ميدان التحرير ليس نوعا من الريبورتاچات التي تصاحب النشرات الإخبارية في كل قنوات التليفزيون، عندنا وعندهم، بل هو موضوع ثلاثة أفلام تدور فيها الأحداث علي أرضية الأثني عشر يوما التي انتهت بسقوط «رأس النظام» ولا أقول النظام. مخرجو هذه الأفلام شباب أوروبي أولهم مواطن كندي من أصل تشيكي هو بيتر لوم وعنوان فيلمه «عودوا إلي الميدان». أما المخرج الثاني ستيفانو صافونا فهو إيطالي الجنسية وعنوان فيلمه «التحرير، ميدان التحرير» . أما الفيلم الثالث فهو إخراج جماعي انتجته قناة فرنسا 24 ساعة وعنوانه «التحرير، إنني أغني اسمك» . لهذه الأفلام أهميتها علي مستوي دلالة الأحداث وليس الأحداث فالتحرير كميدان نراه في الأفلام الثلاثة طاقات إنسانية كلها سخط كلها احتجاج نبدأ بشعار فإذا بالشعار يتحول إلي كتل بشرية من أين جاءت؟ ما بواعثها؟ كيف يتأتي أن نجد أمهات، أمهات من بسطاء الناس من أساتذة جامعة أو صحفيات بل نمط للأسرة المصرية العادية، ما الذي يدفعها إلي أن تنزل في تظاهرات احتجاج دون أن ينتابها أي خوف من أي قوي بوليسية أو سلفية؟ عودوا إلي الميدان سؤال تطرحه المشاهد الأولي لفيلم «عودوا إلي التحرير» ومن الحشود الساخطة ينقلنا بيتر لوم إلي مصائر فردية هي التي تكون الشبكة الثورية يتوقف عند أسرة في منطقة رد الفعل إزاء اعتقال الابن الأكبر بتهمة استخدام «الإنترنت» لتحليل الأوضاع السياسية والاقتصادية التي انتهت بانهيار البنية السفلي للنظام. قبل 25 يناير نري الابن الأصغر في صحبة والده يتنقلان من محام إلي آخر ويحاولان الحصول علي اذن لمقابلة رجال أمن الدولة ليشرحا لهم حقوق المواطن في التعبير عن الرأي لكن عبثا، ويتجهان إلي جمعيات حقوق الإنسان ويكشف لنا المخرج عن التناقض بين الفعل الثوري والاحتجاج اللفظي. ويصدر الحكم بحبس الشاب ونعرفه باسم مايكل نبيل سند يصدر الحكم بالحبس ثلاث سنوات بأي تهمة؟ سب الجيش، ونشر الفوضي متي؟ كيف؟ وأين؟ وتتوتر أسرة نبيل سند وكذلك كل من يحيط به خاصة نشطاء وحقوق الإنسان، عندما يعلن نبيل الإضراب عن الطعام. ويظل نبيل في سجنه حتي الإفراج الجماعي العام عن المعتقلين السياسيين في 21 يناير الماضي. بورتريه ثوري لسنا أمام بورتريه لشاب ثوري فمن المطالبة بالإفراج قبل ثورة 25 يناير حتي الثورة تتعدد شخصيات النشطاء وما اعتقال محلل سياسي شاب إلا إشارة إلي آلاف من النشطاء الذين استخدموا فيس بوك - مثلا - لطرح حلول موضوعية قائمة علي أسس علمية لإنقاذ مصر من الهاوية. حركة الفيلم هي الانتقال من الجزئي «موضوع شاب» إلي الكلي «الجماهير الثائرة» وهو رد إيقاعي بصري علي سؤال البداية : لماذا حدثت انتفاضة شعب بأكمله ؟ ونترك نبيل لأسرة تعيش علي السياحة ولا تجد الحل إلا في تغيير الأوضاع القائمة لكن هل انتهت الثورة بسقوط رأس النظام؟ سؤال يطرحه الفيلم أيضا وتتابع المشاهد لتكشف عن استمرار آليات النظام في قمع الثوار إلي حد القتل والحل؟ الحل هو عنوان الفيلم:«عودوا إلي ميدان التحرير» وهي دعوة تتبناها عدة أسر من بسطاء الناس. عرض هذا الفيلم لأول مرة في مهرجان روتردام الذي افتتح دورته في 25 يناير الماضي وكرسها لأفلام الربيع العربي، وهي مبادرة رائعة من سينمائيين علي وعي بروح التضامن بين كل سينمائيي العالم الصادقين. أما الفيلم الثاني «التحرير، ميدان التحرير» فقد فاز بالجائزة الأولي في مهرجان سينما الحقيقة الذي يقام بمركز بومبيدو بباريس في نهاية إبريل من كل عام ثم انتقل إلي دور العرض العادية في العديد من مدن فرنسا وإيطاليا وهولندا ومازال يعرض بباريس إلي الآن. يبدأ الفيلم بما يشبه أناشيد المعابد الفرعونية وعلي دقات إيقاعية تتابع كلمات النشيد: إن مكانك في التابوت/ مع الفراعنة/ فلترقد/ لقد أصبحت شيخا عجوزا، هرما/ الفرق بينكم وبيننا، أننا الشعب/ الشعب العامل/ الشعب الجائع/ الذي حرمت عليه كل سبل الحياة/ وأنت، أنت أيها المصري، ماذا تريد/ أتريد الديمقراطية/ قبل أن يشرع ذلك العجوز الهرم، في بيع اهرامات الجيزة/ وبيع السد العالي/ ماذا تريد؟ وتنتقل الكاميرا من مظاهرات حاشدة إلي مصائر فردية شباب علي أقصي درجات الوعي بالسياق السياسي - الاجتماعي، منهم من يحملون درجات الماجستير والدكتوراه لكنهم بلا عمل بينما عجائز تعيش في ثقافات العصور الوسطي تتربع علي البنية العليا للمؤسسات راتب كل واحد منهم يتجاوز المليون جنيه شهريا .. فتاة خطيبها لا يجد عملا وبالتالي استحالة الزواج.. ماذا تفعل؟ ماذا تفعل كل فتاة مثلها؟ أسر تطرد من مساكنها ولا تجد مأوي لمن تشكو؟ الحركة في الفيلم اشبه بدوامة من محيطه تتسع الدوائر لتعود متشابكة في حركة الجموع الثورية. أتغني باسمك وإلي الفيلم الثالث عنوانه « ميدان التحرير، إنني اتغني باسمك» وعنوانه الفرعي «الأغاني التي اسقطت النظام» المشاهد شرائح غنائية يصحبها تعليق، إما من كاتب الأغنية أو المغني الشخصية الرئيسية في التعليق هي شخصية الشاعر أحمد فؤاد نجم يفسر عنوان الفيلم بقصيدة لشاعر فرنسا الثوري «بول إيلوار» عنوانها «أيتها الحرية إنني أتغني باسمك». والواقع أن أشعار نجم هي غناء فردي والأداء جماعي الصدي وقد نفذ إلي قلب إيقاعها الموسيقار الشيخ إمام فإذا بها تتحول إلي نشيد جماعي يتردد في أوساط شبابنا كما في أوساط شباب أوروبا فقد شهدت أثناء إقامتي بباريس كيف احتفلت الدولة «المدينة الجامعية الدولية» بأغاني نجم - إمام وذلك للتعبير عن تضامن شباب أوروبا بملحن معتقل وشاعر هارب مطلوب القبض عليه لا لشيء سوي أنهما يتغنيان بحب مصر ويدعواها إلي اليقظة. «يا مصر قومي وشدي الحيل/ كل اللي تتمناه عندك». ويؤكد مخرجو الفيلم عن التواصل بين الأجيال فهاهو موسيقار شاب يقول:« اليوم فقط بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير بدأت أفهم الشيخ إمام. وإلي هذه العبارة تضاف عناوين العديد من الأغاني الثورية عايدة الأيوبي تعود إلي الظهور وبصحبة الموسيقار المغني كايروكي تتردد كلمات أغاني «الميدان»: «يا ميدان ، كنت فين من زمان» والأغنية أشبه ببيان ثوري لكنه بيان إيقاعي غنائي لا أثر فيه للخطابة أو للأناشيد الحماسية المدرسية التي هي أشبه بواجبات المدرسة وتبرز أسماء جديدة. حمزة نمرة، رامي، عصام، نبيل العنيل، مستر التلهي «ولا أدري صحة الاسم بالعربية» والأخير يردد: «في كل شارع في بلادي / صوت الحرية ينادي».