شخصية عصبية المزاج، حادة الطبع، متوقدة الذكاء، قوية المنطق، وذلك من أثر قراءاته العديدة، واطلاعه علي كل المذاهب والأفكار من اللغات الإنجليزية والفرنسية والعربية.. لقد اكتنز قسطاً من المعلومات والمعرفة، والتي تكثفت وتراكمت وجعلته يتكلم في الفن والأدب والفلسفة والسياسة والعلم والدين والمجتمع والحضارة.. يتكلم في حماس شديد، بل في ثورة عارمة في بعض الأحيان.. إنه مجموعة من المتناقضات، تلتحم وتتصارع في لحظة واحدة بين جوانحه، وسرعان ما تتحول من حالٍ إلي حال، بهذه الكلمات يصف المخرج الكبير أحمد كامل مرسي صديقه الفنان والمخرج الكبير كامل التلمساني الذي عاش بين اروقة الفن والادب والسينما جاعلا منها ادوات تقتحم عقول المصريين في محاولة لتحريرها من ظلمات الجهل والفقر والمرض!! ولد الفنان كامل التلمساني في 15 مايو 1915 لأسرة فقيرة بقرية نوي مركز شبين القناطر محافظة القليوبية، وظل بها حتي حصوله علي الشهادة الابتدائية، وفي هذه القرية تفتح وعي كامل التلمساني، ورأي البؤس والفقر الذي يعيش فيه الفلاح المصري، ومن هنا ارتبط بالارض والفلاح حيث بدأت موهبته في الرسم تتكشف وتنقل ما تراه عينه من تناقض واضح بين جمال الطبيعة ومناظر الحصاد وبؤس وفقر هذا الفلاح الذي يزرعها!! استاذه الأول في عام 1925 تنتقل الاسرة الي القاهرة، وتتنقل بين عدة احياء شعبية منها حلوان والصليبة، واخيرا استقرت بالجيزة حيث التحق كامل بالمدرسة السعيدية الثانوية، وفي السعيدية يلتقي بأستاذه الاول يوسف عفيفي مدرس الرسم بالمدرسة ليكون مرشده الاول في عالم الرسم، وطوال هذه الفترة لم تنقطع زياراته لقريته حيث كان دائم التردد عليها ليرسم المناظر الطبيعية ويدرس حال الفلاح. وفي عام 1930 يحصل كامل علي البكالوريا ويلتحق بكلية الطب البيطري، لكن كان الفن قد استولي علي تفكيره كلية فلم يستطع استكمال تعليمه بالكلية، وقرر انهاء تعليمه بالكلية بعد ان قضي بها خمس سنوات رسب خلالها اكثر من مرة وكان ذلك عام 1941 . وقبل ان يترك كامل الكلية كان قد التحم بالحركة التشكيلية في مصر خاصة بالسريالية والتي بدأت في مصر علي يد جورج حنين ورمسيس يونان، واستطاع كامل ان يكون احد ابرز روادها سواء بلوحاته التشكيلية التي ارتبطت بالفلاحين والبسطاء، كذلك مقالاته التي نشرها في هذه الفترة بمجلة (مجلتي) التي كان يصدرها أحمد الصاوي محمد، وكانت في ذلك الوقت بمثابة المنبر الثقافي للفن الحديث.. كذلك تعرف علي سلامة موسي ونشر معه في (المجلة الجديدة) مجموعة من الصور الادبية تحت عنوان (من الحياة والفن)، كما شارك في هذا الوقت في تأسيس جماعة (الفن والحرية)، ولكن قبل ان نتحدث عن هذه الجماعة يجب ان نتوقف لنري الارهاصات التي ادت الي خروج هذه الجماعة الي النور. اغلب الظن ان يوسف عفيفي مدرس الرسم بالمدرسة السعيدية كان هو همزة الوصل التي تعرف عن طريقها كامل التلمساني بالحركة التشكيلية في مصر والتي كانت منقسمة الي فريقين فريق خريجي مدرسة الفنون الجميلة وفريق خريجي مدرسة المعلمين العليا، وكانت تلك الاخيرة تضم يوسف عفيفي والتي احتضنت البدايات السريالية في مصر، وكانت اول الجماعات التي اسستها هي جماعة (المتحولين) في بداية الثلاثينات وكان سكرتير الجماعة هو جابرييل بقطر، وشارك فيها جورج حنين ورمسيس يونان، واغلب الظن ان التلمساني كان أحد أعضائها خاصة وان استاذه يوسف عفيفي كان عضوا بها، وفي عام 1937 قدم جورج حنين اولي محاضراته عن السريالية في مصر وشرع في تنظيم جماعة السرياليين وكان من بينهم كامل التلمساني، وفي عام 1938 يصدر جورج حنين اول ديوان شعري له مزين برسوم كامل التلمساني مما يوضح العلاقة التي كانت تجمعهما، وفي نفس العام وتحديدا في 22 ديسمبر 1938 يوقع 40 فنانا ومثقفا مصريا وبينهم التلمساني بالطبع علي بيان (يحيا الفن المنحط) وكان بمثابة صرخة احتجاج جريئة ضد منع هتلر الفن الحديث في المانيا باعتباره فنا منحطا، وكان هذا البيان هو بداية جماعة (الفن والحرية) والتي اصدرت بيانها الاول في 9 يناير. واتخذت الجماعة مقرا لها بشارع المدابغ رقم 28، واصدرت مجلة التطور لتكون لسان حالها وكتب التلمساني بها العديد من المقالات والدراسات، كما نشر بها العديد من رسوماته التعبيرية التي كانت تصاحب الموضوعات والقصص الادبية، وكان يرأس تحريرها انور كامل. كما شارك في تحرير جريدة (دون كيشوت) وهي جريدة اسبوعية كانت تصدر باللغة الفرنسية لصاحبها ادوارد الشدياق ويرأس تحريرها المناضل الشيوعي هنري كورييل، وصمم التلمساني صفحتها الاولي وكان يشارك في رسم صفحاتها الي جانب الرسومات الداخلية المصاحبة وكتب بها ايضا مجموعة من المقالات والدراسات المهمة، ولعل اهمها دراسة عن الفن التشكيلي في مصر حتي عام 1940 . الفن والحرية وفي مارس 1940 نظمت جماعة الفن والحرية معرضها الاول تحت عنوان الفن المستقل شارك فيه كامل التلمساني، وفي 24 فبراير 1941 نظمت الجماعة معرضا خاصا لأعمال كامل التلمساني فقط وكتب مقدمة كتالوج المعرض صديقه الفنان جورج حنين. ويشارك كامل التلمساني في معارض الجماعة حتي عام 1945 حيث اعتزل الفن التشكيلي وقرر التحول الي السينما ولهذا التحول قصة لابد وان تروي!! فرغم كل النجاح والشهرة التي أحاطت بالتلمساني في الثلاثينات وبداية الأربعينات، إلا أنه أحس فجأة بالذنب في أنه لم يقم بالواجب الذي عليه، ولم يؤدِ الأمانة.. فقد تبين له أن لوحاته تشتري من طبقة الأغنياء المقتدرين، ومن ثم تُزىّن بها جدران القصور لتكون حلية وزينة ومتعة للناظرين، دون الشعور بما تنطوي عليه من تعبير عن الفقر والبؤس والعذاب.. وأحس بأنه يستقبل في المجتمعات الراقية بالحفاوة والترحيب، في حين أن البعد يشتد ويزداد يوماً بعد يوم بينه وبين آماله وأفكاره، بينه وبين الجماهير المحرومة والمطحونة.. لذلك، وفي لحظة خاطفة من الغضب والثورة العارمة، توقف عن الرسم وقطع كل علاقاته به، وتوجّه الي السينما، باعتبارها أداة مهمة للاتصال بالجماهير العريضة.. حيث بواسطتها يمكن إعادة الحوار بينه وبين الناس منذ نشأته الأولي. أمر آخر كان في رأيي اشد تأثيرا في تحوله الي السينما عبر عنه كصرخة مدوية في مقال له تحت عنوان (الفن المصري والمجتمع الحاضر) تحدث فيه عن الفنون كلها في مصر وعن طريق صديقه المنتج والمخرج احمد سالم يلتحق كامل التلمساني باستديو مصر عام 1943 ويعمل مساعدا له في افلام الماضي المجهول ورجل المستقبل 1946، وحياة حائرة 1948 كما يظهر اسمه كمدير لإنتاج فيلمه الاخير دموع الفرح 1950 . ومنذ عام 1943 شرع كامل التلمساني في كتابة فيلمه الكبير (السوق السوداء) ويبدو انه اراد ان يربط بين تجار السوق السوداء التي تفشت في مصر في تلك الفترة اثناء الحرب العالمية الثانية وبين تجار السينما الذين قدموا افلاما سوداء مثلما اشرنا من قبل. ويقوم كامل التلمساني باخراج الفيلم ولكنه يفشل جماهيريا فشلا كبيرا كان كفيلا بإحباط مخرجه الذي تلقي صدمة عمره كان هذا الفشل كفيلا بإخراج التلمساني من دائرة السينما مؤقتا ليعود بعدها لإخراج افلام بعيدة كل البعد عن الهدف الذي من اجله اتجه للسينما، ونعتقد ان لأحمد سالم صديقه تأثيرا في ذلك حيث يعود الي السينما عام 1947 بفيلم (البريمو) عن قصة احمد سالم وسيناريو واخراج كامل التلمساني!! البوسطجي وتتوالي افلامه بعد ذلك فيقدم عام 1948 شمشون الجبار والبوسطجي، ثم كيد النساء 1950 وهو الفيلم الوحيد الذي انتجه كامل التلمساني لنفسه بعد تأسيسه لشركة افلام التلمساني، وفي عام 1953 يقدم الكوميديا الغنائية الاستعراضية (انا وحبيبي) بطولة شادية ومنير مراد، وفي هذا الفيلم يؤيد ثورة يوليو بأوبريت في اخر الفيلم لا علاقة له بالفيلم لكن كما هو الحال في هذه الفترة عندما سارع كل السينمائيين لتأييد الثورة وحشر مبادئها في افلامهم. وفي عام 1954 يقدم (الاستاذ شرف) عن مسرحية توباز لبانيول، وهي نفس القصة التي قدمها فؤاد المهندس بعد ذلك في مسرحية (السكرتير الفني)، كما قدمها فريد شوقي في فيلم (المدير الفني)، وفي عام 1955 يقدم الكوميديا الاستعراضية (مدرسة البنات) للنجمة آن ذاك نعيمة عاكف وكمال الشناوي، كما يقدم ايضا في نفس العام فيلم (موعد مع ابليس) عن رائعة فاوست لجوتة، ثم يأتي اخر افلامه (الناس اللي تحت) عن مسرحية بنفس العنوان للأديب الكبير نعمان عاشور عام 1960 . وفي عام 1960 اضطر كامل التلمساني للسفر بعيدا عن مصر بسبب احدي القضايا التي اتهم فيها ظلما، فاستقر بلبنان وهناك استأنف نشاطه السينمائي كمستشار لشركات الانتاج التي بدأت تتطلع للإنتاج السينمائي، وكانت عينها علي الفنانين المصريين . عندما تحول التلمساني الي السينما، استهوته الكتابة للمجلات السينمائية فحرر باب خلف الكاميرا بمجلة السينما عام 1945، كما كتب في مجلة الصباح، وفي الخمسينات قدم للمكتبة السينمائية كتابين اولهما (سفير أمريكا بالألوان الطبيعية 1957) وفيه تحدث عن سيطرة السينما والاعلام الامريكيين علي شعوب العالم، والثاني (عزيزي شارلي شابلن 1958). وكانت اخر اعماله التي شرع في كتابتها في بيروت ولم يمهله القدر لإكمالها هي رواية ادبية بعنوان (ام محمد)، وفي 3 مارس 1972 فاضت روحه الي بارئها بعد ان عاش حياته وسط كل هذه التناقضات والاتجاهات الحادة، او في الحياة العامة والثقافية والتي شبهها الناقد اتين مريل بالمآسي الاغريقية واساطيرها بأقنعتها المثيرة وخناجرها المزدانة بالورد الأحمر ولكنها في نفس الوقت تدمي الصدور والخواصر سريعة الخفقات!