رغم كل هذا العدد الكبير من أعضاء الوفد المصري الذي تواجد ضمن مهرجان دبي الدولي الذي عقد في الفترة بين 7 إلي 14 ديسمبر، والذي يكاد أن يكون الوفد الأكبر عددا، فإن الجميع قد عاد دون أن يكون للمصريين أي نصيب في جوائز المهرجان العديدة، إلا من شهادة تقدير ذهبت للفيلم التسجيلي. تواجد المصريون بقوة، علي مستوي الممثلين، والمخرجين، وصناع الأفلام الروائية، والتسجيلية، والمكرمين، والنقاد، والصحفيين، وملأوا المكان طوال سبعة أيام، وسط منافسات عربية وعالمية ملحوظة، ورغم ذلك، فهم لم ينالوا أي جائزة، لا في ليلة إعلان الجائزة الكبري، ولا في ليلة إعلان جوائزه «ملتقي دبي السينمائي»، حيث خرجت مشاريع الأفلام المصرية بنتيجة قدرها صفر، وسط ازدهار حقيقي للسينما العربية من حولنا، التي حصلتا علي العديد من الجوائز، والتقديرات. تري ماذا حدث للمصريين، هل خبت جذوتهم الفنية، في عام بدأ بثورة شعبية غير متوقعة، وانتهي بانتخابات برلمانية شغلت علي الناس أفكارهم، واهتماماتهم، فدق جرس الخطر، ونحن علي أبواب العام الثاني للثورة، إنها السنة نفسها الذي توقفت جميع مهرجانات السينما، إلا من مهرجان واحد، لم تخرج أصداؤه عن الثغر، ووسط أجواء لا نعرف من خلالها إن كانت مصر ستشهد مرة أخري قيام مهرجاناتها، ومنها سينما الأطفال، الأفلام الروائية، مهرجان الإسماعيلية وغيرها. حضور ضخم هذا العدد الهائل من البشر الذين ملأوا ردهات مهرجان دبي لهذا العام، سواء المدعوين، أو الطاقم الضخم للعاملين في المهرجان، يعكس إلي أي حد صار مهرجان دبي هو «الأضخم» عددا في المنطقة العربية، سواء من حيث عدد المدعوين أو أقسام مسابقات المهرجان، والأقسام الأخري، وعدد الأفلام والتكريمات وقد بدا ذلك من خلال ازدحام الأسماء الموجودة في دليل المهرجان، وأيضا في الوفرة الملحوظة في المطبوعات، كشفت مسابقة «ليال عربية» عن ظهور نوع جديد من الأفلام، تذهب مباشرة إلي العرض التليفزيوني، وذلك لأن طول هذه الأفلام، زمنيا، لا تجعلها روائية طويلة، ولا أفلاماً قصيرة حيث تنحصر مدة عرضها في ثمانين دقيقة، ومن هذه الأفلام «التفتت» للفرنسي فيليب فوكون وهناك أفلام عديدة لها أكثر من مخرج، لكن الفيلم الذي توقفت عنده بإعجاب، هو «الرجل الأول»، إخراج جياني اميليو، وهو مأخوذ عن رواية مفقودة، تم العثور عليها بعد وفاة مؤلفها البير كامي، بنصف قرن، وقد تمت ترجمتها في سلسلة روايات الهلال، عقب صدورها مباشرة في فرنسا، وقامت بالترجمة لبني الريدي، والرواية، والفيلم بمثابة سيرة ذاتية للمؤلف تدور أحداثها عام 1957، وفي هذا العام جاء الروائي جاك إلي الجزائر من أجل زيارة أمه المريضة، وفوجئ أن ثورة الجزائر، قد غيرت مشاعر الأصدقاء القدامي، ولأن الكاتب مخلص لماضيه، فإنه يأخذ هذا الماضي معه ويعود إلي فرنسا. تجارب مهمة لا شك أننا تجاهلنا الكثير من التجارب المهمة، لعدة اعتبارات، منها أنه من المستحيل مشاهدة كل هذا العدد من الأفلام في هذا العدد القليل من الأفلام، لكن من المهم أن نتوقف سريعا عند الفيلم المصري «واحد صحيح» الذي ينتمي إلي كاتب السيناريو تامر حبيب أكثر من انتمائه إلي المخرج، فهذا هو الكاتب يعود إلي موضوعاته المفضلة التي شاهدناها في أفلامه السابقة ومنها «سهر الليالي»، و«حب البنات» و«عن العشق والهوي»، وغيرها حيث نجد أنفسنا أمام علاقات متشابكة أو متوازية، سواء لشخص واحد، أو عدة أشخاص، فنحن أمام هشام، الذي ينتقل بسهولة من امرأة إلي أخري، وفي حياته قصة حب مع فتاة من غير عقيدته، في الوقت الذي ارتبط فيه بأكثر من علاقة حميمية، وهو يتوق إلي حبيبته المسيحية، ويحاول مصالحتها، لكن بعد عودة قصيرة إليه، فإنها تقرر اللجوء إلي الدير، في حل ساذج أشبه بما رأيناه في «الراهبة»، و«لقاء هناك»، ويهرب هشام من حفل زفاف لفتاة دخلت حياته، ويهرب إلي امرأة، كانت متزوجة من أعز أصدقائه، هذا هو تامر حبيب يعود إلي موضوعه المفضل، في فيلم يشهد تحولا ملحوظاً في الإنتاج السينمائي لشركة السبكي التي بدأت بإنتاج أفلام جيدة، مثل «الرجل الثالث»، و«الرغبة». والعروض والمنافسات، والفنادق كثيرة العدد التي استوعبت كل هؤلاء الأفراد الذين جاءوا من كل أنحاء الدنيا، وقد بدوا كأنهم استوعبوا كيف يكونوا سعداء. بدا أهل دبي كأنهم أشد حرصا علي أن ينفردوا بصفة «الأحسن»، فحشدوا كافة إمكاناتهم من أجل إخراج مهرجان منظم بشكل ملحوظ، في مدينة تجعلك تشعر أنها ملفوفة بأوراق سلوفان، تذكرك بما تخيله كتاب «اليوتيوب»، عن المدينة النموذجية. حسب الاحصاءات الرسمية التي جاءت علي لسان سعود أمر الله، المدير الفني لمهرجان دبي السينمائي الدولي، فإن عدد الأفلام التي ذهبت إلي هذه الدورة يقدر ب171 فيلما من 56 دولة، منهاما يعرض لأول مرة في العالم، و25 للمرة الأولي دوليا، هذا يعني أن أكثر من ثلث أفلام المهرجان جاءت خصيصا لهذا الجمهور. وقد دخلت أغلب هذه الأفلام في إطار مسابقات المهرجان، منها المهر الإماراتي، وهو البرنامج الأكثر مشاهدة، حيث تنافس أفلام روائية عديدة، وأفلام قصيرة تسجيلية، أو روائية، وهناك أيضا مسابقة المهر العربي، والمهر الآسيوي الأفريقي، إلي «ليال عربية» وأصوات خليجية يعتبر نافذة مهمة لأفلام الخليج. تنوعت أقسام المهرجان بشكل ملحوظ أيضا، فبداخل كل مسابقة علي الأقل، هناك ثلاثة أفرع، مثل الأفلام الروائية الطويلة، والأفلام الوثائقية، والأفلام القصيرة وقد تم عمل تكريم خاص للسينما الألمانية في هذه الدورة، وتكريم خاص بالمخرج فرنر هرتسوج الذي تربينا علي أفلامه الرائعة، ومنها «فيتزكار الدو» و«نوسفراتو»، كما تم الاحتفال بالسينما الهندية.. وسينما آسيا - افريقيا. المهمة المستحيلة لكن الملحوظ أن المهرجان قد وضع كل اهتماماته من خلال ما سمي بعروض المهرجان الافتتاحية، حيث عرض لمدة سبعة أيام، أفلاما تعرض لأول مرة لدرجة أن حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، قد حضر حفل الافتتاح الذي عرض فيه الجزء الرابع من فيلم «المهمة المستحيلة» في حضور بطل الفيلم توم كروز، الذي استقبله جمهوره بحفاوة بالغة، وهو من إخراج براد بيرد، وقد تم تصوير جزء من الفيلم في الأدوار العليا من «برج خليفة» الذي يعتبر أعلي بناية في عام 2011. وتضمنت العروض الأولي عدة أفلام أمريكية، وهندية، وفرنسية، من بينها الفيلم الأمريكي «الخلف»، أو «الأحفاد»، كما سمي في المهرجان، إخراج الكسندر باين، والذي رشح من أجله جورج كلوني لجائزة الأوسكار، وهناك أيضا الفيلم المصري «واحد صحيح» إخراج هادي الباجوري، وقد كتب قصته تامر حبيب وفيه تحول ملحوظ لشركة السبكي، التي تستكمل رحلة تحولها إلي السينما الجادة، بعد فيلمي «كباريه» و«الفرح»، والفيلم من بطولة هاني سلامة، وبسمة، ورانيا يوسف، وكندة علوش، وهو الفيلم الذي خرج من المسابقة صفر اليدين. وقد غلب علي هذه العروض أن أربعة منها أمريكية، وفيلم واحد من كل من الهند، وألمانيا، وفرنسا، في الوقت الذي حاولت دبي أن تؤكد لزوارها أن الإماراتيين صاروا يصنعون أفلاما، وأن من حقهم أن يقدموا مسابقة للإنتاج الإماراتي، وإن كان قد غلب عليه التسجيلي عدا فيلما روائيا واحدا اخرجته الشاعرة نجوم الغانم تحت اسم «أمل»،بالإضافة إلي اثني عشر فيلما قصيرا. من بين أفلام عربية قصيرة، وروائية طويلة، تنافست أفلام عربية عديدة للحصول علي المهر العربي، وقد فازت بالجائزة الكبري الكاتبة والمخرجة والمنتجة والمونتيرة سوزان يوسف عن فيلم «حبيبي رأسك خربان»، وهو فيلم يحمل جنسية ثلاث دول، تدور أحداثه في غزة، وهو فيلم قليل التكاليف، مخرجته أمريكية الجنسية، تقيم في هولندا، ومتزوجة بصيني، وقد استوحت موضوع فيلمها من تجربة شخصية، حول قصة حب ربطت بين المخرجة، ومخرج مسرحي فلسطيني يسمي محمد، فبدأت تصور علاقتها معه، وقد أخذها ذات يوم إلي خان يونس، وتشاهد مجموعة من الصبية يقومون ببطولة مسرحية «مجنون ليلي»، ويحدث مزج بين موضوع المسرحية، وقصة حقيقية بطلاها طالبان جامعيان يكملان دراستيهما في الضفة الغربية، يجبران علي العودة إلي منزليهما في غزة، وهناك، يتحدي حبهما التقاليد، ولا يجد «قيس» وسيلة يصل بها إلي محبوبته إلا بنقش أشعاره علي جدران المدينة. ثورة يناير في هذه المسابقة شاركت أفلام عربية عديدة من سوريا «البرين ورصاصة العمار البيك»، والجزائر «قم نغتنم ساعة هنية لعبدالنور زخراح»، والمغرب «عاشقة من الريف لنرجس نجار» والأردن «الجمعة الأخيرة ليحيي العبدالله»، وقد كان هناك احتفال ملحوظ بالسينما الأردنية، وشارك في هذه المسابقة الفيلم الروائي الطويل «مولود في 25 يناير» إخراج أحمد رشوان، الذي حكي بنفسه عن ثورة يناير، من خلال مشاركته فيها وذلك منذ اليوم الأول للثورة، ولمدة أربعة أشهر، وعن ثورة يناير وأيضا، قدم مخرجان عربيان مهرجان إلي الدنمارك بتقديم فيلم «نصف ثورة»، حيث يختلط المخرجان عمر الشرقاوي وكرم الحكيم، بالثوار ضد حسني مبارك، حين جاءا إلي القاهرة بهدف عمل فيلم تسجيلي عن المدينة، وأثناء تواجدهما هناك تندلع ثورة يناير، فيشاركان في الثورة، ويصوران وقائع. كما أن المخرج اللبناني هي دي زكاك فاز بجائزة أحسن فيلم تسجيلي عن «مارسيدرس» وهو ينتمي إلي أفلام الحنين حيث يشاهد من خلاله سيارة مارسيدس وصلت إلي لبنان في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، وصارت هذه السيارة، شاهدا علي ما حدث لسنوات طويلة. كل هذه التجارب الجديدة، والجيدة، كان من الممكن مطاردتها بين قاعات العروض المتناثرة، في أكثر من كان، لكن هناك تقليداً جديداً بالنسبة لي علي الأقل، وهو وجود ما يسمي بعروض معملية، حيث إن هناك قرابة اثني عشر جهازا تليفزيونيا «31 سم تقريبا»، موجود علي برمجتها الكثير من الأفلام الروائية والقصيرة الموجود في مسابقات المهرجان، حتي إذا فاتك عرض أحد الأفلام يمكن مشاهدته في أي وقت علي هذه الشاشات، وقد اتاح هذا فرصا لمشاهدة الأفلام الفائزة، بعد إعلان أسماء الفائزين وأفلامهم. من هذه الأفلام تجربة جديدة للمخرجة المصرية هبة يسري حول جدتها المطربة الكبيرة شهر زاد في فيلم «حمل عنوان» ستوزاد.. أول عشق، حيث حاولت المخرجة أن تلملم كل مشاعرها ووثائقها عن جدتها، وقدمت عملا بالغ الشجن، والصدق، جمع بين الحنين، والمطربة في أيامنا هذه. نعم، وجد الشباب السينمائيون المصريون والعرب فرصا لتقديم تجاربهم التسجيلية، مما يعني أن لدينا جيلا كبيراً يتحسس خطاه نحو المستقبل بهذه التجارب التي تتحمس لها المهرجانات، وأغلب هؤلاء الشباب في العشرينات من العمر، من ناحية، وسبق لهم أن قدموا تجارب قصيرة عديدة، ومن هولاء طلاب لايزالون في معهد السينما بمصر، مثل أدهم الشريف صاحب فيلمه «أحد سكان المدينة»، وأيضا الفيلم الفلسطيني «صياد الملح»، إخراج زياد بكري وهو الابن الثاني للمخرج والممثل المعروف محمد بكري، والفيلم حول صياد زياد بكري وهو الابن الثاني للمخرج والممثل المعروف محمد بكري، والفيلم حول صياد يعيش وحيدا في كوخه الصغير، يشبه نهاراه ليليه، وهو في حالة ترقب للغد، لكنه أقرب إلي سيزيف في أن غدواته وروحاته متشابهة، لا تتغير. تكريم جميل قام المهرجان بتكريم الفنان المصري جميل راتب، عن مشواره في العديد من أدوار السنيما، ومنها مصر وتونس وفرنسا بالإضافة إلي بعض الأدوار الصغيرة في السينما الأمريكية، وقد صدر من المهرجان كتاب أعددته بهذه المناسبة، وفي المؤتمر الصحفي الذي حضره الفنان، قال ممجددا وببساطته المعروفة، أنه لم يكن أبدا نجما سينمائيا عالميا، وإن كان كل ما يهمه هو أن يقدم أدوارا جيدة مع المخرجين الذين عمل معهم، ومنهم صلاح أبوسيف، وأسامة فوزي، وشريف عرفة. أما الألماني فرنر هيرتسوج الذي تم تكريمه أيضا في المهرجان، فقد ترك بلاده، وذهب إلي الولاياتالمتحدة، أسوة بالكثير من أبناء جيله، ومنهم جاسيندروفر، وشولندورف لكن الغريب أن هذا الجيل لم يتألق في خارج بلاده، مثلما حدث لجيل ألماني في نهاية العشرينات من القرن العشرين صنع أجمل الأفلام الأمريكية بعد رحيله.