لم يحدث، في السنوات الأخيرة، أن أثار فيلم معارك فكرية ومعارك سياسية، مثلما حدث لفيلم «التحقيق» للمخرج الألماني «توم تيكفير»، وأكثر من هذا، تكتل صناع الأزمات السياسية والاقتصادية لإعلان حالة الحصار علي هذا الفيلم. لماذا هذا الفيلم بالذات؟ لسبب بسيط، هو أن مخرجه أراد أن يقدم لكل شعوب العالم، رؤية صادقة، نافذة إلي العمق، لما تبثه القنوات الفضائية كمجرد أحداث فردية أو لتبرير دخول هذه الجيوش أو تلك أينما يوجد البترول، بحجة مكافحة الإرهاب الدولي. ونرجع بضع سنوات إلي الوراء لنتعرف جيدًا علي «توم تيكفير» كان أول لقاء لتيكفير بمثقفي مصر وبمحبي السينما في أول يونية 2003، عندما كانت العلاقات الثقافية الخارجية قد وضعت استراتيجية بالنسبة للسينما، تقوم علي المجابهة، عرض الأفلام الطليعية في هذا البلد أو ذاك، في إطار أسبوع لأفلامها. ومن 1- 5 يونية 2009، أقيم أسبوع للأفلام الألمانية بمركز الإبداع وكانت المفاجآت غير المتوقعة هو فيلم «لولا اجري، اجري يا لولا» Lola Rent. السرد السينمائي ربما في تاريخ السينما كله، يعتبر «لولا اجري» ثاني مغامرة في السرد السينمائي بكل عناصره، من حركة شخصيات إلي إيقاع الأزمنة وتقاطعها، وأقول ثاني مغامرة لأن المغامرة الأولي كانت فيلم «المواطن كين» Cizisen لأورسون ويلز. إلا أن فيلم تيكفير يجييء وقد وصلت تكنولوجيا الصورة إلي الذروة، إلي حد التحكم في تدفق المشاهد دون اللجوء إلي التقطيع المدرسي: يسار- يمين- وجه* وجه وجه* مجموعة... إلخ. ولا نري طوال العرض سوي ثلاث شخصيات: لولا الشخصية الرئيسية، وماني حبيبها، ووالد لولا مدير بنك كبير. ولا يسمح لنا السرد اللاهث أن نفكر في هذه النقطة الجوهرية: ماني يعمل لحساب عصابة سرقة سيارات، هو إذن شخصية علي هامش المجتمع، خارج القانون، بينما لولا ابنة مدير البنك كيف؟ هنا تتفتح لنا رؤية جيل جديد، ليست لديه معايير طبقية. وليس لديه برنامج حياة، الحاضر والمستقبل يستويان فهم أبناء المجتمعات، استهلاكية، براجماتية، شعارهم: «لتحصل علي المال أينما تجده، ولا تهم العواقب». يبدأ الفيلم بأزمة ماني عليه أن يرد 800.000 مارك لرئيس عصابة سرقة السيارات وإلا تعرض للقتل. ويهرع ماني للبحث عن عجلته البخارية، فإذا بها قد سرقت ماذا يفعل أليس أمامه سوي عشرين دقيقة ليصل إلي الموعد الذي حددته العصابة. لا يوجد من حل سوي أن يستقل المترو وينسي الحقيبة التي تحتوي علي المال ويجري ماني إلي أقرب كابينة تليفون، ويتصل بصديقته لولا، علها تجد له حلا يخرجه من مأزقه. لا نكاد نسمع ردودها. ضوضاء برلين الخارجية تتداخل مع الحديث التليفوني. ثم بعد لحظات تفتح لولا باب شقتها، وتهبط الدرجات مسرعة، لاهثة، وعلي الشاشة تقرأ: «ماذا يحدث لو؟»، وبعذ لك: لولا. لولا تجري. تقطع الشارع العريض، وسط برلين، (Berlin- Mitte)، مع حركتها تكشف لنا الكاميرا عن نماذج بشرية حادة التعارض، لا تأبه لولا، تصل وصدرها يرتفع ويهبط إلي باب بنك كبير، يحييها الحارس، بإشارة منه يؤكد لها أنه فوق. وفوق، والدها. تطلب منه أن يقرضها مبلغ الثمانمائة ألف ليرة. يعتذر الأب تصدم لولا. كيف؟ كيف وهو لديه كل القدرة علي التحكم في أي مبلغ؟ صدمة ومرة أخري تعود لولا إلي الجري، إنها تبحث عن مكان لا ندري أو كازينو أم بيت بنات الهوي، المهم أنها تقدم مرة أخري، ومرة أخري، نقرأ علي الشاشة: «ماذا يحدث لو..». وبعد ذلك. كما في الحركة الأولي من هذه السيمفونية البصرية، تهبط لولا الدرجات بعد أن أوصدت باب شقتها، وتجري، كما في المرة السابقة، لكنها تقصد أحد محلات المرابين الكبار، وتصدم ثم تجد من يقرضها المبلغ المطلوب، وتحاول أن تتصل بماني. وكان في المرة السابقة قد حدد لها مكان انتظاره أمام محطة المترو، في ميدان كبير، يتصدره سوبر ماركت متعدد الطوابق، ومحلات أخري، كلها تلخص حركة سكان برلين في مجتمع استهلاكي براجماتي. أين ماني؟ وتنظر لولا الساعة. المدة المحددة تكاد تنفذ. لم يبق سوي دقائق. كيف تجد ماني؟ وللمرة الثالثة، نقرأ علي الشاشة: «ماذا يحدث لو». ماذا يحدث لو أن ماني وجد حقيبة. وبالفعل يري ماني عجوزًا من المتشردين، يجري ماني ليلحق به. علي هذا النحو، نجد بيئة الفيلم تقوم علي أسس: «حساب الاحتمالات»، وإذا كان هذا المبدأ يستخدم في الرياضيات البحتة، فها هو مخرج يستخدمه في السرد بمنطق ما نسميه: «الواقع الافتراضي» Virhial Reality. فالفن ليس موضوعه الحقيقة العارية، بل الحقيقة البشرية، ترابط البشر أو تفككهم، وما الذي يخلق الترابط و التفكك، هو: «المحتمل». إنه قانون الجذب والتنافر. وفي الدراما، يصبح هذا القانون محور الصراع الدرامي. فالتوتر ينشأ من وجودك بين احتمالين: أحب أم أكره/أفعل هذا الشيء أم لا أفعله؟. ومن نقطة توتر إلي أخري، تتولد ديناميكية حركة الفيلم. كان ذلك هو اللقاء الأول مع السينمائي الألماني. أما اللقاء الثاني، فكان في جمعية نقاد السينما، كان الناقد الكبير مصطفي درويش عائدًا من ألمانيا وفي جعبته أحدث ما أنتجته أوروبا من أفلام، ورأي أن يعرض فيلم: «العطر» وكان الفيلم قد انتزع العديد من الجوائز في مهرجان السينما الأوروبية عام 2007 (أحسن إخراج وفي مهرجان بافاريا (أحسن تصميم ديكور، أحسن إخراج) وفي مهرجان أوندين بالنمسا نفس الشيء. قصة حقيقية «العطر» (le Parfiem) ينقلنا إلي فرنسا في القرن الثامن عشر، ليحكي قصة حقيقية تناقلتها الأجيال. قصة جون باتست جروني (بالفرنسية جروني تعني الضفدعة). لا يعرف أبويه، فقد تربي في ملجأ للأيتام، ولم يكن يختلط بأحد، لكن عزلته تقطعها باستمرار- الروائح، خاصة روائح الورود والزهور، لأن حاسة الشم لديه تطورت إلي درجة حادة، وإذا بهذه الحاسة يجد نفسه وقد انطلق بحثًا عن مصدر الرائحة. وتدريجيًا اكتشف أن الكثير من الفتيات تفوح أجسادهن برائحة عطر نادر، ولا شعوريا، بدأ جون باتست جروني يبحث عن فتاة، ويخطفها، ويعود إلي قبو بالملجأ أو بالدير- لا أذكر بالدقة- حيث نجد أواني زجاجية أشبه بأنابيب الاختبار، ما الذي يفعله؟ إنه يقتل الفتاة ويجردها من ملابسها، ثم بفرشاة يمسح كل جزء من جسدها، ويغمس الفرشاة في آنية زجاجية، يستخلص العطر من الجسد الأنثوي. بالطبع تحدث حالة ذعر في البلد، ولا أحد يدري من وراء اختطاف الفتيات، وتتحول حركة الفيلم إلي حركة بوليسية، بينما الفاعل في قبوه يستمرئ الحصول علي عطر جديد، ثم ينتهي الفيلم باكتشاف المجرم، لكن المجرم ينهي حياته بنفسه. رغم بشاعة الفعل، إلا أن «ميزانسين المخرج، بوضع الفتيات عاريات، أجسامهن تذكرنا بلوحات شاجال أو بلوحات الباليه التي رسمها دوجا. تكاد تشم رائحة العطر، بينما الموت يحلق علي مكان رمادياته تتخلل زرقة طلاء الأخشاب. زرقة ليس لها انسيابية الأفق. لا سماء هنا، بل الطين. ميدان من الطين تنبعث حياة أخري، ما تبقي من الأجساد: العطر. لا يوجد فن آخر سوي السينما يعطيا هذه التكوينات. مشاهد معدودة أما الفيلم الأخير «التحقيق» فلم أر منه سوي عدة مشاهد تخللت حديثاً طويلا مع المخرج، وذلك ببرنامج السينما الذي تقدمه القناة الفرنسية ARTE، ومن هذه المشاهد، ومن تصور المخرج، يمكننا أن نستخلص فكرة أولية عن الفيلم. بناء الفيلم بناء بؤرة، بؤرة تلقي فيها أشعة مصدرها من كل جوانب الأرضية. فنحن أمام محقق ومحققة، ثنائي يثير الكثير من التنازل، ونعرف أن ما يحبها هو حصولهما علي وثائق تؤكد تورط البنوك الدولية والشركات المتعددة الجنسية في إشاعة القلاقل، في تركيا، في أفغانستان، في العراق، في أمريكا اللاتينية... إلخ. إنها مافيا دولية. كيف يجسدها الفيلم. لا تكفي بضعة مشاهد لتحكم علي العمل كاملاً، ومع ذلك فما تسمعه من المخرج، وما تجسده المشاهد في الخلفية تجعلنا نتوقع عملاً رائعًا. يبقي سؤال: في بلدنا نحو خمسين كلية إعلام السينما فيها مادة أساسية، ونحو عشرين كلية آداب، الفرقتان الثالثة والرابعة بأقسام الاجتماع، السينما فيها أيضًا مادة أساسية، ولدينا فنانون وأدباء وطلبة خريجون في المعهد العالي للسينما وفي كلية الفنون التطبيقية، وفي كليات الفنون الجميلة، أليس من حقهم رؤية فن حقيقي؟ مجرد سؤال لقد حاولت المنتجة، المخرجة ماريان حوزي أن تقيم ما يشبه البانوراما السينما الأوروبية لكن لم يتسجب قلم ناقد لهذه الأفلام، فيما عدا رفيق رحلة العمر، رفيق الصبان.