"الآن يبدو واضحا أمامنا أن كثيرين لم يتكلموا حين كان واجبهم يقضي عليهم بأن يتكلموا، ومن هنا فلسوف يبقي أهم الضمانات - لعدم تكرار ما حدث - أن يكون في هذا الوطن دائما ذلك الفرد المؤمن الذي يقول كل ما يريد قوله حتي إذا أعطي رأسه ثمنا لإيمانه". لا ينطبق هذا الجزء من حديث "جمال عبد الناصر" علي هزيمة يونية (1967) ويعبر عن أوضاع مصر منذ يوليو(1952) وحتي يونية (1967) فقط بل يعبر كذلك عن أحوال مصر قبل(25 يناير) وبعده أيضا. فتماما مثلما كان يوصف كل من يتحدث بالسلب أو يوجه النقد لحركة(23 يوليو 1952) بأنه ضد الثورة والإصلاح وينتمي للعهد البائد. كذلك يوصف أيضا كل من يجرؤ علي نقد أي مما حدث منذ(25 يناير) بأنه من فلول النظام القديم والحزب الوطني وعميل للثورة المضادة. مصر 52 ومصر 2011 لكن شتان الفارق فمصر(1952) كانت تضم مجموعة من المثقفين التنويرين كانوا آخر مشاعل فكر عصر النهضة وأبناء " رفاعة " كما يصفهم " بهاء طاهر " وكانوا يمثلون النخبة التي تقود حركة المجتمع للأمام حتي أننا مازلنا نعود إليهم ونقتدي بهم- فكرا وعملا - في حياتنا الثقافية حتي اليوم. ولكن النظام العسكري بطش بهؤلاء المفكرين فكانت هزيمة يونية (1967) النتيجة التي ايقظت الجميع ونبهت لضرورة النقد والمراجعة والتقييم. أما مصر(2011) فكانت في حالة من التدهور الفكري والثقافي لا يستطيع أحد من العقلاء المنصفين انكارها، فضلا عن مجموعة من المثقفين لا يجيدون سوي الكلام ثم الكلام ثم الكلام وخوض معارك لا طائل ولا جدوي من ورائها. وكانت الثقافة ظاهرة صوتية وطنطنة وأكثر مبيعا ومضامين فارغة وحسبة وتكفير وتغييب للرموز والقيم الثقافية. ولكن إذا كانت هذه هي الصورة فمن الطبيعي والمنطقي أن يكون السؤال هو كيف حدث ما حدث منذ(25 يناير) إذن ؟ وهذا هو ما لن أجيب عنه لأنه متروك للباحثين والمحللين في علم الاجتماع والسياسة لأنهم الأجدر علي تفسير ذلك أما ما يهمنا هنا فهو تقييم ما حدث علي أساس من العقل بعيدا عن العواطف والأهواء والانفعالات الثورية في محاولة للاستفادة وتحديد الأهداف والأولويات المطلوبة في المرحلة القادمة ووضع الخطط والاستراتيجيات الفعالة والعملية لتحقيقها حتي لا نصل إلي نكسة أخري جديدة. عندما اندلعت الثورة الفرنسية (1798) كان قد سبقها- أو بالأحري كانت قد بدأت - حركة تنوير وثورة عقلية وفكرية تبعها ثورة سياسية اعتمدت علي القوة وتغيير النظام وإقامة آخر مكانه. وهنا كان سر قوة ونجاح الثورة الفرنسية في التغيير الذي لم يقتصر علي فرنسا فحسب بل طال أوروبا كلها. "ذلك أن التغيير الحقيقي للمجتمع لا يتم بإزالة حكامه السابقين، ولا بإلغاء القوانين التي كانت تسند نظامهم واصدار القوانين الجديدة التي تسن تغيير الأوضاع، مهما تكن هذه القوانين الجديدة شاملة ومهما يكن تطبيقها دقيقا حازما. إنما يحدث التغيير الحقيقي إذا استطاعت الثورة أن تدخل تغييرا أساسيا علي وعي المجتمع نفسه، بتغيير نظرته إلي العلاقات الأساسية التي بين الإنسان وعالم المادة، والتي بين الإنسان وأخيه الإنسان. وتتمثل هذه النظرة فيما للمجتمع من مفاهيم وقيم. إذن فتغيير المفاهيم الفكرية والقيم الروحية والأخلاقية هو ما يجب أن يفعله المثقفون وتحققه الثورة من أجل اكتساب الوعي الثوري الصحيح وبناء مجتمع حديث وتحقيق الحرية والديمقراطية. وبدون هذا الوعي الثقافي والفكري الجديد تكون الهزائم والنكسات وحرية وديمقراطية زائفة وغزوات للصناديق- وهذه الأخيرة وغيرها ليست حوادث وظواهر عارضة في ظروف استثنائية - إنما هي سمة ثقافية شديدة الخطورة سبق الإشارة إليها منذ ما قبل(25 يناير) زادت قوتها واستفلحت بعدها. إثارة واستفزاز "هذا، وإنا لنعلم الآن أن العلاقات التي تقوم بين الأشخاص، خارج نطاق المؤسسات السياسية، وهي علاقات الصناعة، والموصلات، والعلم والفن, والدين، تؤثر في الاجتماعات والاتصالات اليومية؛ ومن ثم تؤثر تأثيرا عميقا في المواقف والعادات التي تتجلي في الحكومة وفي القواعد القانونية. فإن كان حقا أن الأمور السياسية والقانونية تؤثر في تشكيل الأمور الأخري، فأكثر من ذلك حقا أن المؤسسات السياسية نتائج ومعلومات وليست أسبابا وعللا" وتشهد غزوة الصناديق ودعاوي دولة الخلفاء والدولة الدينية علي ذلك. وليس ثمة حرية ولا ديمقراطية دون تلك الثقافة الحرة التي ترتبط بها وتتمخض عنها ودون أساسها الأول الذي إذا أصابه خلل أو اهتزاز فقد الإنسان حريته. هذا الأساس هو حرية العقل والفكر فإن "حرية الفكر استدعاء دائم للسؤال وسفر متواصل نحو البحث والتنقيب ونحو الاجتهاد والتجريب، والذي هو فضيلة في عوالم العقل يمسي جنحه في قواميس السياسة. إنه التحريض علي التأمل، والتحريك بغية التدبر، والحث علي مشاكسة المسلمات. إنها الإثارة، بل هي الاستفزاز، ولا رقي في عالم الأفكار بدونهما. فالعقل عدو الجمود، والعقل عدو الحظر المسبق، لأن صديقه الحميم وعشيرة الأمين هو المساءلة، وهو المجادلة" هنا لا يستطيع أي إنسان أن ينظر إلي نفسه كذات حرة أو أن يفهم معني الحرية ويقدرها إذا أصيبت حرية العقل والفكر بأي خلل أو تعطيل سواء كان عن طريق الأيديولوجيات المختلفة أو المؤسسات دينية كانت أم سياسية أو أيا ما كانت لا تعتمد العقل وحرية الفكر كأساس ومرجعية. وهنا "لابد أن نميز بين نمطين من الوعي الثقافي العام، ينتج كل منهما عن نوع الثقافة الغالبه بالقدر الذي يسهم في إعادة انتاجها واشاعتها وترسيخها: الأول وعي ماضوي تقليدي، والثاني وعي مستقبلي استشرافي. الأول وعي أصولي، نقلي، استرجاعي، يحاول أن يشد الحياة إلي الوراء، وذلك علي نحو يغدو معه سؤال المستقبل سؤالا غائبا عن الواقع وليس عنصرا تكوينيا من عناصره الحيوية" ويعتمد هذا الوعي علي النقل وإلغاء العقل والركون إلي التصديق والنفور من السؤال الذي يجعل الأفكار الإنسانية والمسلمات الاجتماعية والفكرية محل المساءلة أما الوعي المستقبلي "فهو نقيض الوعي السابق علي المستوي الفردي والجمعي، لأنه وعي يقيس علي الحاضر في حركته إلي المستقبل الواعد، ولا ينشغل بالماضي إلا بوصفه عنصرا من عناصر الحاضر الذي يقبل التحول والتطور والمساءلة" ويعتمد هذا الوعي علي العقل الذي يدرك أهمية العلم في التقدم الإنساني وينشر الرغبة في الكشف ويرفع النسبية كشعار. ولأن كل النظم علي اختلافها (سياسية، دينية، اجتماعية، اقتصادية..إلخ) ترفض وتكره أن تكون محل المساءلة فهي ترفض ذلك النوع الثاني من الوعي عاملة علي اخماده وتغييبه أو توجيهه بشتي الطرق. وقد يكون المثقفون أنفسهم إحدي وسائل وأدوات النظام التي يعتمد عليها في تحقيق أهدافه بنجاح تام وكامل سواء كان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أو حتي تطوعية. "فالملحوظ أن الثقافة- أي ثقافة - تصطنع أنساقها الخاصة علي مر العصور، وأننا نحن كصنائع ثقافية نعيش في حال مردوجة من الوعي الثقافي والعمي الثقافي معا، حيث نستطيع أن نحصل علي درجة من الوعي الفكري والفلسفي حتي لنري عيوب الثقافة ونمتلك الجرأة المعنوية علي كشفها وفضحها، ولكننا في الوقت ذاته نخضع لشيء من العمي الثقافي يصاحب الوعي ويختبئ من تحته ويلف عليه، وهذا العمي الثقافي يجعلنا كائنات بشرية مسخرة ومصطنعة في الوقت الذي نحن فيه مفكرون وناقدون ومنفتحون، وسنقول الشيء ونقيضه وسنفعل الضد مع الضد وسنري المرء ديموقراطيا وديكاتوريا في آن وإنسانيا واستبداديا في آن." وتستغل الأنظمة ما يسميه الغذامي هنا بالعمي الثقافي لضخ وتسريب مجموعة من الأفكار الجاهزة والإطارات العقلية الجامدة تسير عليها الحياة الفكرية والثقافية في المجتمع وتثير الفرقة والإنقسام في المجتمع وبين المثقفين أنفسهم فيكون هناك "المثقف الذي تنتفع به السلطة ويظل المجتمع معترفا له بانه مثقف، وهناك المثقف المحسوب علي السلطة والذي ينقسم المجتمع في امراه: بعض الناس يصغون اليه وبعضهم يديرون الرأس. مثقف الجمهور أنواع هناك مثقف الجمهور والذي لا رغبة له في معاداة السلطة، هناك مثقف الجمهور الذي يشتري رضا الجماهير بمعاداة السلطة، وهناك المثقف الذي يغازل السلطة من وراء ظهور الجماهير، وهناك المثقف الذي يتطوع بالانتقال من مترجم عن خلجات المحكومين إلي مترجم لمقاصد الحاكمين، لأنه يستطيب أن يتحول من مبدع للمتن إلي حاشية علي هامش النص. وهناك المثقف المستقل وهناك المثقف المستقيل. وهناك المثقف المتعفف الذي يعيش علي الكفاف، ويرضي بالكائن، ويقنع بالموجود، ولا يجادل في تغيير الأوضاع لأنه المكتفي بالحاصل(.........) وهناك المثقف القائم بنفسه علي نفسه لا يغازل أحد ولا يغازله أحد، فإذا حلت بالسياسة الوطنية إحدي الملمات هب منجدا، وانبري منتصرا ورفع صوته عاليا بالكلمة الشريفة فتمتدح له السلطة نبله، وتحفه بالإكرام لجرأته في الانتصار إلي الحق فإذا هو يستطيب الإكرام ويرنو إلي الاغداق، فيركن ويثوي، ويزيد اقترابا، فاحتكاكا، فالتصاقا (.......) وهناك بين المثقفين فئة ما انفكت تندر لقلة العدد، وما انفكت تعز لضعف العدة، الوطن في شريعتهم قبل ذواتهم، والحق في ملتهم قبل أرزاقهم، يحملون أقدارهم علي رؤوس أقلامهم، فإذا جد الجد ونادي المنادي لم يتوانوا في مس الجمرات بأطراف اللسان. ومن المثقفين مثقفون ورائهم مثقفون وأمامهم مثقفون." ومن الطبيعي وحتما في أي مجتمع يكون فيه حال مثقفية هكذا أن تبوء حركاته السياسية والإجتماعية بالفشل والنكوص إلي الوراء. لأنه ليس ثمة حركة ثقافية وفكرية لتمهد وتدعم هذه الحركات السياسية والإجتماعية في عملية التغيير والإصلاح المرجو فتكون النتيجة الفشل ورد فعل رجعي لهذه الحركات، حيث أن نصف الطريق مرهون بما يقدمه ويقوم به المثقفون وأصحاب الفكر مثلما كان الحال في الثورة الفرنسية. وإذا كانت مصر- وخاصة في العصر الحديث - قد مرت بالعديد من الثورات إلا أن جميعها- من وجهة نظري - كان هدفها التخلص من متسلط مستبد معتد دون الإنتباه والإهتمام برسم الخطط لبناء المجتمع وتقديم مفاهيم جديدة للحياة في الفكر والعمل والوعي والعلاقات الإجتماعية. وذلك بسبب غياب الوعي الثقافي الثوري إما لتدهور الحالة الثقافية والفكرية في المجتمع بصفه عامة وإما بسبب المقاومة والبطش بالمثقفين وأصحاب الفكر من جانب الأنظمة الثورية الجديدة. وبعد فترة تفيض حماسة وتشتعل حمية يجئ الفشل وخيبة الأمل. ولأن مراحل وحالات التغيير والإنتقال قد لا تكون سوي وسيلة وذريعة أو معبر للوصول إلي أغراض وأهداف أخري مختلفة كلية عن المنشود منها. لذا يجب علينا تقييم أوضاعنا بميزان العقل وتحديد النقطة التي بدأ منها المجتمع المصري حركته الأخيرة علي مستوي الشعور والوعي والفكر والثقافة حتي يتسني لنا بعد ذلك القدرة علي التماس الحلول لمشاكلنا وإتمام الانتقال من هذه المرحلة واللحظة الحرجة علي أكمل وجه نحو مرحلة جديدة تقوم علي أسس وقواعد سليمة علمية عقلانية.