اعتادت هوليوود علي مدار تاريخها علي استقبال المخرجين المسرحيين الناجحين في صناعتها، لتحول بعضهم فيما بعد الي أهم أقطاب الإخراج، نتذكر «اليا كازان، مايك نيكولز وسام مينديز» والبريطاني «ستيفن دالدري». في الماضي، وفي الغالب الأعم، كان يستعين منتجو الأفلام بمخرجي المسرح لإخراج الأفلام المأخوذة عن أعمال مسرحية، فتجد «إيليا كازان» يقدم الأفلام المقتبسة عن مسرحيات «تينيسي ويليامز» وتجد «مايك نيكولز» يبدأ مشواره السينمائي بفيلم «من يخاف فيرجينيا وولف؟» عن مسرحية «ادوارد ألبي» الشهيرة. لكن الآن لم يعد هذا الارتباط موجودا بشكل واضح، ف«ستيفن دالدري» لم يخرج أي فيلم حتي الآن مأخوذا عن نص مسرحي. بدأ البريطاني «ستيفن دالدري» عمله في المسرح في سن المراهقة، ليخرج أول مسرحياته وهو في العشرينات. حقق «دالدري» كمخرج مسرحي في بريطانيا وفي مسارح برودواي أيضا نجاحا كبيرا وحصل علي العديد من الجوائز منها جائزة «طوني» الشهيرة، ليبدأ وهو علي مشارف عامه الأربعين في إخراج أول أفلامه السينمائية. بداية موفقة لم يبدأ «ستيفن داردي» مشواره السينمائي من خلال هوليوود أو نجومها اللامعين، بل بدأ في عام 2000 بفيلمه البريطاني الشهير «بيلي ايليوت» Billy Elliot يحكي الفيلم قصة الطفل بيلي يتيم الام الذي يعيش مع أبيه وأخيه، عاملي المناجم، في مقاطعة دور مهم في بريطانيا في الثمانينات، ويستعرض الفيلم عشق هذا الطفل للرقص عاما، وهو أمر غير مقبول، فأسرته وأقرانه ينتظرون منه أن يلعب لعبة الملاكمة كما يفعل بقية الرجال، ولكن بيلي يترك الملاكمة ليتجه للباليه الأمر الذي يغضب أباه وأخاه بشدة، وهما لا يستطعان تفهمه وسط معاناتهما كعاملي مناجم مضربين عن العمل بسبب غلق «مارجريت تاتشر» «رئيسة وزراء بريطانية آنذاك» العديد من المناجم. لكن تنجح مدربة بيلي في إقناع أهله، ليلتحق بأهم مدرسة باليه في لندن ويصبح راقص باليه ناجحا. أقل مايقال عن هذا الفيلم إنه بداية مبشرة ومهمة لمخرج جديد، فالفيلم يستعرض حياة بيلي ومعاناة أسرته علي خلفية اضراب العمال لكن ببساطة شديدة وتلقائية تخلو من أي تزييف، أضف الي هذا أداء «جيمي بيل» في دور بيلي الذي كان يقدم أول أدواره آنذاك، وأيضا أداء «جولي والترز» المدهش، وهذا التمثيل كان كفيلا بأن يفوز الاثنان بجوائز "البافتا" «أهم جوائز سينمائية في بريطانيا». ليس هذا فحسب فالفيلم رشح لثلاث جوائز أوسكار، أفضل سيناريو، أفضل تمثيل لجولي والترز، ويترشح أيضا «دالدري» للأوسكار عن أول أفلامه. نجاح الفيلم كان كفيلا لأن يتحول فيما بعد الي مسرحية موسيقية بنفس الاسم، كتب موسيقاها الشهير «التون جون» وأخرجها «دالدري» بنفسه. في عام 2002 كان «ستيفن دالدري» علي موعد مع هوليوود ليخرج أول أفلامه الأمريكية وأشهرها «الساعات» The hours ولهذا الفيلم قصة في حد ذاته، فالفيلم مأخوذ عن رواية ل«مايكل كانينجهام» كان يحاول من خلالها اعادة كتابة رواية «مسز داللاواي» لفيرجينيا وولف برؤية معاصرة، ولكنه وجد نفسه يكتب كتابا عن فيرجينيا وولف أثناء كتابتها للرواية في العشرينات، وعن امرأة تجسد شخصية دالاواي في نهاية التسعينات، ثم وضح شخصية السيدة براون، التي تقرأ الرواية في نهاية الأربعينات، وهنا استوحي الشخصية من شخصية أمه! وفي النهاية خرجت الرواية لتحكي يوما في حياة كل من هؤلاء النساء، إحداهن تكتب الرواية، والأخري تقرأها وهي تعاني اكتئابا شديدا، والثالثة تجسدها. أشهر النجمات «الساعات» كان الاسم المبدئي الذي اختارته وولف لروايتها التي سمتها فيما بعد ب «مسز دالاواي». رواية رائعة ومهمة لكن كان الرأي الغالب أنها لا تصلح لتقدم في فيلم سينمائي، إلي أن أتي السيناريست «دافيد هير» ليكتب سيناريو بديعا ومخلصا للرواية ليتحول فيلما تنتجه شركة «باراماونت» ويخرجه «ستيفن دالدري». استعان دالدري في هذا الفيلم بثلاثة من أشهر نجمات هوليوود وأفضلهن تمثيلا «ميريل ستريب، نيكول كيدمان وجوليان مور» ليجسدن أدوارهن باحساس عال وأداء أستاذي كان كفيلا بأن يحصل الثلاث علي جائزة مهرجان برلين مناصفة، وتفوز فيما بعد «نيكول كيدمان» بالأوسكار عن أدائها لدور فيرجينيا وولف، برغم أنه الأصغر مساحة في الثلاثة أدوار، وكانت جائزة «كيدمان» هي الأوسكار الوحيدة التي فاز بها الفيلم من بين عشرة ترشحيات أخري من بينها الترشيح الثاني لدالدري. والفيلم ضم ايضا العديد من الممثلين المشهورين «جون سي رايلي، ميراندا ريتشردسون، طوني كوليت، اد هاريس وجيف دانييلز» والجميع هنا ادي أفضل ما عنده لتخرج من الفيلم سيمفونية تمثيل تدرس. لكن ليس التمثيل فقط هو العنصر المهم في الفيلم، فكل عناصر الفيلم خدمت في ايصال روح الرواية والمشاعر التي تحتويها من خلال التصوير، المونتاج وأيضا من خلال موسيقي «فيليب جلاس» الرائعة التي كانت من أهم مميزات الفيلم. حقق الفيلم نجاحا جماهيريا معقولا ونجاحا نقديا كبيرا ويظل حتي الآن هو اهم أفلام دالدري، وفي رأيي الأفضل حتي الآن. استمرار مسرحي استمر «ستيفن دالدري» في عمله المسرحي وتوقف عن السينما لأكثر من خمس سنوات ليعود بعد ذلك في 2008 بفيلم «القارئ» The Reader الذي قامت ببطولته «كيت وينسليت» مع «رالف فاينس ودافيد كروس». تدور أحداث القاريء حول مراهق تجمعه علاقة حميمة بامرأة تكبره سنا ثم تختفي المرأة من حياته، ثم فيما بعد وأثناء دراسته للمحاماة يفاجأ بهذه المرأة تحاكم لجرائم حرب اقترفتها أثناء التحاقها بالجيش النازي. للمرة الثانية يخرج «دالدري» فيلما عن عمل أدبي، وللمرة الثانية «دافيد هير» هو كاتب السيناريو. الفيلم تجربة انسانية شاعرية مثيرة للتفكير، أضف الي ذلك أداء «كيت وينسلت» الذي جعلها تقتنص جائزة الأوسكار عن دورها في الفيلم، ليس ذلك فحسب، فمستوي الفيلم المرتفع كان كفيلا لكي يكون موجودا في قوائم العديد من النقاد لأفضل عشرة أفلام للعام، وكان كفيلا أيضا أن يترشح دالدري للاوسكار للمرة الثالثة، لتكون سابقة بأن يرشح مخرج للأوسكار عن أول ثلاثة أعمال. ولكن الفيلم بالتأكيد لا يحمل أهمية فيلم «الساعات» وربما «بيلي اليوت»، ولكنه بكل تأكيد كان أفضل من فيلم «ستيفن دالدري» التالي. في نهاية العام الماضي 2011 بدأت الصالات العالمية في عرض فيلم «ستيفن دالدري» الجديد «عال جدا وقريب للغاية» Extremely loud & incredibly close من بطولة الطفل «توماس هورن» بمشاركة النجوم «توم هانكس وساندرا بولوك». ويحكي الفيلم عن أوسكار الطفل الذي فقد أباه في أحداث 11 سبتمبر، عندما يجد بالصدفة في أغراض أبيه ظرفا مكتوبا عليه «بلاك» ويحتوي علي مفتاح لقفل مجهول، ونظرا لشخصية اوسكار المفكرة والمتأملة بل والمخترعة أحيانًا، يبدأ في رحلة بحث عن صاحب المفتاح لعله في محاولة منه يجد أي شيء متعلق بوالده. وبعد فترة ينضم الي أوسكار رجل عجوز لا يتكلم أبدا، يكتشف أوسكار فيما بعد أنه جده. وفي رحلة أوسكار يظل يقابل شخصيات ونماذج إنسانية مختلفة الي جانب مواجهة كل مخاوفه المرضية المرتبطة بالخوف من الطيران، القطار وحتي ركوب الأرجوحة. الفكرة بالتأكيد مشروع لفيلم رائع وثري، ولكن السيناريو الذي كتبه «اريك روث» عن رواية «جوناثان سافرر فوير» حال دون ذلك. فالتلفيق والادعاء والابتزاز العاطفي كانت أبرز ما يميز هذا السيناريو الأعرج، فهناك دائما خط يفصل في أن يصنع الفيلم عوالم وشخوصا مدهشة وأن يكون فيلما كسولا ومدعا غير قابل للتصديق، والوصف الثاني هو الأنسب لهذا الفيلم، فتجد عراكات غير مبررة ومفتعلة بين أوسكار ووالدته، شخصيات تحكي فجأة وتخرج مافي جعبتها لطفل صغير، أم تترك ابنها يطوف شوارع مانهاتن وحده وللصدفة يكون معظم من يقابلهما ناسا مرحبة ومضيافة! علي الرغم من تقديم مشهد العلم بموت الأب أكثر من مرة بأكثر من زاوية، إلا أن كل هذه المشاهد فشلت في تحريك مشاعر المتفرج، فالاصطناع يفسد كل شيء. بل إني حتي فشلت في التعاطف مع هذا الطفل الأناني، برغم جودة اداء الممثل الصغير. لكن هل تقع المسئولية بأكملها علي عاتق السيناريست؟ بالتأكيد لا. فإلي جانب مسئولية المخرج عن كل عناصر الفيلم بما فيها السيناريو، رغم جودة الصورة في الفيلم، فقد فشل دالدري هنا في صنع مشهد واحد يترك أثرا، وفشل في تقديم شخصياته وعوالمها بشكل مدروس، علي عكس أفلامه السابقة، فيما نجح في صنع فيلم رتيب الايقاع. ربما يكون الناج الوحيد هنا هو «اليكساندر ديسبلات» مؤلف الموسيقي التصويرية. ويبقي السؤال، لماذا رشح هذا الفيلم للاوسكار أفضل فيلم بينما تم تجاهل أفلام أكثر تميزا مثل Drive وMelancholia وwe need to talk about kevin؟ لا أحد يمتلك الاجابة. ويبقي سؤال آخر وهو الأهم هنا، هل يشكل «عال جدا وقريب للغاية» بداية هبوط في مستوي «ستيفن دالدري» السينمائي؟ أم هو مجرد كبوة في تاريخ مخرج قدم قبله فيلما جميلا، وآخر عظيما وآخر جيدا؟ الإجابة حتما سيحملها فيلمه.