" الولد الذي أصبح رجلا، لا يدري كيف فقد ألبوم صوره الأولي؟ كانت صورا رسمها بنفسه لناس طيبين تملأ البراءة قلوبهم، لولا أن الشيطان كان "يوزهم"؛ فيمشون في مدنه، ويتسكعون في شوارعها بحثا عن غواية، فراح يمشي معهم في الطرقات والشوارع القديمة. يبحث عن وجه يعرفه، او جمال قديم في وجه امرأة مرت به. كان مرصودا للعشق، وممسوسا بالجمال. فمن يحرر نفسه من الجمال؟ " هكذا يغرب بنا سيد الوكيل في روايته "شارع بسادة" في حضن الأسئلة الكبيرة، محاولا البحث عن إجابة لتلك الاسئلة الوجودية التي لا تنتهي للإنسان، فالوجود يعلن صراحة ان الإنسان يحيا في قلق فهو لا يستطيع أن يهرب من الاحساس الكامل بالمسئولية الكاملة العميقة وهو ما حمله الوكيل علي عاتقه بلا تخطيط مسبق، فلم يخف قلقه ولم يهرب منه، فأصابه التوتر، انسحاقا مع الوجود، فجاءت شخصياته علي قدر قلقه وتوتره، ويأسه أحيانا، ولأن اليأس عند الوجوديين هو أول طريق الألم والحزن كانت ابداعاتهم ألحانا عذبة يعبرون بها عن هم شخصي، يعتصرون أنفسهم ليقدموها إلي هؤلاء الذين يتلذذون بآلام الآخرين، يدفعهم في ذلك نوع من الانجذاب لكتابة التجربة بشكل قدري فيه كثير من الهوس، فيمتزج الراوي في المؤلف، وكأنك امام سيرة ذاتية، يطرح صاحبها من خلال أحداثها أسئلة بكر، كانت هي البذرة الأولي التي شكلت وعيه وفهمه للحياة والكتابة معا. أيامه الأولي يدخل سيد الوكيل إلي شارع بسادة، متذكرا أيامه الأولي بين طرقاته وحواريه، مسكونا بحزن الملائكة وصخب الشياطين، جامعا في ندرة بليغة كل أنواع المتناقضات ، متماهيا مع روح صبي صغير يعاني، تتخطفه معايير ثقافية تجمع بين المقدس والمدنس، بين الخير والشر، بين الحلال والحرام، بين الرجل والمرأة . يخاطب الوكيل في روايته قارئا مختلفا يراهن عليه، قارئا نوعيا يشغله معه بتساؤلاته التي لم يخطط لها قبل الكتابة، يوقظ حواسه، ويخرجه من دائرة التلقي العادي، خالقا نوعا من الارتباك المتوازي لكل من الراوي والمتلقي وكأن لسان حال الوكيل يقول " سأكتب مايروق لي وليتألم المتلقي طالما سيشعر باللذة آخر الأمر" فهو يري أن اللذة التي يمنحها لنا النص أشبه بممارسة الجنس علي حد تعبير "رولان بارت" لهذا نمارس مزيدا من لذة القراءة بحثا عن لحظة إشباع. وبينما نمارس تلك اللذة نكتشف معاناة الوكيل مع النص الذي أصر أن يصفه بالنوفيلا، ذلك النص الصغير الذي استغرق منه سنوات، ولأنه مهموم بالبحث عن نوع جديد من الكتابة ، وطرائق وعرة من السرد، لجأ سيد الوكيل إلي ما أسماه سارتر " ضد الرواية" (anti-roman ) فصاحب بسادة يري أن الروايات المضادة للرواية تحتفظ بالشكل الظاهر للرواية ومحيطها. فهي، من أجل ذلك نتاجات خيال تقدم بين أيدينا شخصيات خيالية، وتقص علينا بعض حكاياتهم. ولكنها ، ولكيما تخيب الأمل أكثر، نجدها تنكر الرواية، بواسطة الرواية نفسها! وتخربها علي مرأي منا، في الوقت الذي يخيل إلينا أنها تبنيها؛ وتكتب الرواية عن رواية يستحيل أن تكون. هنا يعترف سارتر بأن هذه النتاجات الروائية الغريبة والعسيرة التصنيف لا تدل علي ضعف الجنس الروائي، ولكنها تثبت فقط، أننا نحيا في عهد من التأمل وأن الرواية هي بصدد القيام بتأملات حول نفسها .فهل نجحت " شارع بسادة"في ذلك؟ أغلب الظن أنها فعلت، فكيف لا نتأمل هذا التماهي العجيب بين المقدس والمدنس من خلال الجنس الذي امتلأت به صفحات الرواية، ليس بحثا عن قارئ شبق، ولكن لأن الجنس هو وسيلة الله التي خلقها لاستمرار الخلق، دلالة علي وجوده وقدراته، ولأن الانسان وحده القادر علي تحويل ما اتصفت به الكائنات الآخري إلي أداء جمالي متناغم، حتي صار الجنس في شارع بسادة فعلا خالصا لذاته يجعل منه نوعا من التقديس، ومتعمقا في ثنايا المعاني الصوفية الباحثة عن التوحد بين الثنائيات المتضادة . لم ينس الوكيل مطلقا أنه بدأ فنانا تشكيليا قبل أن تأخذه عوالم السرد والحكي إلي فضاءات أرحب وأوسع وأكثر مرونة بين يديه، تلك التي جعلت من معظم أعماله مرتعا لحضور الصورة، حتي أن الدكتور شاكر عبد الحميد خصص فصلا كاملا عن الصورة في قصص سيد الوكيل، ضمن كتابه (عصر الصورة) الصادر عن سلسلة عالم المعرفة. لغة سينمائية وفي شارع بسادة تعددت الصور، التي جاءت بلغة سينمائية، وكأن صوت الناراتور قادم من خارج الكادر " هذا موظف السجل المدني ..ستتعرفون عليه بسهولة. بدين، أصلع، له بنطال واسع يتدلي حزامه تحت كرشه؛ فيترك براحا لخصيتين مصابتين بالدوالي" هل أراهن هنا أن الوكيل أول من عرف شخصا بخصيتيه؟ ليس هذا فحسب، بل راح إلي أبعد من ذلك بكثير، معتمدا دقة التفاصيل الصغيرة، مثل قوله " نحن في مساء الجمعة، الساعة السابعة"، وكذلك " حصان بني بغرة بيضاء" عابرا منحي جديدا في الوصف ، فمدير البنك مثلا يضع نضارة سوداء علي عينيه حتي في الليل فلا أحد يدري لأي جهة يبص ولكن سكرتيرته في البنك تعرف جيدا أن نظراته تتجه دائما لأسفل. من اجل هذا تنزع الشعر عن ساقيها في الأسبوع مرتين ." تري هل نترك الوكيل هنا في حاله دون أن نسأله : هل كنت تصف مدير البنك أم سكرتيرته؟ تبدو اللغة الغنائية مسيطرة أغلب الرواية، دون أن تقتصر علي الجماليات التشكيلية المنمطة والمعروفة في التشكيل السردي، بل تجاوزت الحكي، ذاك ان المحكي عنه في الأصل يشكل مساحات ممتدة وشاسعة بين الواقع والحلم. يبقي إذن الولد البدين، بيت القصيد في شارع بسادة، الهم الخاص الذي تحول إلي أرق وجودي مشتبكا مع الحقيقة المراوغة لحقيقة الملائكة والشياطين ومن منهم المسئول حقا عن الغواية؟ الملاك السلبي الذي لم ينقذ أحدا، بل لم يمنع حتي أمه من الغياب والبعد عنه سنوات سبع، الملاك الذي ترك أصابع "علي" تعبث تحت فستان "زينب" ، وتتسلل إلي نهدي "مارسا"، الملاك الذي ترك شيخ الجامع الأعمي ينام بين فخذي "نادية" وجعل "سميروهدان" يتمزق بين روحه الأنثوية وجسده الذكوري. أم تراها الشياطين التي كانت المسئولة عن الاغواء الذي كان مسيطرا ومتحكما في حياته وحياة الآخرين؟ يبقي الولد البدين الذي نسيته أمه عند جدته لسبع سنين والذي رسم صورتها في خياله حتي لا يغيرها الزمن ، هو أيضا الذي أخبرته جدته بأن دودة نجسة في فرج أمه تلتهم الرجال وهذه الدودة هي التي قتلت أباه بأن مصته حتي جف عوده. غاية الحكاية ربما يسعي الوكيل هنا الي غايته من الحكاية، التي لم يسع من خلالها مطلقا لوضع دساتير ورسائل يوجهها للمتلقي، فالأمر كله كان اتفاق مسبق بين الوكيل من ناحية والمتلقي الذي اتفقنا عليه من ناحية آخري ان يصير الأمر في النهاية لذة واستمتاعا وتساؤلات حيري قد يجاب أو لا يجاب عليها، لكن المؤكد أن سيد الوكيل أراد في "شارع بسادة" أن يخبرنا أن الغواية هي التي تعيدنا إلي روحنا الأولي المحمومة بالرغبة بكل مافيها من افراح وأتراح، ربما أرادنا أن نبحث في ذواتنا عن الأبيض والأسود، عن بذور الغواية، عن الملاك والشيطان بداخل كل منا، عن لحظات يمكن أن نحاسب فيها أنفسنا، فقط إذا استطعنا الفصل بين النقيضين . هل توصلنا مع الوكيل إلي اجابات عن اسئلة الوجود التي طرحها معنا؟ ربما ، وربما في قراءة الرواية مرة أخري، تعن لنا ولصاحبها أسئلة جديدة بلا إجابات.