انظر كم عدد النحاتين في أي معرض عام علي امتداد العقدين الأخيرين علي الأقل إنهم لا يزيدون علي نسبة 5% من عدد العارضين في المجالات الفنية الأخري ناهيك عن عدد المعارض الفردية في النحت التي قد تمر بعض مواسم المعارض بدون واحد منها وانظر إلي أقسام النحت في كليات الفنون فقد لا يزيد عدد طلبة الدفعة عن طالب واحد في بعض السنين فيما نري عدد الأساتذة بالعشرات!. وانظر إلي أعمال النحت الجداري والميداني في العاصمة تجدها تتناقص حتي توشك أن تتلاشي وتجد النادر من بينها أعمالا إبداعية جديرة بالشخصيات التي تجسدها أو بالرسالة الجمالية الكفيلة بالارتقاء بذائقة الجماهير. وبالرغم من خطورة هذه الظاهرة واستمرارها عدة عقود فلم تعقد من أجل مناقشتها وبحث كيفية الخروج منها أية ندوة متخصصة سواء بالجامعات المعنية أو بالمجلس الأعلي للثقافة الذي لم يترك فرعا من فروع الإبداع إلا وأشبعه بحثا.. من الشعر إلي الرواية إلي القصة إلي المسرح إلي السينما إلي المأثورات الشعبية.. إلخ.. إلخ.. صحيح أن لجنة الفنون التشكيلية بالمجلس لا تمل من عقد ندوات سنوية فإنها تدور حول موضوعات مستهلكة ومكررة ولم تهتم بإقامة إحداها عن النحت وكأنما تعتبره أثرا ميتا من آثار الماضي خاصة مع تزايد مساحة الأعمال التجميعية في المعارض التي يقيمها أو يدعمها قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة بعيدا عن تصنيفات الأنواع الفنية المعروفة لذا فإن هذه الظاهرة لم تلق أي اهتمام منه سواء من خلال معارضه أو مقتنياته أو مسابقاته أو جدارياته ويكتفي بالأنشطة الاحتفالية كما تكتفي اللجنة بترضية الأسماء والتوجهات الطافية علي السطح أو الأنواع المهجورة والجذور المطمورة فلها رب اسمه الكريم! من الممكن بالطبع الإشارة إلي بعض أسباب أزمة النحت: بين ضعف العملية التعليمية وتخلف النظرة الدينية وصعود الطبقات الطفيلية التي تقتني الأعمال الفنية بذوقها الضحل الذي ينفر من التماثيل وغياب الثقافة الفنية علي جميع الأصعدة وأهمها التجسيم وإهمال المشروعات التجميلية بواسطة النحت علي خريطة التنمية العمرانية بل حتي علي خريطة ما يسمي «بالتنسيق الحضاري» وافتقاد «النموذج» الذي يمثل للقاعدة العريضة جسرا بينها وبين النحت يعيد الاعتبار إليه خاصة بالنسبة للأجيال الجديدة، ذلك «النموذج» الذي كان من المفترض أن تتولي الدولة والدعاة إرساءه في المكان اللائق به ليستقطب أنظار الجمهور بغير عناء أو استعلاء ويؤسس قدوة يمكن الاهتداء بها ومطلبا لمحبي الفن لكن كل تلك الأسباب لا تجد من يحللها ويعيدها إلي صوابها ويترجمها إلي مشروعات وخطط عمل للخروج من الأزمة خطط قابلة للتنفيذ تتبناها قاعدة قوية من الفنانين والنقاد والمثقفين والنقابات وتضع كلا منها أمام الجهة المعنية بتنفيذها. وربما يظن القائمون علي «سمبوزيوم» النحت بأسوان أن هذا هو النموذج الذي أدعو إليه. ومن ثم فإن الدولة قامت بدورها والحقيقة غير ذلك فهذا السبموزيوم الذي استمر قرابة العقدين حتي الآن لم يكن إلا مختبرا تجريبيا للغة النحت الحديث منعزلا في أقصي جنوبالوادي بعيدا عن الجماهير كما أن ما تم انتقاؤه من التماثيل التي أنتجت فيه ليقام في أماكن جماهيرية بالقاهرة لم يستطع أن يكون جسرا للتواصل المنشود مع الجمهور لأن المفهوم الذي انطلق منه هذا الملتقي الإبداعي علي امتداد تاريخه هو المفهوم التجريبي برؤية غربية للحداثة سيما في الاتجاه التجريدي أغلب الأحيان، وهذا أمر لا يعيبه لكنه ليس النموذج القادر علي «التحريك الثقافي» وملء الفراغ. ولا ننسي أن اختيار أسوان كان - أساسا - لارتباطها بشيئين: الأول هو اتصالها بالنحت المصري القديم بما يؤدي إلي تعميق جذور الفنان المعاصر في امتدادها الحاضري وإلي استلهام هذا التراث بأعمال تصب في الوجدان القومي والثاني هو توفر حجر الجرانيت الذي يشكل مادة هذا التراث الحافظة له عبر التاريخ بما يعني تطويع الفنان المعاصر لها لإنجاز أعمال صرحية تتحدي الزمن وتلتحم بالعصر فإذا لم يكن هذان العاملان قد ساعدا في خلق «نموذج وسط الناس» فما معني وجود السمبوزيوم في أسوان إلا كونه تظاهرة سياحية أو تجربة نخبوية؟ وقد انتبه إلي هذا المعني بعض أصحاب القري السياحية وضواحي المليونيرات، فأقاموا ملتقيات دولية أخري للنحت علي غرار ملتقي أسوان، وأبرز اثنين منها أقيما في محافظة مطروح والقاهرة الجديدة، ولم تتعد نتائجهما الفنية «نموذج أسوان» وإن كانا قد خدما الغرض المطلوب منهما كواجهة أوروبية الطابع لتلك المنتجعات السياحية. ولعلنا نستبشر خيرا بالموسم الفني الراهن في إزاحة الغبار والنسيان عن فن النحت فقد استهل بثلاثة معارض أولها استعادي لمسيرة النحت المصري منذ بدايتها والآخران فرديان وجميعها بقاعات خاصة.. أما الأول فأقيم بقاعة الزمالك أواخر شهر أكتوبر مقدما بانوراما للنحت المصري الحديث والمعاصر منذ مختار حتي جيل التسعينات وهو جهد رائع وغير مسبوق بالنسبة لقاعة خاصة حيث نجحت في عرض أعمال 32 نحاتا من جميع المدارس والاتجاهات والأجيال وحمل المعرض عدة مفاجآت بظهور أعمال لم نرها من قبل لمختار استعيرت من مجموعات خاصة منها عمل بالنحت البارز كان معدا كواجهة صرحية لخزان أسوان في العشرينات من القرن الماضي وكذا مصغر التمثال الصرحي «العبور» للمثال جمال السجيني وأعمال رائدة لأحمد عبدالوهاب وعبدالبديع وآدم حنين وصبحي جرجس وصعب والوشاحي والفقي وعبده سليم وشكري ورضا ومحيي حسين والعلاوي، وصولا إلي جيل التسعينات وهي مسيرة مشرفة لكنها كاشفة - في الوقت ذاته - عن متغيرات جوهرية في الرؤي الإبداعية خاصة لدي الأجيال الأخيرة.. فرغم تميز فناني التسعينات بمواهب عالية وجريئة في لغة الشكل فليس لديها الكثير من رؤي المضمون ولا تزال بعيدة عن الإمساك بقبس الروح المصرية وعن تحقيق الحداثة عبر تجليات هذه الروح وعن الانتماء إليها ومن ثم فهي تظل بعيدة عن لمس وجدان دائرة أبعد من دائرة المتخصصين وأصحاب الذائقة الغربية.. وتلك إحدي أوجه أزمة الغربة والانقطاع بين الفن والمتلقي علي عكس ما نلمسه في أعمال الأجيال السابقة وما تحمله من تجديد، وليس ما أقوله موقفا ضد أي من اتجاهات الحداثة بل هو محاولة للتمييز بين حداثة مستعارة من أطر خارجية لا تتوافق مع مكوناتنا الثقافية وحداثة مستمرة من هوية حضارية تحاور حضارة الآخر وتنحو نحو التفاعل مع المجتمع ومع العالم. أما المعرضان الفرديان أوائل نوفمبر فأحدهما للفنان الناقد إبراهيم عبدالملاك بقاعة بيكاسو والآخر للفنانة مريم فرهام بقاعة اكسترا وينبعان من تجربتين تلامسان المعني الأخير للحداثة كل بشخصيته المختلفة ولست بصدد تقييم ما حققاه بل أردت التأكيد علي وجود أصوات أخري مهمومة بقضية ملء الفراغ النحتي بأعمال موصولة بالذات المصرية بغض النظر عما يتراء لنا عليها من ملاحظات.