لم يكن «الرمز» في الأدب في اعتقادي فرصة لاستعراض الكاتب أو الأديب مهارته في التلغيز والإبهام وإخفاء ما يستطيع إخفاءه من مفاتح النص الأدبي ومداخله لكي يجهد قارئه أو متلقيه في محاولة فك شفرات نصه وحل ألغازه ومجاهله، بقدر ما كان «الرمز» « باباً موارباً» - إذا اجاز لنا التعبير - ما علي القارئ أو المستمع إلا دفعه برفق حتي ينفتح علي مصراعيه أمامه لكي يري ما يري ويدرك ما يدرك، غير فاقد في رؤيته وإدراكه لمتعة الولوج ولذة المكاشفة. من هذا المنطلق أو الفهم الواعي لمسألة «الرمز» يطل علينا القاص والأديب «سعيد العزب الرخ» بمجموعته القصصية الجديدة «نصف حكاية» . استغماية ففي نصف الحكاية الأول «استغماية» يرمز الكاتب «للغة الاغتصاب والسطو» والتي تمارسها الدول الكبيرة علي الدول الصغيرة في هذا الواقع الذي نعيشه تارة في النور بحجج قوية مقنعة في ظاهرها، ولكنها واهية هشة في باطنها، وتارة أخري في الخفاء بعيدا عن الأعين والأسماع، يرمز لهذه «اللغة» التي صارت للأسف والأسي اللغة الرسمية الوحيدة والمؤكدة في عالم المصالح والمنافع الذاتية والشخصية بلعبة «الاستغماية» وما يحدث خلالها من انتهاك جسدي ، للصغار بفعل الكبار الذين يختلقون الأسباب ويتصنعون الحيل لكي يغتنموا سريعا فرص الانتهاك للضعفاء أو الصغار، والسلب المادي لخيراتهم وبراءاتهم وأعراضهم، هكذا في بساطة دون تعقيد أو استعراض. «انتهي الدور ومازال السور يخفي من كانا ومازالا خلفه ، تنظر إليه وآلامك الحادة تريك ما يحدث خلفه رأي العين.. يبدأ الدور الجديد، ولد آخر يردد «واحد» «اثنين» يتبعه الباقون «لسه» وقبل أن يكمل «تلاتة»، خرج من خلف ذلك السور من كانا خلفه..أما الكبير فقد نظر إليك نظرة مازادت من احساسك بالألم وأما الصغير فقد ألقي بعينيه ناحية الأرض، يلتمس شيئا ما تاه منه، يسرع الخطا ناحيتك يماثلك في التصاقك بالأرض» ص 10 وبمنتهي «النعومة» وهنا تكمن المفارقة يفجر «سعيد الرخ» قضية مهمة تكاد تكون أم القضايا وذروة المآسي في عصرنا الحالي قبل قيام الثورة المجيدة في 25 يناير 2011 علي اعتبار أن ما بعد الثورة يحمل شيئا جديدا كما نأمل وهي المستقبل الضائع والحياة المفتقدة لدي قطاع كبير وعريض من شباب بلادنا الذين لا يجدون عملا كريما أو بيتا يأويهم أو يوما آتيا يحلمون فيه بتحقيق أتفه الأشياء وأدناها .. وذلك في نصف الحكاية الرابع. ولقد رمز هنا كعادته للفقر المادي والمعنوي والخواء الملموس والمحسوس لدي هؤلاء الشباب ب «الخط المائل» الصغير والذي تحمل القصة عنوانه .. ذلك الذي لا يملك البطل سواه عند تدوينه بياناته الشخصية علي أوراق «الهدية» التي وصلته لأول مرة في عيد ميلاده ، فهو بلا بيت بلا وظيفة بلا مؤهل بلا شيء أو يكاد لم يجد غير هذا الخط المائل الصغير لكي يضعه محل هذه البيانات المطلوبة .. ذلك الذي أفسد عليه فرحته بعيد ميلاده حيث تأكد له أن العام الآتي وكل الأعوام الآتية لم تأت من أجله: « تدرك أن خطا مائلا صغيرا فقط، كاف للإجابة علي هذين السؤالين في وقت واحد، تعيد النظر إلي هديتك وبيانات التلكس وحساب البنك وغيرها. تتطلع إلي طلاء الذهب وهو يغطي كلمات تعلو الغلاف وكلمات الترحيب بالعام الجديد وهي تتناثر في عدة أماكن. تمسك بالقلم، تحاول طمس كل هذه الكلمات حتي لا تشترك في الاحتفال بعام لم يأت من أجلك.. فاجأك القلم بمداده وقد جف، وأن كل ما استطاع أن يكتبه، ذلك الخط المائل الصغير» ص16 المدهش هنا أن الكاتب استطاع في هذا النص وفي غيره من النصوص بلغة خبرية منفردة الاستحواذ علي عقل القارئ ووجدانه بل وإعجابه أيضا، ذلك أن الصدق والإدهاش النفسي من ناحية، والتدرج السلس المنساب والذي يؤدي إلي قمة التصعيد الدرامي دون صدمة أو مفاجأة من ناحية أخري، استطاع ببراعة وتمكن شديدين من إلباس هذه اللغة رداء الامتاع والمؤانسة، وحرارة المعايشة والتواصل. نظرة أخيرة وفي نصف الحكاية الثامن «نظرة أخيرة» ينقل لنا القاص وجهة نظر خاصة ومتفردة للعلاقة الأسرية والدفء العائلي بين الأب وأولاده وزوجته، فهو يعتبر أن كل لقاء بينهما ميلاد جديد، بعث آخره مخاض وليد بعد موات أو انفصال بعيدا عنهما حتي لو كان ذلك الابتعاد رحيلا معتادا ومتكررا للعمل أو الزيارة. هذا هو الاحساس الذي يراه القاص ويتمثله بين الوالد وبنيه، إن الأساس في حياة الرجل هو علاقته بأسرته، بأفراد مملكته الصغيرة تلك هي مفرداته العامة والطبيعية الذي خلقه الله من أجلها، أما ماعداها فهي أشياء ثانوية جانبية، مفردات خاصة لا تهم أحدا سواه .. إنه ينقل تلك الرؤية في نصه - رغم اعتراض البعض من القراء عليها - بنفس طريقته الجاذبة في سرده الخبري الطارق المدهش: « تدرك أنه لا مفر من رفع السماعة والرد علي الهاتف الآخر، وقد كثرت الاحتمالات في خيالك .. أحد زملاء العمل وافته المنية وهو في مهمة رسمية .. تشعر بدوار يأخذك، يلقي بك لاتجاه الباب، تنظر إلي حلتك الأميرية من خلال أولادك المتراصين حولك ، تطيل النظر إليهم وأنت علي مشارف مخاض آخر، أيكون الأخير أم لا؟» ص24 ونصل إلي نصف الحكاية السابع عشر «نونوات مختلفة» لنطالع تلك النونوات» كرمز طبيعي لاحتياج الأنثي للذكر، واحتياج المرأة للرجل، وكأن نصه هذا صرخة في وجه من يتحدون الطبيعة، ويتخذون من أساليب الشذوذ والانحراف مسلطا للعيش والتواجد، فيقول لهم تلك سنة الكون وناموسه الأزلي تلازم المرأة للرجل ، وتلازم الرجل للمرأة كشرط لاستمرارية الوجود والحياة. فبطلة النص هنا والتي خرجت إلي الجدار تنتظر صفيرا معتادا من جارها اشتياقا إلي رؤيته ولقائه، عندما رأت زوجين من القطط «ذكر وأنثي» يتبادلان بعد «نونوات مختلفة» الحب والعلاقة الحميمية المعتادة في الوقت الذي تأخر عليها رجلها في الحضور إليها، تتواري في ركن من حظيرتها مطلقة هي الأخري «نونوات» الرغبة والحنين: «فوجئت بالقط يداعب وليفته، تطلق نونوات التمنع، يبادلها القط نونوات الرغبة، يتعانق الصغير والنونوات، يلتصق بها ذيلها تمنعا، تضيق بها ملابسها رغبة، تزداد نونواته حدة، يزداد إيقاع الصفير تنغما، يتواريان في زاوية من الجدار تتواري عن أعين ديوك فراخها المشرئبة إليها .. من داخل الحظيرة، كانت نونواتها مختلفة» ص44 عروس الحوائط الطينية وممارسة أخري للعبة «الرمز» يكشف لنا المؤلف عن وجود صنف من الناس لا يعرف كيف يتآلف مع الجديد مع الحديث، مع ما يطرأ علي الزمن والمكان والأشياء من تغير أو تطور، إذ أنه أدخل نفسه في إطار «القديم» وأحكم غلقه عليها دون أن يدري ونسي أو تناسي ذلك بفعل مرور الأيام والشهور والسنين، حتي أصبح جزءا من هذا القديم ومتنا رئيسيا من متونه لا يمكنه الانفصال أو التحلل منه. هكذا كانت بطلة نص «عروس الحوائط الطينية» أو نصف الحكاية الثلاثين والتي احترفت صناعة أو مهنة عمل الحوائط الطينية والتي كانت تبني بها ومن خلالها معظم البيوت والأبنية خاصة في «الريف» إلي أن مر الزمن وتعاقبت الأعوام، وحدث هجوم المباني الخرسانية والحوائط الأسمنتية، فكسدت تلك المهنة، وتوارت صنعة «البطلة» التي لا تملك مهارة أو تميزا سواها.. حتي عندما تسرح بخيالها في هذا «الفلك» الجديد وتجد نفسها مقترنة بمن تمنته ورأته شريطا لحياتها، تصطدم في أثناء دورانها فيه «بالأسمنت» و«الخرسانات» ما قوض عودها، وكسر شموخها وأوهن قوتها .. فتعود سريعا إلي ما كانت وتربت وعاشت عليه «الحوائط الطينية» وكأنها رمز واضح وبين لاختيار كل زمن جديد وعهد قادم لشخوصه وناسه وصناعه: تتسع مقلتاها، تقارن ملامحها بملامح العروس شيء ما جعلها تبتسم تزداد ابتسامتها اتساعا كلما ازدادت أوجه الشبه بينهما جميلات يتزاحمن ليباركن لها، تتسابق أصابعهم لتلامس ركبتها.. طول فستانها والزحام جعلاها تتعثر يفلت ذراع أميرها تنهض تتخذ من الشقوق دليلا لذراعه، اصطدمت بأحد الأبنية الخرسانية.. عادت أدراجها عبر الشقوق، تبحث عن نفسها علي الحوائط الطينية» ص70 وهكذا تتوالي صياغات وحكايات «سعيد الرخ» أو انصاف حكاياته لتبرز لنا معان كثيرة وتخرج لنا مفاهيم عميقة ورؤي متأملة لما يجري حولنا وبنا ومن خلالنا من أشياء وأحداث.