لأن الوطن وكل الأوطان هي ملك مواطنيها.. كل مواطنيها، ولأن تاريخ البشر يكتبه الناس بما يفعلون ويديرون.. كل الناس، ولأن رمضان شهر له طقوس دينية في جانب العبادات للمسلمين ومصرية وشعبية وتراثية خاصة يعيشها أهالينا في بر المحروسة.. كل المحروسة، فقد كانت لي مع رمضان كمواطن مصري الكثير من الذكريات.. صرخة في شطانوف كانت صرخة هائلة قد دوت في سماء "شطانوف"، وشطانوف أشمون منوفية "نوف" من المصطلحات الفرعونية من مشتقات نفر وتعني الجميلة والطيبة و"شطا" اسم مصري قديم سمي به الذكور وكثر تسميته في الحقبة القبطية وشط بالعامية مرادف لساحل جسر النيل وكلمة نيف الفرنسية بمعني جديد كلها متداخلات محيرة في تفسير اسم شطانوف ومنطبقة عليها وهنا تاتي صعوبة تعليل الأسماء، والأرجح أنها تعني الشط الجميل، وتعد من القري المصرية القديمة الضاربة في التاريخ للعصور الفرعونية والشهيرة بكنائسها وآبائها وقساوستها في العصر المسيحي ومنهم "أري الشطانوفي" ومازال بها كنيسة ترعي شعبها المسيحي والقري المجاورة، ومن المهم ذكره أن أشهر من حمل اسم المنطقة هو الإمام الشطانوفي مؤلف كتاب «بهجة الأسرار ومعدن الأنوار في مناقب الشيخ عبد القادر الجيلاني».. أما الصرخة فكانت للراحلة الطيبة أمي وهي تُعاني آلام الولادة الصعبة، ومع كل آهة كانت بالخارج تزداد أهازيج أطفال القرية وهم يسيرون خلف المسحراتي رغم عتمة ليلة شتوية باردة، وشوارع باتت مستنقعات وأوحال لكنها أبداً ما منعت فرحة أطفال القرية وأغانيهم "وحوي يا وحوي إيوحه.. رحت يا شعبان، جيت يا رمضان وحوينا الدار..والخير أهو بان.. هل هلالك شهر مبارك"، وتتقارب الصرخات وتعلو في سماء بيتنا، بينما والدي وكيل البوستة بالقرية (والبوستة جزء من المنزل يفصلهما باب جانبي هكذا كانت تعليمات هيئة البريد) يحاول إيقاظ "أبوحطب" ساعي البريد الحارس للمكتب ليوقظ زوجته لمعاونة والدتي حتي يأتي هو بالدكتورة نادية (هكذا كانوا يسمونها فهي كبيرة ممرضات قسم النساء بمستشفي المركزالميري ومساعدة الدكتور مدحت أجدعها دكتور في الناحية )، المهم خرج إلي الدنيا المولود بعد معاناة صعبة وساعات طوال من الألم، وكان المولود هو أنا ذلك البائس صاحب الرأس الضخمة التي كادت تحول بيني وبين الخروج إلي الدنيا في أمسية شتوية رمضانية بعد عام من ثورة يوليو 1952، ونادي المسحراتي هاتسموه إيه علشان نسحره يا خواجة بشاي ردت أمي والدكتورة نادية في صوت واحد "مدحت " ويارب يطلع دكتور زيه (ملحوظة رغم عدم حضوره الولادة لكنه كان المتابع فقط للجنين الغريب!). مولود في رمضان ومع بداية شهر رمضان من كل سنة كان الوالد الشاعر والفنان خفيف الظل رحمه الله يجمعنا، ويحكي لنا عن تلك الليلة الغريبة وفرحة المسحراتي وولاد الحتة وهو يوزع عليهم حلاوة المولود، وهو كمان بيسأل عن الطفل ابن عمتي ضيفنا القادم من القاهرة اللي سلمه لأبوحطب الساعي علشان ما يسمعش صوت صراخ أمي، وقال له خده بعيد عن البيت وخد معاك الخروف ده حميه ونضفه فإذا بيه يحمي الولد بميه ساقعه في عز الشتا ويكتفي بإبعاد الخروف، أما أختي سهير الكبيرة فدخلت غرفتها لتستمع للست آمال فهمي وفزورتها اللي كاتبها بيرم التونسي، وخرجت فرحانة " بابا.. بابا.. حزر فزر.. حاجات وصي عليها الحكيم كل الشفا فيها للسقيم سموها بي وسموها سي وسموها دال وسموها جيم فإيه هي؟".. ليلة كان فاكرها والدي ويحكيها بكل تفاصيلها كل رمضان ومع أننا عارفينها لكننا في كل مرة نضحك. ولأن هيئة البريد كانت تعليماتها نقل مديري الإدارات كل 4 سنوات فقد كانت المحطة التالية قرية "سرس الليان" القرية النموذجية بعد أن اختارها " اليونسكو " لإنشاء مركز بحثي علمي تعليمي تثقيفي، وفي أول يوم رمضان طلب مدرب الفنون التشكيلية في المركز من أطفال القرية رسم المسحراتي، وكان عملي من الأعمال الفائزة، وتم تصويرنا مع مدربنا وأعمالنا تحت تمثال ضخم لأعداء التقدم الفقر والمرض والجهل في مدخل ذلك المركز الدولي الرائع.. وفي المساء كان الجيران يحضرون إلي بيت وكيل البوستة لأن لديه راديو كبيرا (أتذكر شكله جيداً والرف العالي والكبير لأنه لابد يتسع لعدد كبير من الأكواب التي يوضع فيها قطع من الكربون بديلاً للبطارية توضع بجانب الراديو).. وبعد سماعهم فوازير الست آمال فهمي التي صار يؤلفها صلاح جاهين خلفاً للتونسي والتي كان الجميع يتباري في حلها.. كانت تبتدي بحوار بين آمال وجاهين كمقدمة.. أذكر منها .. آمال : مادام للغنوة معني جاهين: ومادام في الغنوة صورة آمال: نرسمها تاني إحنا جاهين: وتبقي دي الفزورة آمال: مثلاً غنوة زي الأطلال جاهين: مادام للغنوة معني آمال: ياحرام متكسر ميت حتة جاهين: وميت ذكري تخطر علي البال آمال: والآخر نقفلها بسطرين جاهين: علي نفس الوزن اللي تقال آمال: فزورة تحلوها في الحال جاهين: تبعتوا حلالانها مع المرسال آمال: اسم الغنوة جاهين: الأطلال وبعدها كان الصمت يسود المكان للاستماع إلي ليلة جديدة من ليالي ألف ليلة التي كان يعدها للإذاعة العبقري طاهر أبو فاشا ويخرجها الإعلامي الأسطورة بابا شارو، فتنساب موسيقي الحلقات الشهيرة وصوت الممثلة العظيمة زوزو نبيل وكأنه يأتيك من عوالم أسطورية بعيدة. الفنون التطبيقية وبعد 20 سنة كنت قد أصبحت طالباً في كلية الفنون التطبيقية، وفي برنامج تدريبي يشرح لنا أستاذنا الراحل الجميل الفنان فهمي عبد الحميد كيف يتم إعداد الصور المتتابعة لسيناريو حلقات ألف ليلة وليلة، ولما سألته " لكن حضرتك مش شايف إنه مهما كانت الصور هايلة وبديعة ممكن لا توازي الخيال الجميل اللي كنا بنستمتع بيه في حلقات الإذاعة؟ أجاب : سؤال هايل بس كل عصر ليه أدواته وفنونه.. في البداية هيبقي في حاجز بين المشاهد واللي بيشوفه، وبعدين بالتدريج بيحصل التفاعل.. ثم نظر لي متأملاً ثم لباقي الطلاب وسألهم تفتكروا لو رسمنا إيه في مدحت يبقي هوه من غير منكمل رسم الملامح.. بصوا لعينيه وبدأ يرسم دايرتين وجواهم دايرتين النني الأسود وهما متعلقين بأعلي الدواير الفاضية.. ثم قال ده أهم ما يميز ملامحه مش كتير الناس اللي النني عندهم متشعلق فوق كده وتحته بياض، ونظر إلي زملائي وكأنهم يرونني للمرة الأولي.. وراحوا في ضحكة جماعية.. وبالمرة عزيزي القارئ إليك نكتة رمضانية " سأل مسطول زوجته صارخا : هو فين السحور ياوليه، فقالت له : هو أنت بتصوم علشان تتسحر، فقال المسطول : ياه لا فطار ولا كمان سحور هوه احنا كفار للدرجة دي؟». ده يوم رمضاني في بيت مسيحي أهديه إلي من ندهتهم نداهة "الإخوان المسلمين" ومن قلدوهم ليشكلوا جماعة "الإخوان المسيحيين" ليقسموا في البلد ويقطعوا في أوصالها!