك بعد العشا»- والنص مليء بإيحاءات جنسية واضحة، انظروا معي «اوعي تسهيني بقا/ واحنا في عز المعمعة/ وتم إيد وهزار يزيد/ عارفاك أكيد إيدك تحب الزغزغة»- والأغنية مأخوذة علي اسطوانات شركة «بيضافون»، ومن الأغنيات الأكثر جرأة في تراث «سلطانة الطرب.. منيرة المهدية»، طقطوقة «عمي علي يابتاع الزيت»، وهي من الأغنيات الصريحة التي تحاكي الجسد بشكل مباشر «عمي علي يابتاع الزيت/ أحبك ياعلي يابتاع الزيت/ وحط إيده علي شعري/ يامه ياشعري قمت أنا اتخضيت/ وحط إيده علي حاجبي/ يامه ياحاجبي قمت أنا اتلذيت» ثم ترد «حط إيده» ومعها كل جزء في جسد الأنثي التي تتدل في غنائها «منيرة» فنجد «حط إيده» وبجانبها مفردات «عيني/ خدي/ بقي/ نحري/ صدري/ نهودي/ ضهري/ وسطي/ خصري/ بطني/...» إلي آخره، ومع وصف ما ينتج عن هذه الللمسات «اتلذيت/ اشتهيت/ اتهزيت/ اتخضيت.. إلي آخره»- ومن الطقاطيق الجريئة الأخري في أغنيات سلطانة الطرب «منيرة المهدية»، طقطوقة «البوكر»، والتي تبدأ كالتالي «ياجدع مزمز إلعب لعبك/ إوعي تبلفني أشوفك/ حتي لو صح فلوشك/ أقوله كارت يقول سرفي/ ولما أشوفه فلوش... ».. إلي آخر النص إن الأغنيات التي تكسر العادي وتتجرأ علي المألوف في تراثنا كثيرة، وقد ينتج البحث عن المئات، وليس العشرات، إن «منيرة المهدية»، «الست توحيدة»، «نعيمة المصرية» وكذلك «بديعة مصابني»، «سكينة حسن»، «زكي مراد»، «عبداللطيف البنا»، «محمد أنور»، «عبدالحي حلمي»، تمتلئ أغنياتهم بمايوحي بالترنح والتهتك، ولا غضاضة في ذلك، إذ كانت الفترة تحتمل كل هذا، وقد يدفع انهيار أي مجتمع إلي ظهور مثل هذه الألوان من الغناء، لذا حين كتبت عن ألبوم «أبو الليف» قارنته بما في مجتمعنا من تحول وانهيار واضحين، ومعاً قد اكتشفنا أن تراثنا الغنائي مليء بالأغنيات الجريئة، التي إذا قدمها مطرب الآن هاجت الدنيا ضده، وفي النهاية أقول لولا عنصر «المساحة» لجئت لكم بأغنيات أخري أكثر جرأة، ولمطربين ومطربات كبار، ومن هنا أود أن أشير إلي أهمية السماح للتجارب الجديدة بالمرور، ولا داعي للجمل البراقة والمفتعلة والتي لا تثمن ولا تغني من جوع، أمثال جمل «فين أيام عبده الحامولي» أو «الأغنية الهبابية» قاصدين بها «الأغنية الشبابية» وغيرها فقد يعطلنا النقد من دون الاقتراب والتدقيق في ملامح أي تجارب تبدو غريبة علينا.