تشهد العلاقة بين الإعلام والقضاء حالة من التخبط وتبادل الاتهامات، فالقضاة يتهمون الإعلاميين بأنهم تعدوا دورهم وهو نقل الجلسات العلنية والأحكام النهائية في القضايا دون تعقيب ويرون أن الإعلام ينصب نفسه محققا في أي قضية تتداول أمام النيابة العامة أو المحاكم وهو ما يؤدي إلي التأثير لمصلحة طرف علي حساب الطرف الآخر، فضلا عن التأثير علي الرأي العام نتيجة للكثافة الإعلامية في تناول قضية بعينها والدخول في تفاصيل تتعارض وتتناقض مع ما ورد في التحقيقات مما يزعزع ثقة المواطنين في قضائهم فلا يقبلون أحكامهم ويتلقونها بشيء من الريبة والشك وتضيع هيبة القضاء علي الجانب الآخر، نجد الإعلاميين يرفضون فكرة الخطوط الحمراء في التعامل مع القضاء وإذا تجاهل الإعلام تغطية هذه القضايا سيلجأ الجمهور إلي وسائل أخري للوصول إلي الحقيقة. وفي الفترة الأخيرة يمكن اعتبار قضيتي «هبة ونادين» و«هشام طلعت مصطفي» النموذجين الأبرز اللذين طرحا إشكالية تعامل الإعلام مع القضاء. للمستشار د. خيري أحمد الكباش - رئيس محكمة الاستئناف بالإسكندرية - رؤية تحليلية في هذا الموضوع كان قد قدمها في ورقة بحثية في مؤتمر القضاء والإعلام الذي عقد في كلية الإعلام، فقد أشار إلي أن مقام القاضي وهيبته وسلطته مصانة بالدستور والقانون فمن ثم كل من يشارك أو يتعمد النيل من مقام القاضي أو سلطته هو في حقيقة الأمر منتهك للحقوق والحريات ويجرم المشرع «كل من نشر بإحدي الطرق أمورا من شأنها التأثير في القضاة الذين يناط بهم الفصل في الدعوي المطروحة أمام أية جهة من جهات القضاء أو التأثير في الشهود أو التأثير في الرأي العام لمصلحة طرف أو ضده». لمزيد من الحماية لمقام القاضي لم يترك المشرع الصحيفة أو المجلة أو القناة التليفزيونية بعيدا عن المساءلة إذا ارتكب أحد التابعين لها أي جريمة وتكون مسئولية رئيس التحرير مسئولية شخصية ويعاقب بغرامة لا تقل عن 5 آلاف جنيه ولا تتجاوز عشرة آلاف جنيه وذلك إذا ثبت أن النشر كان نتيجة إخلاله بواجب الإشراف. ويؤكد المستشار الكباش علي أن دور الإعلام في ساحة القضاء ناقل للخبر وليس محللا، فالإعلام يعلن الجمهور بمنطوق الحكم أو موضوع الشكوي، كما لا يجوز للإعلام أن ينصب نفسه محققا في أي قضية تتداول أمام المحاكم وهو الأمر الذي صار ظاهرة حان وقت دراستها لوضع حد لها بعد اتساع المساحات الإعلامية وتعدد الفضائيات وتعدد البرامج الحوارية، ومحاولة كل فريق جذب أكبر عدد من الجمهور لزيادة حصيلة الإعلانات. ولم يعد الوجود الإعلامي في ساحات القضاء بديلا عن الجمهور بل صار يشكل ما يمكن تسميته المحاكم الإعلامية الموازية فنجدهم ينتقلون لإجراء معاينات لمسرح الجريمة ثم يسألون شهود الإثبات والنفي ثم يستجوبون المتهمين وينتهون كل حسب وجهته إلي الإدانة، فلا يقبل جمهور هذا البرنامج حكم البراءة في هذه القضية. لذا فكل ما تقوم به وسائل الإعلام شيء وما ورد في كل من قانون العقوبات وميثاق الشرف الصحفي شيء آخر لا صلة بينهما مطلقا. القضاة ليسوا نجوما ويرفض المستشار المحمدي قنصوه-رئيس محكمة الجنايات-أن يتدخل الإعلام في عمل القضاة من خلال تكوين رأي عام مع أو ضد، فالقاضي ليس مطالباً بالحكم لإرضاء فريق دون آخر وكذلك يرفض ماقامت به الصحف من عرض أدلة البراءة، ويدلل علي ذلك بصحيفة نشرت في صفحتها الأولي مانشيت جاء فيه «50 دليلاً لبراءة المتهم»، فالحديث عن الأدلة يدخل في عمل القاضي. وأضاف قائلا: «القضاة ليسوا نجوم مجتمع ولايجوز لهم أن يتسابقوا في الإعلام لتقديم أنفسهم بقصد الشهرة، أما إذا طلب رأيه كرجل خبير كغيره من الخبراء فلا مانع». وأكد علي عدم وجود تصادم وتصارع بين الإعلام والقضاء، فالأول يخاطب العقل، أما الثاني مهمته الفصل بين المنازعات. ولكن الإعلام مفسد للقضاء إذا تدخل في عمل القضاة لكن لا خلاف علي ضرورة كشف الإعلام للفساد حتي في مجال القضاء. وأشار المحمدي إلي أن الدعوي الجنائية تمر بمرحلتين، مرحلة تحقيق ابتدائي وهي مرحلة ليست علانية وقاصرة علي أطراف الدعوي وهي سرية، وبالتالي النشر فيها محرم لأنها مرحلة جمع أدلة ولكن العلانية تكون اثناء المحاكمة، وهنا يوجد إباحة، فلابد من الموازنة بين حق المتهم وحق المجتمع في المعرفة، ففي إحدي القضايا بعد صدور حكم البراءة كان هناك مظاهرات في الشوارع لأن الإعلام وجه الرأي العام إلي أن الرجل «جاني». مجتمع بشري للصحفي والإعلامي وائل الإبراشي -رئيس تحرير صوت الأمة - رأي خاص ومختلف حيث يري أن مجتمع القضاة مجتمع بشري وليس ملائكياً مقدساً، فالمؤسسات تصاب بالفساد عندما توصف بالقدسية مما يؤدي إلي انهيار المجتمعات لكن هذا لا يمنع من الموازنة بين هيبة القضاء وحق القارئ في المعرفة ويتم ذلك من خلال وضع ميثاق شرف إعلام بين القضاة والإعلاميين ولا يجوز أن يكون للحكومات دور في هذا لأنه خاص بأصحاب المهنة، وتتزايد أهمية هذا الميثاق في ظل تنامي عدد القنوات الفضائية مما يجعلها في حاجة إلي تنظيم . والقضايا المعروضة علي المحاكم تمثل 90% مما تتغذي عليه الصحف، ويرفض الإبراشي فكرة تعامل الصحافة مع القضاة من خلال خطوط حمراء ولكن يجب أن يقترب الإعلام من القضاء والقضاة. شهوة النشر ويعترف الإبراشي بوجود تجاوزات من جانب الصحف تتمثل في استخدام الشهود وأدلة الجريمة في البرامج قبل مثولهم أمام القضاء، فمشكلة الصحافة هي شهوة النشر، ولكن لابد أن يكون ذلك وفقا لضوابط مهنية وأخلاقية، فقضايا الرأي العام بحاجة إلي تنظيم فالصحافة تتعامل معها علي أنها «موسم» مثل موسم هشام ونادين ويرفض أن تمنع الصحافة من النشر إلا بعد الحكم النهائي، فغالبية القضايا التي تناقشها الصحف منظورة أمام المحاكم. ويري د. شوقي السيد - عضو المجلس الأعلي للصحافة - أن هناك تجاوزات وانفلاتاً، وقد ناقش تقرير المجلس لعام 2008 كيف خرج الإعلام عن الدستور من خلال نصب محاكمات علي الشاشة وكانت النتيجة هي ترك النقاش في القضايا الكبري وكانت نتيجة التجاوز هو حظر النشر ومنع برنامج من البث، فالتجاوز يأتي بنتيجة عكسية علي الصحافة. غواية الإعلام لينفرد الصحفي بالنشر في قضية ما قد يلجأ الي رشوة كاتب النيابة للحصول علي أوراق التحقيق ويتم تصويرها لتنفرد الصحيفة بنشر التحقيقات، هذا ما صرح به د. محمد الباز نائب رئيس تحرير جريدة الفجر- وأضاف أن دور الصحافة يجب أن يقف عند مرحلة التقرير وليس الرأي، فكلام المحامين مكانه المحكمة وليس في الصحيفة، ولكن عدداً من القضاة وقعوا في فخ الصحافة، فالصحفي يقوم بإغواء القاضي لكي يتحدث وعلي القاضي ألا يستجيب فلا يجب أن نحاكم الصحفي في أنه نجح في الحصول علي المعلومة أقرب مثال علي ذلك والكلام للباز هو المستشارة «نهي الزيني» فهي مثال متجسد للوقوع في غواية الإعلام فكان يجب عليها بعد أن قدمت شهادتها فيما يخص عملها أن تعود مرة أخري إلي مكتبها ولا تتحول إلي ناقدة ومحللة وبذلك تم تصديرها علي أنها شخصية إعلامية. ويفرق الباز بين الصحف الخاصة والقومية في تغطية الجرائم، فالأولي تسعي إلي الربح، أما القومية تعبر عن النظام الذي يراعي خصوصية المجتمع، ولكن في ظل المنافسة الشرسة مع الصحف الخاصة تتخلي عن توجهها. ويشير الباز إلي أن هناك احتراماً من جانب الصحفيين للقضاة والدليل علي ذلك قضية القاضي الذي قام بقتل أحد الأشخاص بالمنيا وتحولت الي قضية رأي عام، ولكن الصحافة راعت هيبة القضاء ولم تعمل علي إبراز هذه القضية.