لم يقف الأمر في العلاقة بين الإعلام والقضاء عند تلك السوابق القديمة التي أشار إليها علي ماهر عندما كان وزيراً للحقانية منذ ثمانين عاماً في تقرير عرضه علي مجلس الوزراء في 4 فبراير 1931 ليعبر لنا عما جري في العالم وقتئذ في دراسة مقارنة بين المعالجة الإعلامية الخاطئة للقضايا بما يؤثر علي العدالة وعلي الشهود.. كما لم يقف الأمر كذلك عند حد الرسائل التي وجهها القضاء علي مدي أكثر من ربع قرن من الزمان.. منها ما أصدره مجلس القضاء الأعلي منذ جلسات 1986/11/4 أي منذ نحو ربع قرن من الزمان في مواجهة بعض صور النشر التي تؤثر علي سير العدالة أو تسيء إلي الصحافة ذاتها وقد استمرت قرارات مجلس القضاء الأعلي علي التوالي لتبين لنا عند المعالجة الإعلامية للقضايا المتداولة ما هو حل محمود وما هو محرم مذموم ما يجوز نشره.. وما لا يجوز ما يدخل في نطاق المباح.. وما يقف عند حد الممنوع كل ذلك نجد مرجعه في المواثيق الدولية.. والدستور.. والقانون.. والسوابق الراسخة للقضاء.. ومواثيق الإعلام وهي ذات الرسائل التي كان يوجهها وبخطاب أشد مجلس القضاء الأعلي من أعضاء النيابة ورجال القضاء احتراماً لمهابة العدالة.. وفي كل مرة يوازن بينها أي بين العدالة وبين حق المعرفة كذلك لم يقف الأمر عند حد ما صدر من أحكام قضائية.. وما دونته الأحكام.. في قضايا بعينها تمثل مبادئ وسوابق في العلاقة بين القضاء والإعلام سواء كانت أوامر قضائية أو أحكاماً. لم يقف الأمر عند هذا الحد بل في مواجهة علمية مسئولة وفي محراب أهل العلم.. من خلال مؤتمر بكلية الإعلام جامعة القاهرة.. انعقد المؤتمر علي مدي يومين في الأسبوع الماضي 7 و8 أبريل لمناقشة العلاقة المسئولة بين الإعلام والقضاء تحت رعاية الدكتور فتحي سرور بحسبانه عالماً كبيرًا في القانون ورئيساً لمجلس الشعب وبصحبة رئيس مجلس القضاء الأعلي ورئيس محكمة النقض وقاضي القضاة المستشار عادل عبدالحميد.. ورئيس جامعة القاهرة.. وبرئاسة المستشار أحمد الزند رئيس نادي القضاة.. وعميدة الكلية الدكتورة ليلي عبدالمجيد، والأمينان المستشار عبدالله فتحي وكيل أول النادي.. والدكتورة نجوي كامل وكيلة الكلية. وعلي مدي جلسات المؤتمر انعقدت اللجان التي ترأسها مستشارون كبار.. وأساتذة قانون ورجال إعلام.. وصحافة.. وحضور كبير من الخبراء في مجال الإعلام والقانون والقضاء.. ودارت محاور المؤتمر بين التناول الإعلامي للقضاء والقضاة وضوابط التغطية الإعلامية للعمل القضائي وبيئة العمل الإعلامي وتأثيرها في العلاقة بين القضاء والإعلام ثم جلسة ختامية لإعلان التوصيات وقد تخلل هذا المؤتمر العلمي فاصل بمحاضرة قيمة للعالم الكبير الدكتور فتحي سرور عن الإعلام ونشر ثقافة حقوق الإنسان والحريات العامة. وتأتي قيمة هذا المؤتمر في مناقشة ما فسد بقصد الإصلاح وما جري علي الساحة نتيجة اتساع دائرة الحريات وتعدد صورها.. مع التطلع إلي التأهيل والخبرات والتنمية البشرية بالعلم والقواعد والتقاليد المهنية والأخلاقية في ضوء المستجدات الحادثة علي طول الزمان وتأتي قيمة المؤتمر كذلك في تلك المواجهة العامية الصريحة التي ناقشت بكل وضوح التطورات التي جدت فأحدثت الشروخ والثقوب التي من شأنها أن تقف في سبيل تحقيق العدالة.. حيث طرح المؤتمر عدة تساؤلات مهمة ناقشت بكل وضوح وأمانة القضايا المثارة وقد شارك الحضور من المثقفين والكتاب والقضاة.. والإعلاميين.. في طرح كل ما يلاقيه كل منهم من مشاكل أو عقبات في سبيل تحقيق العدالة.. وحق المعرفة والنشر بما يحفظ علي العدالة هيبتها.. ويحقق للناس المعرفة ويحفظ للمواطنين كرامتهم وخصوصيتهم في ذات الوقت. وقيمة هذا المؤتمر كذلك أن الأمر لم يقف عند حد المقالات أو الحوارات من كل جانب أو تبادل إلقاء المسئوليات كل في جانب الآخر.. وإنما كان لقاء جامعاً.. في جو علمي محترم.. جمع الخبراء والعلماء والممارسين كل تحدث في مجال تخصصه وعلمه وخبرته.. ماذا يري القضاة فيما ينشر ويجري الحوار بشأنه.. وما لا يصح أن ينشر احتراماً لمهابة العدالة.. وماذا يري رجال الإعلام لتحقيق مسئولياتهم الاجتماعية التي تمكنهم من أداء عملهم المسئول. طرح القضاة دون حساسية كل صور وأشكال المعالجة الإعلامية الخاطئة التي تفسد العدالة.. وتنال من هيبتها.. وتضطرهم للمحافظة عليها بإصدار أوامر حظر النشر علي مضض وكذلك ما يجب أن يكون عليه الحال من نشر التحقيقات الجنائية وهي في الأصل غير علنية بما يسيء إلي المواطنين لأنها لا تجري علناً.. ثم ماذا يجري من تحقيق مناقشة الأحكام والحوارات والمحاكمات علي الشاشة.. وغير ذلك من الصور التي تحول بين تحقيق العدالة والناس عند الفصل في الخصومات!! وهي مسئولية القضاة وحدهم. وطرح الإعلاميون والصحفيون تساؤلات صريحة.. هل القضاة في أبراج عالية؟.. وماذا عن سعي بعضهم جرياً وراء الإعلام والنجومية.. وهل لا يخضعون للمساءلة وملاحقة النشر.. وكيف السبيل لتحقيق حق المعرفة والنشر في القضايا التي تهم الناس.. أثناء التحقيقات حتي ولو كانت سرية أو أثناء المحاكمات والأصل فيها العلانية وماذا عن ندب القضاة وتأثير ذلك علي العدالة.. أليست كلها قضايا يجب مناقشتها بصراحة وأمام الرأي العام؟! وأجاب القضاة ورجال القانون علي كل ذلك بصراحة ووضوح. أسئلة وقضايا مهمة اشترك الحاضرون والخبراء في مناقشتها بجدية وموضوعية ولم يكن مقصودها إلقاء اللوم أو تبادل الاتهامات أو التخلي عن المسئوليات وإنما كانت المناقشة والمصارحة هدفها علاقة متوازنة بين الإعلام والقضاء.. بما يحقق صالح العدالة والناس واحترام الوطن. الثوابت قائمة.. والنصوص موجودة.. والمواثيق محكمة لكن الفجوة في التطبيق الحرفي والمهني الحاذق الذي يمكن أن يحقق الأمرين معاً ويقيم علاقة متوازنة بين مهابة العدالة وحق المعرفة.. دون أن تجور إحداهما علي الأخري وفي النهاية أصدر المؤتمر توصياته في إحدي القضايا القومية المهمة التي تخص العدالة.. وحق المعرفة والتي أتمني أن تكون مادة إعلامية ثرية وواضحة وحوارات تجري علناً للتوضيح والمعرفة بالطريق الصحيح نحو ترسيخ العدالة.. وحق المعرفة بالحكمة والثوابت الراسخة.. لكنه مع الأسف.. لم أجد خلال المؤتمر إلا أخباراً متواضعة كانت تنشر علي استحياء.. رغم أهمية الموضوع للناس جميعاً!!