أقام المعهد الفرنسي بمصر في القاهرة الأيام الماضية احتفالية خاصة جدا للراحل شيخ المعماريين حسن فتحي بعنوان "حسن فتحي طموح مصري" تضمنت معرضا لكل أعماله وأعمال تلاميذه ونماذج للمعماريين الذين تأثروا بفكرة من المصريين والأجانب، كما ضم المعرض وثائق نادرة من مكتبة الكتب النادرة بالجامعة الأمريكية وبدت احتفالية "حسن فتحي" منظومة متكاملة بمعني الكلمة، حيث ساهمت فيها كل من مؤسسة الأغخان للعمارة بأرشيفها المعماري الرائع ليقدم المعهد الفرنسي عددا من حلقات للنقاش لأبحاث وثائقية شارك فيها كل المهتمين بالعمارة العربية والمصرية والفرنسية للتعريف بقيمة حسن فتحي الفنان الاستثنائي، كما يقولون إن العمارة كفن لا تحظي بنفس الاهتمام الذي تعطيه الجامعة للفنون الأخري كالتصوير والنحت أو الموسيقي، فالعمارة موضوع واسع وبلا حدود إذ يتناول فلسفة العمارة والاستيطان والتحضر واصول الجمال والإنسان والجماعة والثقافة بوجه عام، وهذا ما قاله لي "حسن فتحي" في بداية حياتي حينما تخرجت في كلية الفنون الجميلة ... فكان مشغولا بمشكلات الإسكان في الريف والحضر وكيفية إرساء فكر ثقافي مرتبط بالعمارة والأستيطان يكون له اثره في معالم شخصية مجتمعنا المعاصر لمئات السنين فقد ألقت حلقات النقاش الضوء علي اعمال ومشرعات لم نعرفها من قبل، فكل ما يعرفه الجيل الجديد عن حسن فتحي القرنة الجديدة في الأقصر، والجدل حول ما تم في عصر مبارك "خطة شاملة" تحت عنوان مكافحة الفقر، وإزالة كل القري القديمة وتهجير سكانها منذ تولي المحافظ سمير فرج الذي أزال بيوتهم بالبلدوزر وتم ترحيلهم إلي "الطارف" وتمت تسوية الأراضي.. لكن حينما بني حسن فتحي القرنة كان مهتما وحريصا علي ان يعتبر كل اسرة لها هويتها وأن يخلق عمارة ملائمة لها. ومن جانب آخر أن تتلاءم مع السكان المحليين، مما أحدث فصلا بين السياح الدوليين وبين السكان المحليين وتم اجلاء 300 أسرة وهدم المرافق العامة! فكان من المفروض الأخذ باحترام البيئة البشرية في الاعتبار فكان بالقرنة القديمة فناء خاص لإيواء الحيوانات وكل تجمع به رواق علاوة علي المرافق مثل الفرن ولكل منزل مندرة وبخلاف مركز لتعليم الحرف ومسرح، أما الآن بعد ان تم نقلهم إلي الطارف فأصبحوا حبيسي مساكن نمطية متشابهة بدون روح ولا التفات لتنوعهم الاجتماعلي أو الاقتصادي. حسن فتحي (1989 -1900) شهد قرنا مرت به مصر بانقلابات اجتماعية وسياسية شتي منذ سعد زغلول الي نهاية الاحتلال البريطاني ومن إرساء الملكية إلي سقوط فاروق الأول ومن نظام اشتراكي في عهد جمال عبد الناصر الي عهد السادات وإرساء السياسة الليبرالية مع عصر الانفتاح الي ولاية مبارك . فتلقي خلال حياته المهنية الطويلة طلبات شديدة التنوع من القطاعين العام والخاص فقد شيد للمجتمعات الريفية (القرنة الجديدة 1945 - لؤلؤة الصحراء 1950 ) كما أقام أخري للارستقراطية المصرية " ضريح حسنين باشا 1946 " وأيضا للمنظمات الدولية الكبري الأممالمتحدة 1950 مخيمات اللاجئين في غزة وفي العراق 1957 المسيب الكبير. كما اقام مشروع ضريح جمال عبد الناصر 1971 والاستراحة الرئاسية لأنور السادات 1981 لقد كانت اعماله ناطقة بحس النهضة والوطنية التي كانت سمة في الأربعين عاما الأولي من القرن العشرين في مصر لِمَ لا .. فهذا العصر كان فيه رموز الوطنية الجديدة في الأدب والفنون مثل المثال محمود مختار، رمسيس ويصا واصف زميله في مدرسة الفنون الجميلة، فكانت رحلتهما أول مرة 1941 إلي النوبة حيث كانت نقطة التحول في حياته ليصف في كتابه عمارة النوبة التي حفظت طابعها لقرون طويلة من التأثيرات الغربية كعمارة شعبية وكأنها اكتشاف تقني ورمزي في آن واحد فهناك وجد أساليب القباب والأقبية دون الاستعانة بدعامات خشبية، كحل للتسقيف أسطورة استعادة التراث الوراثي لتقنيات الأسلاف التي لم تنقطع منذ عصر الفراعنة فكانت الحلقة المفقودة التي مكنته من تأصيل مبدأة عمارة "أصيلة" يضرب بجذورها في تقليد معماري محلي وبدأ حسن فتحي في تمجيد الحرف اليدوية للحفاظ علي فنونها المحلية مثل المشربية الخشبية والقمرات الحجرية لإعادة أساسيات البيت العربي الأصيل التختابوش والقاعة وصحن الدار فكلها أساسيات نجدها في البيوت العربية بيت السحيمي بالدرب الأصفر علي سبيل المثال لا الحصر أساسيات تتلاءم مع طبيعة المناخ المصري تسمح بالتناغم الجمالي وتأكيد الهوية الثقافية. كما أنها تساهم في استمرار الحرف التقليدية وتدعم الحرفيين وفي اوائل الأربعينات. انتمي حسن فتحي لأصدقاء الفن والحياة التي كان ينتمي لها مجموعة من المثقفيين والفنانين والتي أسسها الراحل "حامد سعيد" 1906 - 2006 وكان من بين أعضائها رسام المائيات حبيب جورجي 1965 - 1892 فكان رائدا في مجال التربية الفنية فكان يستقبل بمنزله الأطفال ليبدعوا بالطين الخام أشكالا من الفخار , وبعدها انتقلت الأفكار وفلسفة الإبداع في قرية الحرانية التي أنشأها ويصا واصف لتعليم القرويين وقد تزوج ابنة حبيب جورجي، فبنيت مدرسة الحرانية للنسيج بطراز القبب والقباب في نفس التوقيت أرسي حسن فتحي مجمع "جراجوس للفخار" في شمال الأقصر، وقد تم بناء المجمع بالطين كمشروع تنموي لتعليم الفخار كحرفة تدر دخلا من منتجاتها علي سكان المنطقة، لقد كانت تلك التجارب غير مسبوقة في مصر لإحياء التراث فقد ساهم هذا الجيل في الدفاع عن الهوية لرفض الفنون الغربية في ذلك الوقت ونجد ان مهندسين أجانب نهجوا علي درب حسن فتحي مثل "سومرز كلارك" 1841 - 1926 وهو معماري إنجليزي كان مرمما وعالما للآثار مقدرا لتاريخ الفن المعماري المصري وشرع في البناء بالأقواس والقباب مستوحيا عمارة الكنائس . وقد قرر أن يقيم بشكل دائم في مصر 1902 وساهم في ترويج البناء بالطوب اللبن في مصر وساد موجة التجديد في مصر وارساء الطابع القديم للمنازل لمواءمة طبيعة المناخ واصبحت العمارة البيئية منشرة في خط الصعيد ما بين الأقصر واسوان وادفو وكوم أمبو وظلت حتي بداية القرن العشرين، وبني "كلارك" لنفسه منزله في مدينة كاب 15 كيلو شمال ادفو علي النيل ومنذ 1937 تسكنه البعثة الأثرية البلجيكية ومازال قائما إلي الآن، والمعرض المقام الآن بمركز الفنون الجزيرة توجد الأعمال المستوحاة من فلسفة حسن فتحي في كل ارجاء مصر، والتي نجح جان - بيير دوبار مستشار التعاون والنشاط الثقافي في جمع كل ما له صلة بعمارة حسن فتحي علاوة علي الكتالوج الذي يحمل اسمه والوثائق والرسومات المبدئية التي قام بإنجازها .