هناك علاقة عضوية بين الأسلوب الذي يستخدمه القاص أو الروائي في بناء مشاهده وتصوير الخلفيات التي تتفاعل مع الشخصيات بحيث تتحول الكلمات والألفاظ إلي أدوات تشكيلية تثير خيال القارئ فيستطيع بدوره ان يحيل الكلمات والخلفيات الوصفية إلي صور تشكيلية تخضع بالفعل إلي أصول وقيم ومعايير الفن التشكيلي، وتتبلور المشكلة أيضا في اختلاف الأدوات الفنية التي يلجأ إليها كل من الروائي والفنان التشكيلي ولا يعني هذا ان مؤلفي «ألف ليلة وليلة» كانوا يقصدون ان يرسموا لوحات وصورا تشكيلية بكلماتهم، إذ كان من الواضح ان هذه الملكة الوصفية لديهم كانت فطرية وتلقائية ومتدفقة نتيجة لعنصر الخيال الذي يجتاز كل الحدود التلقائية والعقلانية والمنطقية للوصف سواء لوصف الشخصيات أو الحيوانات أو الطيور أو الخلفيات أو المشاهد التي تمتد علي معظم صفحات الكتاب، وهذا الانطلاق الخيالي بلا حدود جعل «ألف ليلة وليلة» تنطلق بدورها إلي إثارة خيال القارئ وهو ما يشبه المدارس الفنية الحديثة التي حطمت أطر الواقع وحاولت ان تتوغل سواء في العالم الميتافيزيقي أو الغيبي أو الخرافي أو الأسطوري وأيضا في شطحات العقل الباطن وهواجسه- ولذلك فإن مشكلة البحث تتفرع إلي مجالات القص والروي من خلال مجالات التكوين التشكيلي من حيث الاتزان والتوافق والتباين والترديد.. إلخ. كثيرا ما استخدم المؤلف ذلك التضاد الحادث عن اظلام الجو فجأة بعد إشراق وسطوع الشمس ليؤكد علي مدي أهمية الشمس وضوئها في تأثيرها علي ما يحيط بها كما في الصورة السابقة وكما في حكاية الليلة «التاسعة والستون بعد التسعمائة»: وما كانت تطلع الشمس في اليوم التالي، حتي أظلم الجو فجأة، ثم لمحنا سحابة عظيمة في الجو، وكلما اقتربت منا اشتد الهواء ولعب بالأمواج، إلي أن تكشفت لنا تلك السحابة عن طائر الرخ العظيم، وقد حلق فوقنا بجناحيه العظيمين، وفي مخالبه صخرة عظيمة قدر الفيل يريد أن يلقيها علي سفينتنا. فبعد ان طلعت الشمس أظلم الجو فجأة نتيجة لمرور سحابة كبيرة كلما اقتربت يشتد الهواء فتزداد الظلمة وبالتالي قلت الرؤية، حتي انكشفت السحابة وظهر طائر الرخ فهذه الانتقالة ما بين الإضاءة الشديدة ثم الظلمة المفاجئة انما هي تضاد يؤكد ويبلور الدور الأساسي الذي تلعبه الشمس في تأثيرها علي الرؤية. وفي حكاية «الليلة التاسعة والستون بعد التسعمائة» نري هذه الصورة: قال إسحاق الموصلي: ثم أمضيت ساعة وأنا أطوف بشوارع المدينة، وكانت الشمس قد ارتفعت واشتدت حرارتها، فملت إلي دار قريبة، ووقفت تحت ظلها كي استريح من المشي، وفيما أنا كذلك، أقبل غلام أسود يقود حمارا أبيض، قد ركبت فوقه جارية ترتدي ملابس فاخرة وتتحلي بجواهر كثيرة نادرة. بعد ان ارتفعت الشمس وانتشر ضوؤها علي إسحاق الموصلي وقف ليستريح من عناء المشي ويصف المؤلف ما قام به الموصلي أثناء استراحته، حيث قابل غلاما أسود يركب حمارا أبيض وهنا يبرز ذلك التضاد الواضح بين الألوان التي اختارها المؤلف مع تأثير أشعة الشمس عليها، فاللون الأبيض يعكس الضوء والأسود يمتصه، أي ان كلا منهما عكس الآخر كما وصف المؤلف الجارية التي ركبت الحمار الأبيض، وهي ترتدي الجواهر الكثيرة التي من شأنها ان تومض في ضوء الشمس كما أمعن في وصفها وفي وصف حركاتها المتراشقة مع سطوع الشمس عليها مما يجعلها تبدو متألقة كما تساهم الجواهر والملابس التي ترتديها في عكس ضوء الشمس مما يكسبها ومضات متناثرة علي أنحاء جسدها وتعطي في تجاورها مع ألوان الملابس مزيجا لونيا ثريا. كما استخدم مؤلفو «ألف ليلة وليلة» انعكاس ضوء الشمس وتأثيره عما يسقط عليه من أشياء كمصدر طبيعي يغير من حالة الجو بالإشراق أو الإعتام ، ونجدهم قد استخدموا الإضاءة غير الطبيعية متمثلة في الأضواء التي تنبعث من الشموع والقناديل وغيرها من مصادر الإضاءة، ففي حكاية الليلة «الحادية والخمسون»: ثم مشي حسن بدر الدين وأوقد شمعة وتوجه إلي الحمام، فوجد الأحدب راكبا الفرس، فدخل بين الناس وهو علي تلك الصورة الحسنة، وعليه العلامة، ثم وضع يده في جيبه فوجده ممتلئا بالذهب، فاندهشت عقول المغنيات وتعجب الناس من ثروته وجماله. وقد أوقد بدر الدين شمعة ومشي بها، وذكر المؤلف من قبل انه يتمتع بجمال وافر وجبين زاهر، فكونه يمسك بالشمعة ويمشي بها يزيد من النورانية التي يتحلي بها وجهه نظرا لسقوط أشعة الضوء المنبعثة من الشمعة عليه وبالتالي يتضاعف تألقه وإشراقة كما ذكر المؤلف ان جيبه مملوء بالذهب مما يجعل هناك تناثر للوميض الذي يحدثه الذهب مع وميض الوجه الجميل مما يزيد من مساحة انتشار الضوء عليه وعلي جسده وعلي ملابسه مما ينتج عنه تداخل لوني بين ما يحدثه الذهب من وميض علي الملابس وإشراقة وجهه من ضوء الشمعة مما يجعلنا نتخيله شخصية لإحدي اللوحات الانطباعية التي تتسم بالإشراقة في كل جوانبها. في حكاية «الليلة السابعة والخمسون» نجد صورة مقاربة للصورة السابقة كما يلي: وبعد ان أكلت ومسحت يدي ونسيت ان أغسلها ومكثت جالسا إلي ان دخل الظلام وأوقدت الشموع وأقبلت المغنيات بالدفوف، ولم يزالوا يجلون العروسة وينقطون بالذهب حتي طافت القصر كله. فبعد ان زينوا الجارية، حل الظلام وأقدوا الشموع وأقبلت المغنيات بالدفوف وصاروا لينثروا الذهب علي أرجاء القصر كله، فكلمات المؤلف جاءت دقيقة ومعبرة فصرح بوجود وسيطرة الظلام علي أرجاء المكان كله ولذلك أوقدوا الشموع فأصبحت هناك مصادر ضوئية خفيفة تجتاح هذه الظلمة، فيتبادر إلي أذهاننا علي الفور صورة الشموع وهي تظهر مثل النجوم في سماء الليل الحالك، وتصدر إشعاعات ضوئية رقيقة، كما جعل الجاريات ينثرن الذهب علي أرجاء القصر أيضا مما يضيف انعكاسات ضوئية أخري تحيط المكان بأضواء متلألئة محاولة طمس الظلام واستبداله بإشعاع براق متناثر الأرجاء، كما يتبادل إلي أذهاننا صورة سقوط هذه الإضاءات المتفاوتة الشدة علي أوجه المغنيات والجواري مما يصنع جوا خاصا يبدو وكأنه محاط بغلالة ضبابية يتلألأ في أرجائها النجوم. يتكرر هذا المشهد الذي يسيطر عليه الظلام وتتناثر فيه الأضواء تناثرا مصدره إما أضواء الشموع أو بريق السيوف أو بريق المعادن كما يلي في حكاية «الليلة الرابعة والستون»: فأخذتهما الجارية وأطلعتهما في الروشن وأغلقت الباب عليهما ومضت في سبيلها، وبينما هما ينظران إلي البستان، جاء الخليفة وقدامه نحو مائة خادم بأيديهم السيوف، وحواليه عشرون جارية كأنهن الأقمار، وعليهن أفخر ما يكون من الثياب، وعلي رأس كل واحدة تاج مكلل بالجواهر واليواقيت، وفي يدها شمعة موقدة والخليفة يمشي بينهن وهن محيطات به من كل ناحية. في هذا الظلام حضر الخليفة مع مائة خادم يحملون سيوفهم اللامعة والتي يشتد لمعانها مع وجود ضوء الشموع الخافت المسيطر علي المكان، وأسهم في إضفاء وميض أكثر سطوعا تلك الملابس الزاهية واليواقيت التي تحلي تيجان العشرين جارية وتعكس أضواءها بألوان مختلفة. تتوالي الصور التي يلعب فيها الضوء دورا أساسيا كما في حكاية «الليلة الرابعة بعد المائتين»: فقالت الجارية هل تأذن لي ان أوقد شمعة من هذا الشمع المصفوف، فقال لها: قومي ولا توقدي ثمانين شمعة.. وبعد ذلك قال نور الدين للشيخ إبراهيم: قم وأوقد قنديلا واحدا، فقام وأوقد ثمانين قنديلا، فعند ذلك رقص المكان فقال لهما الشيخ إبراهيم وقد غلب عليه السكر: أنتما أجرأ مني، ثم نهض وفتح الشبابيك جميعا، واتفق ان الخليفة كان في تلك الساعة جالسا في الشبابيك المطلة علي ضوء القمر، فلما رأي ضوء القناديل والشموع ساطعا في القصر، عجب من ذلك وسأل جعفر عما يحصل في مدينة بغداد فنطر جعفر إلي جهة البستان فوجد القصر كأنه شعلة نار نورها غلب علي نور القمر. فعندما أوقدت الجارية الشموع ذكر المؤلف ان عدد هذه الشموع حوالي ثمانين شمعة، وتبعها بعد ذلك إضاءة الشيخ لثمانين قنديلاً فأصبحت الإضاءة في ذروتها وعبر عن ذلك المؤلف بقوله: إن المكان قد «رقص» وذلك يدل علي شدة الإضاءة المحيطة، وفي عبارة أخري ذكر المؤلف ان المكان قد ابتهج «فكل من الفعلين رقص وابتهج» يعكسان معني واحدًا وهو إشراقة وحيوية المكان، وهذه هي السمات التي تتسم بها اللوحات الانطباعية، فهي مفعمة دائماً بالإشراقة، والألوان المزدهرة كما تبعث علي التفاؤل، وأكد المؤلف أيضا هذه الصفة حين وصف القصر بأنه ابتهج وانه أصبح كشعلة نار نورها يغلب نور القمر. كما استخدم مؤلفو الحكايات المصادر الطبيعية والمصادر غير الطبيعية كمصدر لانعكاس الضوء وتأثيره علي الأشياء، فاستمرارا لذلك المنهج نجدهم قد استخدموا الظواهر الطبيعية أيضا وتأثيرها علي مدي الرؤية وانعكاس وامتزاج اللون من خلالها، مثل التعبير عن هبوب الرياح وثورة الأتربة والغبار وسيطرتها علي الجو المحيط كما يلي: ففي حكاية «الليلة الأربعون بعد الثلاثمائة» نجد هذه الصورة: وطابت الإقامة لحسن عند البنات، وبينما هو معهن في ألذ عيش، إذ طلعت عليهم غبرة عظيمة، أظلم لها الجو، فقالت البنات: قم وادخل مقصورتك وان شئت فادخل البستان ولا تخلف من شيء، وبعد ساعة انكشف الغبار، فنال من تحته جيش جرار مثل البحر الهدار وهو جيش الملك والد البنات. فذكر مؤلف هذه الحكاية انه نتيجة لهذه الغبرة القوية التي سيطرت علي المكان قد أظلم الجو واستخدم الفعل «أظلم» علي وزن أفعل ليؤكد مدي قوة هذه الغبرة حتي تعتم الجو من خلالها، وبعد ساعة انكشف ذلك الغبار ففوجئ بما كان يخفيه تحت هذه الغبرة فإذا بجيش عظيم وصفه المؤلف بأنه جيش جرار. في صورة أخري في حكاية «الليلة الحادية والستون بعد الثلاثمائة» نجد هذه الصورة: قالت العجوز لحسن: متي وصلنا إلي أرض الطيور بعد سبعة أشهر، نسير في تلك الأرض مدة أحد عشر يوما ليلا ونهارا، ثم بعد ذلك نخرج إلي أرض يقال لها أرض الوحوش، ومن شدة زئير السباع وعواء الذئاب لا نسمع شيئا، فنسير إلي أن نخرج منها إلي أرض يقال لها أرض الجن، حيث لا يسمع بعضنا بعضا من شدة صياح الجن، وصعود النيران، وتطاير الشرر والدخان من أفواههم، لأنهم يسدون الطرق أمامنا حتي لا نسمع ولا نري. فوصف المؤلف هذه الأرض التي وصل إليها حسن مع العجوز أنها أرض مليئة بالنيران والشرر والدخان لدرجة أنها مسدودة الطريق من سيطرة هذه الأجواء التي تحول دون الرؤية. لقد جمع ومزج المؤلف في هذه الحكاية بين ثلاثة عناصر طبيعية هي: النار، الشرر والدخان، حتي يعكس للقارئ مدة كآبة وبشاعة هذه الأرض، وجاء هذا المزج أحدث تنوعا حيث ان الدخان يغلف الأرض بما يشبه الغلالة الرمادية، لكن مع وجود النار والشرر المتناثرين يصبح هناك مزيج لوني بين اللون الرمادي والألوان الحمراء والبرتقالية والزرقاء المنبعثة من النار والشرر، وبالتالي يظهر المشهد أخيرا عبارة عن هالة رمادية محاطة بومضات ورقشات ضوئية حمراء وبرتقالية وزرقاء بما يتفق والجو الانطباعي الذي نجده في لوحات كثيرة. ان الخصوبة التشكيلية والخيالية التي تجلت في الصور الأدبية التي زخر بها كتاب «ألف ليلة وليلة» كانت الدعامة الرئيسية التي انطلق منها هذا الكتاب إلي كل الآفاق العالمية عبر العصور، وجعلت منه كتابا من أهم عيون التراث الإنساني، ولو افترضنا ان هذه الحكايات قد كتبت بأسلوب تقريري مباشر بأسلوب سرد الحوادث والمواقف لتزيد القارئ بأخبارها، لما كان من الممكن ان يصل هذا الكتاب إلي كل هذه الآفاق الإنسانية والعالمية.