هزت أشعاره وجدان عميد الأدب العربي د. طه حسين الذي أشاد بأشعاره في كتابه حديث الأربعاء الدراسات التي تناولت شعره أقل كثيرا من موهبته ومكانته قدم عددا من الروائع الشعرية في دواوينه «العائد، شرق وغرب، أرواح وأشباح» أرخ الناقد الكبير أنور المعداوي لمسيرته الإبداعية في كتاب «علي محمود طه الشاعر والإنسان. وقف خلالها الناقد أمام حياة هذا الشاعر وتناول شعره بكثير من التحليل والرصد للظواهر الأساسية في شعره محمد إبراهيم أبوسنة ستون عاما مرت علي رحيل الملاح التائه علي محمود طه فقد وافاه الأجل في نوفمبر من عام 1949 حيث كان في الثامنة والأربعين من عمره. وكان ميلاده في عام 1901 ولقد هبت عواصف عاتية علي الشعر العربي منذ رحيله ولكن صوته الشعري يتناهي إلينا كصوت الناي الحزين عبر قصائده التي رددها كبار المطربين مثل قصيدة «فلسطين» و«كليوباترا» و«الجندول» ولا شك أن الدراسات التي تناولت شعره تعد أقل من قدره ومكانته لقد هز شعر علي محمود طه وجدان طه حسين الذي صرح بإعجابه بشعره في كتابه «حديث الأربعاء» حيث يقول عميد الأدب العربي: أنا متشوق جدا إلي لقاء الملاح التائه فلم أكن أعرفه قبل أمس ولكنني بدأت أعرفه منذ أمس وأنا سعيد بهذه المعرفة كل السعادة مغتبط بها أحسن الاغتباط لأنها أرضت نواحي في نفسي كانت في حاجة إلي أن ترضي فأما أن معرفتي بشاعرنا المهندس قد أرضتني فلأن شخصيته الفنية محببة إلي خفة فيها عناصر تعجبني كل الإعجاب وتكاد تفتنني وتستهويني فيها حقه الروح وعذوبة النفس وفيها هذه الحيرة العميقة الطويلة العريضة التي لا حد لها كأنها محيط لم يوجد علي الأرض هذه الحيرة التي تصور الشاعر ملاحا تائها حقا والتي لا تستقر به علي حقيقة حتي تزعجه عنها إزعاجا وتدفعه عنها دفعا والتي تقذفه من شك إلي شك ومن وهم إلي وهم ومن خيال إلي خيال. لقد صحبت الملاح التائه في قصيدة سماها «الله والشاعر» فأحسست كل هذا الذي صورته لك آنفا.. إبداعاته لقد أبدع الشاعر علي محمود طه عددا من الروائع الشعرية ضمتها دواوينه وهي «الملاح التائه» و«ليالي الملاح التائه» و«زهر وخمر» و«الشوق العائد» و«شرق وغرب» و«أرواح وأشباح» وفي عام 1965 أصدر الناقد الكبير الراحل الأستاذ أنور المعداوي كتابه «علي محمود طه الشاعر والإنسان» لقد وقف الناقد أمام حياه هذا الشاعر وتناول شعره بكثير من التحليل والرصد للظواهر الأساسية في هذا الشعر كما حاول تحليل شخصيته مقارنا بينه وبين شعراء أوروبيين كبار مثل الفرنسي شارل بودلير والإنجليزي اللورد بيرون كما تناول بالتحليل جوهر شخصيته فيقول أنور المعداوي عن علي محمود طه: «اشتكت روحه من وطأة القيد وسطوة التقاليد وتعذب جسده من قوة الغريزة وغلبة الحرمان وضجت أمانيه وهو يتطلع إلي الأفق البعيد وبين جنبيه رهبة المشفق من مستقبل مجهول وانعكس هذا كله علي فنه أنات متصلة ينقلها إليك شعر تكاد تشم فيه رائحة الدموع. شعر مظلم إن عثرت فيه علي البسمة المشرقة فهي التماسة البرق الخاطف في سماء داكنة تظلل حواشيها ألوان من السحاب والضباب». وهذا التحليل الذي قدمه الناقد المعداوي يصح علي المرحلة الأولي من حياة علي محمود طه فقد كان خجولا انطوائيا بعيدا عن مواكب الحياة مستغرقا في ذاته وهي المرحلة التي أوحت إليه بهذه الأبيات في قصيدته غرفة الشاعر من ديوانه «الملاح التائه» والتي استشهد بها الناقد - أيها الشاعر الكئيب مضي الليل وما زلت غافا في شجونك مسلما رأسك الحزين إلي الفكر وللسهد غارقاً جفونك ويد تمسك اليراع وأخري في ارتعاش تمر فوق جينك وفم ناضب به حر أنفاسك يطعني علي ضعيف أنينك ويعزو الناقد بؤس هذا الشاعر إلي غياب المرأة في المرحلة الأولي من حياته يقول المعداوي «لو وجد علي طه المرأة في إبان شبابه لسكن الجسم القلق وخبت الجذوة المتأججة وخفتت الصيحة الساخطة علي مرارة الحياة ولكن علاقة علي محمود طه بالمرأة لم تقف عند مرحلة الحرمان الأول فقد تطورت به الحياة يقول الشاعر: يا من قتلت شبابي في يفاعته.. ورحت تسخر من دمعي وأناتي حرمت أيامي الأولي مفارحها.. فما نعمت بأوطاري ولذاتي مرحلة تحول في هذه الإشارة نقطة التحول من مرحلة إلي مرحلة.. من مرحلة الحزن والانطواء إلي مرحلة البهجة والانطلاق ومن نهاية الموت الذي يلغي الشعور بالزمن إلي بداية البعث الذي يسجل قصة العمر من جديد مضت حياة واقبلت حياة حقا لقد بدأت الحياة عنده في كيان أنثي واندلعت شرارتها الأولي من جسد امرأة لقد تخلص علي محمود طه من قيود ماضية وبدأ يستروح أنسام الحرية في ظلال حاضرة واستطاع أن يشق طريقه إلي الجسد الأنثوي وأن يخطو في هذا الطريق بضع خطوات ولا تعجب إذا رأيت في خطواته الأولي حرارة الاندفاع وفي أعقابها مرارة الندم. تساؤلات ويتساءل الناقد المعداوي: إن علي طه علي كثرة الغاديات والرائحات من حوله كان يبحث عن امرأة معينة؟ امرأة تملأ في قلبه مكانا خاصا ظل منذ الطفولة وهو شاغر ينتظر ضيفه الحبيب لقد لقي المرأة وهي في ثوب الخليلة ولقي المرأة وهي في ثوب الصديقة ولكنه لم يلق المرأة في ثوب الأم هذه المرأة التي يمكن أن تشغل البقعة الخالية في وجوده الداخلي بحنان الأمومة لكم بحث عن هذا النوذج الأنثوي الذي يسد فراغا تركته الأم وهو صغير وساقتها إليه المقادير فتوهم أن الأمل المرتجي بات قريبا ولكنه أفاق من الوهم حين فغرت الهوة فاها لتلتهم كما قلنا أمله المنشود لكن الشوق إلي الأمل الضائع يعود وفي أعقابه اليأس والخيبة وضيعة الرجاء يقول علي محمود طه يخاطب الشوق العائد - أهدئي يا نوازع الشوق في قلبي فلن تملكي لماض رجوعا آه هيهات أن يعود ولو أفنيت عمري تحرقا وولوعا آه هيهات أن يعود ولو ذوبت قلبي صبابة ودموعا فاهدئي الآن بثورتك الهوجاء جبارة تدك الضلوعا أيها الزائر المعاود ما ألقاك أحسنت بالمزار صنيعا ما أري في سمات وجهك إلا شبحا رائعا وحلما وجيعا طال ليلي فما طويت منه هزيعا إلا نشرت منه هزيعا عدت يا شوق لي وعادت لياليك ولكن وجدت قلبا صريعا عدت من بعد لوعة أحرقته وجفته علي الرماد ضجيعا وليالي من الفراغ عوات هرأته ثلوجهن صقيعا عدت يا شوق فيم عدت ربيع العمر ولي فهل تعيد الربيعا كان الشاعر علي محمود طه خبيرا بالنساء وكما يقول المعداوي الرجل الخبير بالنساء شبيه بالرجل الخبير بالجواهر كلاهما قد اكتسب الخبرة من تعدد النماذج وكثرة العرض ووفرة الفحص والمران حتي ليدرك بالنظرة النفاذة والذوق اللماح شتي الفوارق بين كل معدن مزيف وكل معدن أصيل ولقد تعددت النماذج الأنثوية في حياة علي طه فتضخم رصيد فهمه للمعادن النفيسة ومن هنا أصبح عالم المرأة بالنسبة إليه كأي عالم آخر بالنسبة إلي رحالة أكثر من التطواف فتكشف له كل مجهول ويقول الشاعر عن مكانة المرأة في حياته كما يعبر عن ذلك في ملحمته «أرواح وأشباح»: - أببعض حواء وهي التي.. عرفت الحنان لها والرضي وباع بها آدم خلده.. ولم يكن لتمني القضا ورثت هواها فرفق الحياة.. وجتبت لي العالم المبغضا أراها علي الأرض طيف النعيم وحلم الفراديس فيما مضي وكانت حياتي محض ابتاع.. فصارت طرائف من فنها وكن شبابي صامت القفار.. ورجع الهواتف من جنبها فعادت ليالي الصبا والهوي.. أرق المقاطع في لحنها وأفرغت بؤسي في حضنها.. وأترعت كأسي من دنها قضي الله أن تغوي الخالدين وتغري بالمجد عشاقها لقيت علي بابها الفاتحين وغار الفتوح وأبواقها وكل مذل عصي القياد دعته الصبابة فاشتاقها سلا مجده الضخم في قبلة تذل وتسعد من ذاقها لقد اتسعت تجربة علي محمود طه العاطفية واستطاع أن يقطف ثمار هذه التجارب في قصائده الكثيرة وقد عبر في شجاعة وجرأة عن خلاصة هذه التجارب في قصيدته اعتراف من ديوانه شرق وغرب: - إن أكن قد شربت نخب سثيرات واترعت بالمدامة كأسي وتولعت بألحان لأني مغرم بالجمال من كل جنس وتوحدت في الهوي ثم اشركت علي حالتي رجاء ويأس وتبذلت في غرامي فلم أحبس علي لذة شياطين رجسي فبروحي أعيش في عالم الفن طليقا والطهر يملأ حسي تائها في بحاره لست أدري لم أزجي الشراع أو فيم أرسي لي قلب كزهرة الحقل بيضاء نمتها السماء من كل قبس هو قيثارتي عليها أغني وعليها وجدي أغني لنفسي لي إليها في خلوتي همسات.. أنطقتها بكل رائع جرس كم شفاه بهن من قبلاتي وهج النار في عواصف خرسي ووساد جرت به عبراتي ضحك يوحي منه وإطراق أمسي أيهذي الحذور أنوارك الحمراء كم أشعلت ليالي أنسي أحرقتهن آه لم يبق منهن سوي ذلك الرماد برأسي لقد تقلب علي محمود طه في شعره بين الحب والحزن والأمل واليأس كما تطلع إلي رؤية العالم فسافر إلي بلاد الغرب ومهناك رأي الطبيعة في قمة بهائها وجمالها وسفورها كما رأي المرأة في تحررها ورأي الفن في تجلياته المختلفة سواء كان منه الشعر أو الموسيقي أو الرسم ولم ينقطع كذلك عن الاهتمام بالهموم الوطنية والقومية لقد هزته كذلك قضية فلسطين فقد شهد في عامه الأخير حرب فلسطين التي خسرها العرب وقامت بعدها دولة إسرائيل ولقد كتب عن فلسطين وعن الأبطال العرب وتمني أن يري يوم النصر ولكن المنية اختطفته قبل أن يشهد العالم العربي هذه التحولات القاسية.. وظل إبداع علي محمود طه شاهدا علي عصره كما كان شاهدا علي موهبة نادرة وحساسية مرهفة وأضاف إلي المدرسة الرومانسية أبعادا واسعة وعميقة من فنه الشعري البديع.