كنت أتصور أن المؤتمر الذي أقامه المجلس الأعلي للثقافة هو بمثابة تأبين في وداع هذا النوع من الفن الإبداعي العظيم الذي تألف في فترة بعينها من الزمن وليس محاولة لإحيائه وتمجيده كي يبقي لسنوات أخري أو لعقود علي قيد الحياة أشبه بجثة لم يتم دفنها بعد. والغريب أنني كنت قد كتبت مقالا في «القاهرة» نشر قبل عدة أشهر حول القصة القصيرة أشرت فيه إلي معركة أدبية أثرتها منذ أكثر من ربع قرن، حين كتبت وأنا في بداياتي مقالا نشر في كل من مجلة الهلال وجريدة الأهرام حول نهاية عصر القصة القصيرة حين أعلن كتاب القصة القصيرة آنذاك ما يشبه بإحلال دمي لأنني بذلك ألغيت نشاطا إبداعيا مزدهرا في مصر والعالم العربي دونا عن بقية العالم. حادثتان والحقيقة أنني لم أكن أنوي الرجوع إلي هذا الموضوع أو استغلاله أو التطرق إليه مرة أخري وأنا الواثق دوما بأن المسئولين لا يقرءون وأيضا المبدعين أنفسهم وتابعت المؤتمر عن بعد إلي أن وجدت نفسي أتحدث إلي الكاتب الكبير بهاء طاهر بشأن آخر غير هذا الموضوع ووجدتني أطرح عليه سؤالا غير مقصود في نهاية المكالمة عمن يكتب القصة القصيرة في العالم الآن فقال: ماركيز. وهنا أسقط الأمر من يدي فماركيز كتب إبداعاته القصيرة المعروفة قبل نصف قرن ثم تفرغ للروايات التي منحته كل هذا المجد. وفي يوم الثلاثاء 10 نوفمبر كان هناك أمران أثارا في نفسي الرغبة في العودة إلي موضوع القصة القصيرة الأول مقال منشور في القاهرة للدكتورة فاتن حسين تحت عنوان «ملتقي القاهرة الأول محاولة جادة لإحياء فن القصة القصيرة» والأمر الثاني متابعة لحفل تكريم بدار الكتب المصرية بباب الخلق في مجلة صباح الخير بقلم الدكتورة عزة بدر.. في مقدمة هذا التكريم جاء علي لسان الأستاذ بهاء طاهر الآتي: «إن مصر جنة القصة القصيرة في العالم كله» وأن «فن القصة القصيرة الذي أوشك أن يندثر في العالم كله يزدهر في مصر ويعد من المعجزات أنه يوجد لدينا العديد من كتاب القصة القصيرة المجيدين من كل الأجيال.. وهذه ظاهرة مبشرة جدا، وما زالت دور النشر عندنا تنشر ولا أقول ترحب بنشر القصة القصيرة.. ما جاء في كل من «القاهرة» و«صباح الخير» يؤكد علي السطر الأول من مقالي الذي نشرته في الهلال في يونية عام 1982 أن أدباء العالم في واد وأن أدباء مصر في واد آخر وأشرت أن كتابنا في تلك الآونة وربما حتي الآن لا يتابعون ما يحدث في الأدب العالمي بشكل جيد وأن القصة القصيرة التي تزدهر في مصر قد تم إعلان وفاتها في العالم وأن كبار كتاب العالم إن لم يكن أكثر من 90% منهم قد هجروا القصة القصيرة إلي الأبد. أذكر أنه في تلك الآونة كانت جريدة لومون تنشر في ملحقها الأدبي الأسبوعي قصصا قصيرة متوسطة المستوي لأدباء لا يذكر أحد عنهم شيئا سواء في تلك الفترة أو بعد مرور ربع قرن وما لبثت الجريدة أن توقفت عن ذلك مما زاد من انكماش اللجوء إلي قراءة أو كتابة القصة القصيرة.. موضة أما في مصر فإن الأمر تحول إلي «موضة» أو «بدعة» حيث فتحت صحف كثيرة بعضا من مساحاتها لنشر القصص القصيرة وعلي رأسها الملحق الأسبوعي لجريدة الأهرام وأيضا جريدة المساء والكثير من الصحف الخليجية والجدير بالذكر أن الأمر نفسه تم للشعر الذي كان قد أعلن عن وفاته أيضا ببطء شديد وتم الأمر نفسه أيضا بالنسبة للمسرح كنص مكتوب. أي أنه كانت هناك أسباب لازدهار القصة القصيرة في مصر؟ أولا وجود مساحات للنشر بالإضافة إلي الحاجز الأقرب إلي سوربرلين بين مثقفينا وبين ما يحدث في العالم بالإضافة إلي أزمة الترجمة في مجال الإبداع بشكل خاص.. ما جاء علي لسان الدكتورة عزة بدر نقلا عن بهاء طاهر، والدكتورة فاتن حسين فإن هناك اعترافا أن القصة القصيرة حتي في مصر قد ماتت والدليل العنوان «محاولة جادة لإحياء.. وان فن القصة القصيرة الذي أوشك أن يندثر في العالم كله يزدهر في مصر» مما يؤكد عبارتي القديمة أن مثقفينا في واد والعالم في واد آخر، فمازلنا نقيم حفلات التكريم لفن صار علينا أن نؤبنه. لا أن نحتفل به.. لا أميل إلي إصدار الأحكام القاطعة في شأن الإبداع والثقافة وأن نؤكد أن أحدا لم يعد يكتب هذا الفن في العالم، فهو موجود تواجد الأنفاس الأخيرة لكائن حي يحتضر وأذكر علي سبيل المثال أن الكاتبة الفرنسية - السنغالية الأصل - ماري ندياي الفائزة بجائزة جونكور في الأدب هذا الشهر صدرت لها 23 رواية ولها مجموعة قصصية واحدة وأنها حصلت علي أكثر من جائزة مرموقة عن رواياتها وأن النقاد لم يكتبوا كلمة واحدة عن مجموعتها القصصية «كلهم أصدقائي» المنشورة عام 2004. أعرف أن أدبائي المعاصرين المفضلين مثل باتريك موديانو الفرنسي وجون فاولز البريطاني وأيضا الشباب مثل ايان ماكوين وآمالي موتومب وغيرهم لم يكتبوا القصة القصيرة قط. وإذا فكر أحدهم في أن يغير الكتابة فإنه يلجأ إلي السيناريو السينمائي وقد لجأت ماري نديان في كتابة مسرحيات كي تشارك زوجها الكاتب المسرحي جان - ايف سندري إبداعه بدافع أنها تحبه ولكنها لم تتميز في تأليف المسرحيات. وفي مصر فإن الأمر لا يختلف كثيرا.. وأذكر تجربة نعمات البحيري التي تخصصت في تأليف القصة القصية وعندما قررت تأليف الرواية أبلغتني بقلقها الشديد حول التجربة فلما جاءت روايتها الأولي «أشجار عند المنحني» تفجرت فيها كل ينابيع الإبداع ورحب النقاد بعملها فصارت روائية وتركت القصة القصيرة جانبا إلا لدواع خاصة وأعرف أن سعيد الكفراوي قد كتب مؤخرا رواية ولديه حالة القلق الحادة التي راودت نعمات قبل نشر روايتها الأولي. كتابنا الكبار الآن قامت شهرتهم المتألقة علي الروايات حتي وإن كانت بداياتهم كانت في القصة القصيرة والأسماء عديدة لكننا نذكر قليلا منها مثل بهاء طاهر، خيري شلبي، إبراهيم عبدالمجيد، يوسف القعيد، جمال الغيطاني، جميل عطية، محمد ناجي، وغيرهم. ولا شك أن يحيي الطاهر عبدالله الذي لو قدر له أن يعيش إلي عصرنا لكتب الرواية ويمكن لهذا أن يتطبق علي الأغلبية أما حالة زكريا تامر وأنا الذي تابعته جيدا ورافقته عشرة أيام في معرض الكتاب في تونس عام 2007 فهي أيضا حالة إبداعية في الماضي أي أن الكاتب الذي بلغ أكثر من سبعة عقود من الزمن أي أنه ينتمي إلي مرحلة ازدهرت فيها القصة القصيرة. الموضوع طويل ومتشابك وأخشي أن أكرر ما قلته مسبقا في هذا الشأن كل ما أتمناه أن يكون مبدعونا علي صلة بالعالم فيما يقرءون.. أي تآمر لكن المثير حقا هو ما جاء في مقال الدكتورة فاتن حسين حين قالت: «لقد كان المتلقي حقا بمثابة قبلة الحياة التي أحيت فن القصة القصيرة. بعد أن تآمر عليها كثيرون لا لشيء إلا لأنها أدب جاء يحاول أن يبرز أدق لحظات الحياة الإنسانية يفضح الزيف الكامن في النفوس المريضة بكلمات قليلة معبرة وهي أشياء لا تقدر عليها الرواية لطولها وعدم وقوفها علي تلك التفاصيل الدقيقة». هل هذا كلام يا دكتورة.. أي تآمر هذ الذي تقصدين ومن هم المتآمرون بالضبط وما أسماؤهم؟ فما جاء علي لسانك ينطبق أيضا علي الرواية وعلي جميع أشكال الإبداع الأخري وهو موقفك مع الرواية ووصفك لها أنها عاجزة أمام التفاصيل الدقيقة. مقال الدكتورة مليء بالمعلومات المنقوصة فقالت إن القصة القصيرة شكل أدبي عبقري اخترعه في نهاية القرن التاسع عشر الكاتب الفرنسي جي دي موباسان بعد أن قرأ قصص «غرفة الأكاذيب» التي كانت تحكي في القرن الرابع عشر الميلادي في مقر الفاتيكان بإيطاليا ومخترعها «بوتشيو» إلي آخر ما جاء من معلومات. نعم لمع موباسان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بأقاصيصه لكن ادجار إلن بو سبق زميله الفرنسي بثلاثة عقود وهو يكتب أروع القصص القصيرة في تاريخ هذا الفن وإذا كان هناك من برع في هذا الفن فهو «بو» ثم جاء موباسان من بعده والحقيقة أنه رغم سحر الكتابة في القصة القصيرة عند «موباسان» فإن قراءة متكاملة لروايته «حياة» تعد أكثر متعة من كل أقاصيص الكاتب.. ولعل هذا رأي شخصي في المقام الأول. كما أن الأمر ينطبق علي بعض من ذكرتهم الكاتبة فرواية واحدة لهيمنجواي بجميع ما كتب من قصص قصيرة كما أن قراءة المرحوم ماتيا باسكال لبيراند يللو تعادل كل ما كتبه ويكفي أنها كانت سبب منحه جائزة نوبل عقب نشرها بعامين وليست مسرحياته العظيمة المتألقة.