تبدأ 24 يوليو، محافظ الدقهلية يعتمد جدول امتحانات الدور الثاني 2024    معهد بحوث الإلكترونيات يوقع عقد اتفاق مع شركة "إي سبيس" لإدارة وتشغيل المقر المؤقت    سياسيون كبار يهددون المدعي العام للجنائية الدولية: المحكمة لقادة أفريقيا وبوتين فقط    الجامعة العربية والحصاد المر!    رونالدو يتصدر قائمة البرتغال في يورو 2024    من 3 ل 4 درجات، انخفاض درجات الحرارة بدءا من هذا الموعد    أمن الأقصر يضبط عاطلا بحوزته 156 طربة حشيش وسلاح ناري    أعضاء مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية يشيدون بدور مصر لإنهاء الحرب في غزة وإدخال المساعدات الإنسانية    هيئة الدواء المصرية: مشروع تصنيع مشتقات البلازما تأمين للأدوية الحيوية    فوائد البنجر، يخفض مستوى السكر بالدم ويحمى من تشوهات الأجنة    السيسي: مكتبة الإسكندرية تكمل رسالة مصر في بناء الجسور بين الثقافات وإرساء السلام والتنمية    «غرفة الإسكندرية» تستقبل وفد سعودي لبحث سبل التعاون المشترك    مبادرات التخفيض "فشنك" ..الأسعار تواصل الارتفاع والمواطن لا يستطيع الحصول على احتياجاته الأساسية    وزير التنمية المحلية: إنشاء 332 مجمعًا خدميًا في قرى «حياة كريمة»    موعد تجديد عقد لوكاس فاسكيز مع ريال مدريد    جاهزية بديل معلول.. الأهلي يتلقى بشرى سارة قبل مواجهة الترجي بنهائي إفريقيا    ختام فعاليات المرحلة الثانية من الدورة التدريبية لخطوات اختبارات الجودة    تحقيق جديد في اتهام سائق بالتحرش.. وتوصيات برلمانية بمراقبة تطبيقات النقل الذكي    ضبط طرفى مشاجرة بالقاهرة نتج عنها وفاة طفلة وإصابة آخر    أجازة 9 أيام .. تعرف على موعد وقفة عرفات وأول أيام عيد الأضحى المبارك 2024    بتهم القتل والبلطجة.. إحالة أوراق عاطل بالقليوبية لفضيلة المفتي (تفاصيل)    تأجيل 12 متهما ب «رشوة وزارة الرى» ل 25 يونيو    تفاصيل حجز أراضي الإسكان المتميز في 5 مدن جديدة (رابط مباشر)    يوسف زيدان يرد على أسامة الأزهري.. هل وافق على إجراء المناظرة؟ (تفاصيل)    نقيب القراء: لجنة الإجازة بالإذاعة حريصة على اختيار من هم أهل للقرآن من الكفاءات    كيت بلانشيت بفستان مستوحى من علم فلسطين.. واحتفاء بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي العرب (صور)    دعاء النبي في الحر الشديد: كيفية الدعاء أثناء موجة الطقس الحار    تعاون مصري سعودي لتعزيز حقوق العمال.. برنامج تأميني جديد وندوات تثقيفية    150 هزة ارتدادية تضرب غرب نابولي.. وزلزال الأمس هو الأقوى خلال العشرين عامًا الماضية    إجراء 74 ألف عملية جراحية لمواطني المنيا ضمن مبادرة «القضاء على قوائم الانتظار»    «الشراء الموحد»: الشراكة مع «أكياس الدم اليابانية» تشمل التصدير الحصري للشرق الأوسط    لمواليد برج السرطان.. توقعات الأسبوع الأخير من مايو 2024 (التفاصيل)    للتوعية بحقوقهن وواجباتهن.. «الهجرة» تناقش ضوابط سفر الفتيات المصريات بالدول العربية    وزير الري: أكثر من 400 مليون أفريقي يفتقرون إلى إمكانية الوصول إلى مياه الشرب    الخارجية الأردنية: الوضع في قطاع غزة كارثي    «القاهرة الإخبارية»: حماس تنتقد جرائم جيش الاحتلال الإسرائيلي في جنين    محافظ جنوب سيناء ومنسق المبادرة الوطنية للمشروعات الخضراء يتفقدان مبنى الرصد الأمني بشرم الشيخ    هالاند.. رقم قياسي جديد مع السيتي    لهذا السبب.. عباس أبو الحسن يتصدر تريند "جوجل" بالسعودية    «التضامن»: مغادرة أول أفواج حج الجمعيات الأهلية إلى الأراضي المقدسة 29 مايو    وزير التعليم: مدارس IPS الدولية حازت على ثقة المجتمع المصري    الموعد والقناة الناقلة لقمة اليد بين الأهلي والزمالك بدوري كرة اليد    هل يصبح "خليفة صلاح" أول صفقات أرني سلوت مع ليفربول؟    حفل تأبين الدكتور أحمد فتحي سرور بحضور أسرته.. 21 صورة تكشف التفاصيل    أحمد الفيشاوي يحتفل بالعرض الأول لفيلمه «بنقدر ظروفك»    طلب تحريات حول انتحار فتاة سودانية صماء بعين شمس    «القومي للمرأة» يوضح حق المرأة في «الكد والسعاية»: تعويض عادل وتقدير شرعي    دونجا: ياسين لبحيري حماني من إصابة خطيرة.. وشكرته بعد المباراة    خبيرة تغذية توجه نصائح للتعامل مع الطقس الحار الذي تشهده البلاد (فيديو)    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 21-5-2024    لجان البرلمان تواصل مناقشة مشروع الموازنة.. التموين والطيران والهجرة وهيئة سلامة الغذاء الأبرز    داعية إسلامي: الحقد والحسد أمراض حذرنا منها الإسلام    حسام المندوه: الكونفدرالية جاءت للزمالك في وقت صعب.. وهذا ما سيحقق المزيد من الإنجازات    مندوب فلسطين أمام مجلس الأمن: إسرائيل تمنع إيصال المساعدات إلى غزة لتجويع القطاع    الطيران المسيّر الإسرائيلي يستهدف دراجة نارية في قضاء صور جنوب لبنان    دعاء في جوف الليل: اللهم ابسط علينا من بركتك ورحمتك وجميل رزقك    بوتين: مجمع الوقود والطاقة الروسي يتطور ويلبي احتياجات البلاد رغم العقوبات    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



توفيق صالح آخر الحرافيش يكشف أسرار نجيب محفوظ!..
نشر في الأهرام اليومي يوم 30 - 06 - 2011

الاصطدام بالجمال والاختلاط بالبشر من مختلف الجنسيات واللغات كان قدرا تشربه بامتنان في مسقط رأسه الإسكندرية.. تلك المدينة التي تتغلغل في مسامه، وطالعتني أجواؤها بمجرد أن حللت علي منزله الأنيق البسيط علي النيل ورائحة الياسمين تعبق الأجواء، استقبلني المخرج الكبير توفيق صالح برأسه المرفوع في كبرياء وود ودماثة متناهية وكرم وحكمة، وأصالة تنبثق بعفوية، أما تجربته فقد وضعها في إناء من الكريستال يعكس شفافيته وعناده وإصراره على الإبداع مهما تعرض من قيود وضغوط.. وتلتهم الانسان الحيرة أمام هذه الرحلة البديعة التي اختزلها في خمسة أفلام مصرية انتخب أربعة منها ضمن قائمة أفضل مائة فيلم عربي.. قال عنه أديب نوبل نجيب محفوظ مؤلف »درب المهابيل«: »لا يختلف اثنان في مصر علي موهبة توفيق صالح وقدرته الفنية وثقافته وأنا اعتبر أفلامه علي قلتها من أفضل الأعمال في تاريخ السينما المصرية« أما صديق الطفولة والدراسة يوسف شاهين فكان دائم القول: إنه تعلم الفيلم السياسي من توفيق صالح، تخرج علي يديه العديد من الأجيال وأبرز من يتصدرون المشهد السينمائي وأبرزهم »خيري بشارة وداود عبدالسيد« جاء بواقعية جديدة تحرص علي تحريك وعي المتفرج وهوأشد ما يحرص عليه فوظيفة الفن بالنسبة له تتجسد في ملامسة الوجدان والتفكير.. وإلا فأربعون عام من العزلة هي الأفضل كما فعل.. قطرة من المحيط تكفي ومشهد واحد يعبر عن مشكلة العشوائيات أفضل ألف مرة وأبلغ تأثيرا. وإن كان لا يعنيه جمال الصورة فقط لأن الإبهار تعطيل للأفكار.. أما الإبداع بالنسبة له فلم يكن يوما ربيب المصادفة أو الحظ ولكن مكابدة وعناء، وتلك هي نظرته للحياة، ينظر للماضي كشرارة تضيء المستقبل.. وضع معايير أزلية لم يتنازل عنها.. مفاتيح شخصيته تتجلي في افتقاد حنان الأم الرءوم والدقة والروح الثورية وإعلاء شأن العلم. توفيق صالح أفضل تعايش للماء، بحيويته والنار التي لا يخفت وهجها.. لكل ما تقدم فضل أخر الحرافيش أمد الله في وعمره أن يرسم وجهه بيده فلا أحد يستطيع أن يرسم وجهه أفضل منه.
عاصرت الإسكندرية وهى فى قمة تألقها كمدينة كورموبوليتانية متفرد .. أخرجت عشرات المبدعين فى مجال الفن السينمائى بصفة خاصة على سبيل المثال عمر الشريف وشادى عبد السلام ويوسف شاهين ومحمود مرسى وتوفيق صالح؟
بنظرات يملؤها الاعتزاز يجيب: لقد نشأنا على جو المحبة والتسامح والاختلاط والتفاعل مع كل الأديان والأجناس والآراء .. كانت الإسكندرية بالفعل مدينة منفتحة رحبة سمعنا اللهجات فى شوارعها كل اللغات هذا الزخم منحها طابعا خاصا انعكس على أبنائها وعلى المستوى الشخصى فأنا كنت الابن الأكبر لطبيب مصرى عمل كمديرا للحجر الصحى. والدتى كانت فلسطينية لكنها توفيت بحمى النفاس عقب ولادتها لأخى الأصغر سهيل وأنا لم أتجاوز الثالثة من العمر. التحقت بمدرسة فيكتوريا فى الإسكندرية حيث كان معظم الأساتذة من الإنجليز وللمدرسة طقوس وتقاليد صارمة وكان يوسف شاهين زميلا ولكن فى مرحلة دراسية مختلفة فى الإجازات الصيفية كنت أسافر مع أخى إلى مدينة عكا لزيارة أهل والدتى لمدة شهر كل عام. توفى أبى وأنا على مشارف الالتحاق بالجامعة واكتشفنا أن مصاريف المدرسة كانت مرتفعة بمقاييس ذلك الزمان والتحقنا بالقسم الداخلى بعد حصولى على الثانوية التحقت بكلية الآداب بجامعة فاروق (الإسكندرية) قسم إنجليزى رفيع وكان القسم مكونا من ثلاث فتيات وأنا الطالب الوحيد يبتسم توفيق صالح وهو يستعيد ذكرياته لأنه كان يحرص على حضور محاضرات القسم الفرنسى لان البنات كن أجمل وأكثر عدداً أما حبه للسينما فقد ولد فى سنوات طفولته وكان فيلم يحبا الحب فتحا بالنسبة له وظل مأخوذا بروعة تصوير أغنية “أحب عيشة الحرية” لمحمد عبد الوهاب حتى تطور الأمر لمشاهدة فيلم كل يومين فى بورسعيد أثناء أقامتهم فيها لفترة زمنية وسحرته السينما تماما ويقول كما سمعت على لسان أحدى قارئات البخت والودع للبطلة فى أحد الأفلام “أعمل له حجاب على ورق الخيار يسهره بالليل ويجننه بالنهار” تلك كان علاقتى الأولى السينما عشق وحب جارف وقراءة نهمة لكل ما يتعلق بها ورغبة مبكرة فى أن أصبح مخرجا دون أن أعرف فماذا تعنى الكلمة على وجه الدقة وساهمت أجواء الإسكندرية فى أثراء مشاهداتى حيث كانت تفد إليها كل الفرق الأجنبية .
يلاحظ أن معطيات بيئتك الاجتماعية والدراسية لا تعطى هذه المشاهد التى ظهرت فى أفلامك والتى تؤكد اندماجك التام مع الريف والمناطق الشعبية وأجوائها.. رجاء التوضيح؟
منذ صباى وبالميول الفطرية أعشق المناطق الشعبية وكنت أتجول فى القاهرة فى الحسين أيضا ولدت فى الرمل بالإسكندرية لكننى كنت بطبيعتى أقرب للفكر اليسارى معنيا منذ طفولتى بالتقاط تفاصيل الحياة اليومية والإمساك بنبض حياة الناس بدءاً من الخدم والعمال الذين كانت تستعين بهم زوجة أبى مرورا بملاحظاتى لكل الشوارع التى أسير فيها فالبشر فى الأحياء الشعبية هم أناس حقيقيون بلا رتوش فالمهم هو العين الحساسة القادرة على الالتقاط والتفكير ولا يشترط المعايشة فأنا فى بداية حياتى قمت بعمل فيلم تسجيلى عن “القلة” ولم أشرب يوما من القلة ولا أعرف حتى اليوم. إضافة إلى أن الإنسان يتعلم من خلال السينما أيضا وقد شاهدت معظم الأفلام المصرية والحارات التى ظهرت فيها .
كيف تفتحت آفاق الحلم السينمائى وهل كان الطريق معبدا أم مليئا بالأشواك ؟
يبتسم توفيق صالح ويقول: لا البشر هم البشر بالطبع كانت الأخلاقيات العامة التقاليد وأصول اللياقة أكثر نقاء ووضوحا.. بدأت بشائر الحلم تتحقق حين أعربت لأحد زملائى فى فيكتوريا بعد انتهاء دراستى الجامعية فى أننى أريد مشاهد ستوديو نحاس حيث كان والده شريكا فيه وكان ولى الدين سامح يخرج فيلما فهمست لصديقى بكلمات فتساءل من هذا وتم طردى وتعرضت للطرد مرة أخرى من المخرج محمد كريم أثناء أخراجه فيلما لراقية إبراهيم ولكن مهندس الصوت الشهير كريكور قدمنى للمخرج حسين فوزى زوج نعيمة عاكف وحين علم إجادتى للإنجليزية والفرنسية كلفت بقراءة المجلات الفنية آنذاك وترجمة ما يصلح منها للاقتباس والتمصير وفى إحدى المرات سألتنى زوجته نعيمة عاكف حين علمت أننى خريج فيكتوريا “هل اتشعبطت يوما وراء عربة الرش؟” فقلت لها: لا فكنت أسكن فى منطقة ليس بها عربات رش فغضبت وقالت عامل لى فيها أبن ناس وطلبت منى الذهاب وإحضار فنجان قهوة لها فناديت على عامل البوفيه للقيام بتنفيذ هذا الطلب وانفعلت وهددت زوجها بأنها لن تكمل تصوير الفيلم ما لم يتم طردى وقد كان ولكننى خرجت غانما من هذا الأسبوع الذى قضيته فى هذه التجربة بمرافقة ولى الدين سامح رائد الديكور فى السينما حيث تعلم فى ألمانيا وعلى يديه تشرب شادى عبد السلام الديكور وتصميم الملابس وكان من انبغ تلاميذه كنت أشترى ثمرتين من المانجو يوميا وعلى شذى المانجو الفواحة يروى ولى الدين تاريخ السينما المصرية (الغير مكتوب) وكواليس العديد من الأفلام .
لماذا اخترت فرنسا بعد تخرجك من كلية الآداب لاستكمال دراستك فى الفن السينمائى وكان الأجدر أن يكون اتجاهك إلى هوليوود؟
تخرجت فى كلية الآداب عام 1949 وكنت أقوم سنويا بإخراج حفل جمعية الصداقة المصرية الفرنسية ويقوم بأدائها الطلبة وعرضت فى الليسانس مسرحية “رصاصة فى القلب” للحكيم وحضر الحفل رئيس القسم وأعضاء من السفارة الفرنسية وأعجبوا بالحفل وفى اليوم التالى أخبرنى رئيس القسم الفرنسى أننى حصلت على منحة لدراسة السينما فى فرنسا وكان سفرى عام 1950 إلى باريس حيث مكثت لمدة ثلاث سنوات تشربت فيها كل ما يتعلق بالفن السينمائى وقرأت بعمق كل الدراسات الأدبية والفنية ولكن موعد التحاقى بمعهد “الايديك” للسينما قد مر ومع ذلك تم عمل امتحان لقبولى وقمت بالدراسة بشكل حر بعيدا عن المعهد وانتظمت لفترة زمنية فى قسم الفيلمولوجى التابع لجامعة السربون وكان علما جيداً آنذاك يجمع بين الفلسفة والسينما لكننى أحببت الإخراج أكثر من الفلسفة وعملت مساعد مخرج فى بعض الأفلام الفرنسية. تعلمت فى باريس الكثير وتفتح وعى هناك على الكثير من القضايا السياسية والثقافية ثم عدم من باريس ومعى المعالجة السينمائية لفيلمى الأول “وعلى الأرض السماء” وكانت ثورة يوليو 1952 قد قامت وأنا فى باريس ولم أكن مؤمنا بها فى البداية لكننى أصبحت من أكثر مؤيدها حين قام جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس واحتفظ للرجل بمكانة فى عقلى وقلبى وفى عام 1953 عدت إلى مصر وتحولت المعالجة السينمائية التى كتبتها إلى درب المهابيل بقلم نجيب محفوظ.
كيف بدأ التعارف بينك وبين نجيب محفوظ قبل أن تصبح عضواً فى الحرافيش؟
من الطريف أننى قبل سفرى إلى باريس قمت بشراء مجموعة من الكتب ومن ضمنها كتاب اسمه “القاهرة الجديدة” ظننت فى البداية أن كاتبه مهندس تخطيط فتركته واشتريت كتابا آخر وحين عدت من باريس كان اسم نجيب محفوظ لامعا فى مجال السيناريو فأنا عرفته كسيناريست قبل أن أقرأه كروائى وسألت عنه أحد الأصدقاء وعلمت أنه يعقد ندوة أسبوعية كل يوم جمعة فى كازينو صفية حلمى فحضرت أكثر من مرة وتكلمت فلاحظ نجيب أننى مهتم بالثقافة والأدب الفرنسى على وجه الخصوص والفنون عموماً وبدأت بوادر اهتمامه بشأنى فصحبنى معه إلى منطقة الجيش وشارع المعز والفيشاوى وذهلت حين صحبنى إلى حارة سد صغيرة جداً قائلا هذا هو زقاق المدق يا توفيق وأعجبت بعظمة هذا الرجل التى استخلصت من هذا المكان البسيط جداً عملاً أدبياً رائعاً ثم عرضت عليه المعالجة السينمائية التى كتبتها على أن يشاركنى كتابة السيناريو فوافق فى الحال وبعد قراءته أعجب بالموضوع لكنه قال أنه يخشى من اتهامى الشيوعية وأخبرنى أنه سيقوم بإعادة كتابتها وكتب سيناريو “درب المهابيل” وكنا نجلس على مقهى مجاور لعمله فى وزارة الأوقاف بعد انتهائه من العمل يوميا كانت هناك صعوبة فى البداية فى التمويل تم التغلب عليها بإيجاد المنتج ولكن توالت النوادر فى هذا الفيلم لأننى لم أكن متمرساً بالطرق الملتوية للإنتاج فقصة الفيلم تدور حول مجموعة من البشر فى حارة مصرية تقع بين أيديهم ورقة يانصيب وتنتهى ليد رجل عجوز يرى فى عمل ليلة لأهل الله وتوزيع فول نابت وإعطاء كل منهم نصف فرنك هو الحل الأمثل للشكر والامتنان على هذه النعمة التى تساقطت من السماء بينما يرى زوج ابنته بناء مصنع للفقراء لكى ينهى فقرهم نهائيا وحرصت على أن يظل الصراع بينهم والذى تسبب فى وفاة أحدهم مفتوحا حيث تم إخفاء المال فى جراب حول “معزة” احد الدراويش ثم تساقط منها وأكلت الغنم الأوراق المالية وللسخرية تم استئجار المعزة باليومية وبلغت تكلفتها ثمانين جنيهاً علماً بأن شراء المعزة آنذاك لا يتعدى ثلاث جنيهات وقمت بتصوير المعزة فى المشاهد الأولى فأصبحت (راكور) لا يمكن تغيير ثم طلبتها بعد عدة أسابيع لاستكمال التصوير ففوجئت أنها أصبحت حاملاً فتم استبدالها بأخرى ودهنها بنفس اللون لكى تعطى التأثير المطلوب .. وفى النهاية خرج الفيلم ورسالته أن الفقر يستخرج من البشر أسوأ ما فيهم وغالباً ما يؤدى الفقر المادى إلى الفقر الروحى ولم أكن من مدمنى النهايات السعيدة فى أفلامى القليلة ولكنى حريص للغاية على تحريك وعى المشاهد وفكره والتأكيد على أن الحياة ليست لوترية وأن المال لا يأتى بالمصادفة بل بالعمل ودون التنازل عن القيم والمبادئ
وماذا عن صدى الفيلم جماهيرياً وردود الأفعال ؟
لم ينجح جماهيرياً آنذاك وأن تم تقديره فيما بعد ولكنه بمثابة فتح عظيم لمعظم المثقفين .. كنت أقيم فى القاهرة فى أحد البنسيونات ففوجئت بقدوم أحمد بهاء الدين ومحمد عودة وحسن فؤاد يبحثون عنى ويسعون لمعرفتى وبدأت صداقة بيننا بعد هذا الفيلم مكثت خمس سنوات بدون عمل .. لكن الفيلم فاز بالجائزة الثانية فى الإخراج مناصفة مع فيلم رد قلبى لعز الدين ذو الفقار والذى رفض مصافحتى لأننى بلا تاريخ سينمائى ولم أصنع أفلاماً بعدد أفلامه على حد تعبيره .. لكن حين شاهد الفيلم أتصل بى وكلفنى بإخراج صراع الأبطال وتعرض الفيلم لمشاكل رقابية ولكن د. ثروت عكاشة قرر الذهاب به إلى الرئيس عبد الناصر لمشاهدته وأعجب به وقال له إذا كانت السينما ستنتج هذه النوعية من الأفلام فإننى على استعدد لإنشاء مؤسسة السينما وتم تأسيسها بالفعل وتولى رئاستها صلاح أبوسيف وطلب أن يكون أول إنتاج من إخراج توفيق صالح ولم أعرف هذه المعلومة إلا بعد مرور أكثر من عشرين عاماً.. كان ناصر محباً للسينما متفتح واسع الأفق بعكس من يحيطونه .. وقد منحنى وسام العلوم والفنون من الطبقة الاولى عام 1967 وكانت الرقابة قد رفضت عرض فيلمى المتمردون الذى صورته فى 5 يونيو 1966 وحين أصبح جاهزاً للعرض وقعت النكسة فتم تحميل الفيلم بالعديد من الإسقاطات السياسية وحدث شئ طريف فى هذا الفيلم فقد احترق فى ستوديو مصر عند انقطاع الكهرباء واحترق معه شريط فيلم صوره عبد الناصر لابنته فى زفافها .. فطلبت من أحمد خورشيد إعادة إضاءة معينة كنت قد طلبتها منه فرفض إعادة التصوير وقال عبد الناصر ممكن أن يزوج ابنته مرة أخرى لكننى لن أعيد التصوير لكنه أعاده تحت الإلحاح والتهديد باستقدام عبد العزيز فهمى بدلاً منه.. ومرة أخرى منعت الرقابة ووزير الداخلية شعراوى جمعة عرض فيلمى “يوميات نائب فى الأرياف” عن رواية توفيق الحكيم المعروفة بحجة أننى اسأت للشرطة بالرغم من أن أحداث الرواية تدور فى الثلاثينيات حين كان الحكيم وكيلاً للنيابة واشترطوا لعرض الفيلم الروائى أن أقوم بإخراج فيلم تسجيلى يوضح أن الشرطة فى خدمة الشعب .. فرفضت وطلب شعراوى اجتماع الهيئة العليا للاتحاد الاشتراكى وكبار المسئولين والوزراء .. وضحك جودة السحار معى قائلاً بعد انتهاء هذا الاجتماع سوف تدخل التاريخ أو السجن وحين علم عبد الناصر بالأمر طلب مشاهدة الفيلم وأجازه كاملاً دون حذف لقطة واحدة وقال أن المؤسسة أنتجت أربعة افلام بهذا المستوى سيضاعف ميزانيتها .. ولكن العجيب أن شعراوى جمعة طلب منى تأجيل عرض الفيلم لحين انتهاء الانتخابات التكميلية لمجلس الأمة .. خاصة أنه كان هناك تزوير فى انتخابات فى الثلاثينيات وفى مشاهد الختام يتم إخراج صندوق الانتخاب من الترعة وجثة ريم بطلة الفيلم ويتم وضعها فوق الصندوق .. فتم تأويل مشهد الفتاة بأنه يرمز لموت مصر وهو ما لم يكن صحيحاً بالطبع وأعجب الحكيم الذى كانت تربطنى صلات طيبة بالفلم وبكى أثناء العرض لأنه رأى فيه شبابه وداعب زوجتى قائلا: خذى بالك من الولد ده!! وكان أحياناً يدعونى للغداء فى منزله أو نجلس فى كافيه ريش لكننى كنت أقوم بدفع ثمن القهوة حين كنت أزامله فى المجلس الأعلى للثقافة.
يبدو أن رأيك إيجابياً فى تأميم السينما على عكس المألوف فكيف تقيم هذه التجربة بعد مرور السنين ؟
السينمائيون هم الذين كانوا يطالبون بتأميم السينما لأن الفيلم المصرى بعد ثورة يوليو فرض عليه حصار من الأنظمة العربية وحتى أوائل الستينات وكان هناك شبه يقين أن التأميم يفيد هذه الصناعة ولم يبادر عبد الناصر باتخاذ هذه الخطوة فى البداية وكانت لديه مهام جسام ولكن السوءات ظهرت من ممارسة القائمين على الأمر حيث تحولوا من فنانين إلى موظفين وكنا نخوض معهم صراعات طويلة .. لأنهم يفرضون آرائهم هى تتصورى أن فيلم الأرض وهو من علامات السينما المصرية رفضته المؤسسة فى البداية فاضطر يوسف شاهين للهجرة إلى بيروت وكانوا يجاملون الصحفيون والكتاب ويشترون أسطر قليلة كمعالجة سينمائية بآلاف الجنيهات ولم تخسر هذه المؤسسة عند تصفيتها خمسة مليون جنيه كما قيل.. وكانت المؤسسة فرصة كبيرة لإفراز العديد من المواهب.
كيف انتظمت فى جلسات الحرافيش وما هى أبرز السمات والطبائع التى اكتشفتها فى شخصية نجيب محفوظ ؟
ربما لا يعلم الكثيرون أن الحرافيش لم تبدأ بنجيب محفوظ ولكنها بدأت بعادل كامل المحامى والروائى وأحمد مظهر وقد تعارفا عام 1936 إثناء سفرهما لحضور الدورة الأوليمبية وفى بداية الأربعينيات استمرت الصداقة والاجتماعات كل خميس ثم تقابل نجيب محفوظ وعادل كامل أثناء استلام كل منهما جائزة عن روايته وعرض عادل كامل على نجيب محفوظ الانظام لهذه الجلسات وفى إحدى المرات تطرقوا للحديث عن كتاب رفاعة الطهطاوى “تخليص الإبريز” وكيف وصف رفاعة الحرافيش وربطهم بالجلوس على المقاهى لتبادل الآراء والمناقشة .. وكان أحمد مظهر هو الذى أطلق على الشلة هذا الاسم (الحرافيش) وبعد ذلك صحبنى الأديب الساخر محمد عفيفى وضمنى للشلة.. كان عفيفى فى نظرى هو أوسكار وايلد مصر .. لم يحصل على حقه ومكانته وكنا نجتمع فى البداية فى الفيلا التى اشتراها من الحفناوى عازف الكمان الشهير ثم أصبحنا نجتمع فى منزلى لفترة زمنية وكان نجيب يحب أكل العدس الذى تصنعه زوجتى ويفضل الفول على أى طعام .. كنا نفضفض فى هذه الجلسات ببعض المشاكل الخاصة والشأن العام .. ويتخللها الكثير من النكات والقفشات التى يجيدها محفوظ تماماً وضحكته التى تجلجل فى المكان ونذهب بالسيارة فى طريق سقارة لسماع أم كلثوم وعبد الوهاب وكان نجيب يحب أغنية عبد الوهاب “من قد أيه كنا هنا ؟” نجيب طيب القلب .. متسامح وبسيط للغاية ومستمع جيد حدثنا عن بداياته وكيف احتفظ بنشاطه الأدبى نتيجة لانتظامه فى مواعيده منذ طفولته فكان يلعب كرة القدم بمقدار ويذاكر بمقدار .. وحافظ على وظيفته طوال حياته .. وكانت بمثابة صمام أمان حتى عهد إليه ثروت عكاشة بمنصب فى الثقافة فترك الأوقاف وحين بلغ راتبه ست جنيهات فى الشهر قال له أصدقائه لابد أن تتزوج .. لديه نزعة دينية قوية وإيمان عميق وهو كتوم فيما يتعلق بشأنه الخاص .. فحين تزوج لم يعلم أحد منا إلا بعد مرور عامين على زواجه .. وهو متزوج عن حب وكان ملتزماً للغاية بعد زواجه ويمتاز بصفة نادرة بيننا فى عالم الرجال فهو لا يتحدث مطلقاً بالطيب أو بالرضى كما يقال عن أى علاقة نسائية فى حياته منذ كان شاباً قد نعلم أخباره من الخارج لكنه لا يفصح عنها أبداً .. أما أحمد مظهر فقد اشتبك فى نهاية حياته بقصة حب مع ممثلة معروفة .. وكان عفيفى من أقرب الناس إلى قلبى وهو الذى توسط لعرض المعالجة التى كتبتها لرواية بين القصرين وسببت المشكلات بينى وبين صلاح أبو سيف ثم عرضها على نجيب وأعجبته للغاية وكان اعتراضى على حوار يوسف جوهر والظهور المكثف للعوالم فقيل لى أن العوالم أهم ما فى الفيلم .. بينما كانت الثلاثية فى نظرى تمثل التطور الفكرى والروحى والتغيرات السياسية والاجتماعية التى أعقبت نهاية الحرب العالمية الأولى وكان الصراع مع التقاليد والموروثات وكان العنصر المحرك للشخصيات هو الزمن من خلال أسرة السيد أحمد عبد الجواد .. ,تحولت التفصيلات التمهيدية فى الرواية بين يدى اليسناريست يوسف جوهر إلى الموضوع الرئيسى وأشياء أخرى عديدة.
لماذا اخترت برلنتى عبد الحميد فى درب المهابيل وما هى ذكرياتك عنها ؟
كانت من جميلات الشاشة وملائمة للدور وكانت بالمناسبة تسكن فى نفس العمارة التى يقطنها نجيب محفوظ فى الدور الثالث وكنا نشاهد العساكر أسفل العمارة وفهمنا أن المشير يتردد على منزلها . وفى إحدى المرات طلبت من نجيب محفوظ كتابة قصة حياتها فابتسم وقال لها: لا أعرف وحين تزوجت جاءت للتهنئة وأخبرتنى أنها ستتزوج من شخصية مرموقة وإذا احتجت أى شئ فعلى الاتصال بها ولكنى لم أفعل وقطعت صلتى بها.
ماذا عن فيلم الأيام الطويلة الذى أخرجته فى العراق وما هو انطباعك عن صدام حسين ؟
ذهبت للعراق بعد سوريا حين ضاقت بى السبل فى مصر وفى العراق كنت أقوم بالتدريس فى معهد السينما هناك وطلب منى إخراج فيلم عن رواية «الايام الطويلة» وكانت عبارة عن أجزاء تحكى تاريخ العراق وكلفت بإخراج الجزء الأول وكان صدام حسين نائباً للرئيس أحمد حسن البكر حين ذهبت إلى العراق .. ولكنه أصبح الرئيس وطالبت مقابلته .. وجلس معى مدة طويلة قبل تصوير الفيلم وكان لطيفاً للغاية محباً لعبد الناصر مقدراً لزعامته المتفردة حتى أن زوجته أخبرتنى أنهم كانوا يعلقون صورة عبد الناصر فى سلاسل .. وكان الفيلم يحكى عن تاريخ حزب البعث وكيف تم تكليف صدام حسين بالاشتراك فى عملية اغتيال عبد الكريم قاسم.. فسألته عن رأيه فى قضية الاغتيال السياسى بعد مرور هذه السنوات .. حتى أعلم انطباعه .. فسكت فى أول مرة ثم أعدت السؤال وفى المرة الثالثة انفعل قائلاً : يا أخى أنا لست قائلاً .. احترمت اتساقه مع نفسه فهو ليس مخادعاً وهو شخص واضح وفى نظرى قدم لشعبه الكثير .. وسمح بذهابى إلى منزله الريفى فى تكريت وفوجئت بسيدة كبيرة تجلس على البلاط تفرز الطماطم الجامدة وتفصلها عن المستوية مثل أى فلاحة وكانت ترتدى أكبر خاتم من الماس رأيته فى حياتى .. أما الممثل الذى قام بالدور فكان أسمه بالصدفة صدام كامل ومكثت أكثر من شهر أبحث عنه وشاء القدر أن يتزوج هذا الشاب ابنة صدام وهو أحد الشقيقين اللذين أطلق عليهما صدام النار لهروبهما إلى الأردن.
ما هو الفيلم الذى تمنيت إخراج ومازالت لديك الرغبة فى إتمامه ؟
لم أعد أعمل بالسينما منذ وقت طويل .. ولكننى معجب للغاية برواية «قرية ظالمة» التى كتبها محمد كامل حسين وتدور أحداثها عن يوم الجمعة الذى صلب فيه الرومان المسيح ولكنها قصة شائكة قد تجدد خلافاتى فيما اعتقد مع الرقابة وعناصر أخرى ظهرت فى المجتمع.
بالمناسبة هل أنت مع إلغاء الرقابة ؟
لا .. فالرقابة افضل حتى لا تتعرض الأفلام للقطع والمسخ فى بعض الدول العربية إضافة إلى أن بعض ضعفاء النفوس سينتهزون الفرصة وستمتلئ الافلام بالمشاهد الجنسية وربما الشذوذ أيضاً فالرقابة من المنبع خير ضمان للسينما !!
قلت فى فيلم المتمردون فى الستينيات أن إسقاط النظام ليس ثورة .. فما رأيك فى ثورة 25 يناير ؟
هى ليست ثورة أيضاً ولكنه انتفاضة شعبية فالثورة منهج ورؤية وهدف وقيادة وما حدث فى التحرير لم يكن كذلك والنظام سقط لأنه ضعيف .. فى المتمردون كررت الجماهير نفس أخطاء النظام السابق بعد استيلائهم على السلطة لأنهم لم يكن لديهم أهداف محددة لذلك سميت الفيلم المتمردون وليس الثوريون ويوم أن يتحقق حلمى بالدولة المدنية سأصبح متفائلاً بهذه الانتفاضة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.