سعادة لا توصف انتابتني حينما أهداني الزميل جمال العسكري المشرف العام علي النشر بالهيئة العامة لقصور الثقافة الكتاب الأول من سلسلة «حكاية مصر» وهي سلسلة جديدة تضاف إلي عشرات السلاسل التي تصدرها الهيئة فمن المعروف أن تاريخ مصر طويل ممتد لآلاف السنين حقق خلالها الإنسان المصري منجزه الحضاري بهذه السلسلة موجهة للشباب حيث تسعي لتقديم تاريخ مصر بين أيديهم وتعريفهم به. محطات فالسلسلة التي يترأس تحريرها الكاتب الكبير/ عماد أبوغازي محاولة للتوقف عند محطات مختلفة عبر هذا التاريخ الطويل كما هي أيضا محاولة لالقاء الضوء علي رحلة المصري في بناء الحضارة الإنسانية لحظات الانتصار ولحظات الانكسار وكيف تعامل المصري مع هذه وتلك؟ كيف كان يبني علي انتصاراته؟ وكيف كان يتجاوز هزائمه؟.. وازعم أن سلسلة بتلك الأهداف النبيلة والراقية يجب أن نساندها ونقف خلفها بقوة فما احوج شبابنا لمعرفة المزيد والمزيد عن تاريخ مصر الحافل بالانتصارات، وسلسلة حكاية مصر بدأت أول إصداراتها الطيبة بكتاب «حكاية ثورة 1919» فتحت هذا العنوان صدر الكتاب الأول من تلك السلسلة كتبه الكاتب النابه عماد أبوغازي فهو كاتب من طراز خاص حكاء بالكلمة وبالصورة والأخيرة ميزة لا تتوافر لكثير أو يفتقدها الكثيرون بمعني أن الكاتب يتحول طواعية إلي مخرج سينمائي حيث تحديد اللقطات وأبعادها وكثافة الضوء ليعري من خلال ذلك الضوء والظل في التاريخ الذي يكتب أو يرسم بالصورة قبل أن تحكيه كلمات الكاتب لذلك أري أن فصول هذا الكتاب الممتع والشيق ما هي إلا لقطات سينمائية غاية في الحساسية والشاعرية رسمها قلم فنان قبل أن يكون قلم كاتب متمكن حيث يحتوي هذا الكتاب علي مقدمة وأربعة عشر فصلا أو لقطة - أيهما شاء القارئ - فالفصول سريعة ومتلاحقة لا تجعلك تلتقط أنفاسك من سحر الأسلوب وصدق مشاعر الكاتب الذي يعنون فصله الأول «وسكنت المدافع في نوفمبر» والمقصود بهذا التاريخ هو 11 نوفمبر من عام 1918 وهو اليوم الذي سكتت فيه المدافع علي جميع الجبهات لتنتهي الحرب العظمي أو الحرب العالمية الأولي والمدهش أن تلك المعلومة التاريخية يضعها الكاتب في نهاية الفصل الأول ممهدا بها إلي الفصل الذي يليه وكأننا بإزاء تتابع درامي محكم وسيناريو جيد الحبكة ينسجه كاتبه بوعي وعمق شديدين وتلك ميزة فيمن يكتب التاريخ. لقطات ذكية فالكاتب في فصله الأول لا ينسي عبر لقطات ذكية أن يمهد للقارئ ويشرح ويحلل الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية في مصر وكيف استطاع الحزب الوطني وحزب الأمة أن يمهدا الطريق لثورة 1919 لذلك يستهل المؤلف فصله الثاني باستهلال بارع يحلل فيه معاناة المصريين قبل بداية الحرب وبعدها قائلا: «ومع نهاية الحرب حدث ما لم يكن في الحسبان وما لم تكن تتوقعه سلطات الاحتلال التي تصورت واهمة أن الهدوء الذي خيم علي البلاد وأثناء الحرب كان خنوعاً من المصريين وقبولا للاحتلال، فقبل أن تنتهي الحرب اتفق سعد باشا زغلول الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية وزعيم المعارضة بها وزميلاه في الجمعية عبدالعزيز بك فهمي وعلي شعراوي باشا علي أن يطلبوا من دار الحماية تحديد موعد لهم لمقابلة وينجث المندوب السامي البريطاني للتحدث إليه في طلب الترخيص لهم بالسفر إلي لندن لعرض مطالب البلاد علي الحكومة الانجليزية، هنا استشعر السير وينجث الخطر وصرح لحسين رشدي باشا رئيس الحكومة بسؤال اشبه باللغم وهو كيف يتحدث ثلاثة رجال باسم الأمة وحينما علم سعد باشا بهذا الأمر اجتمع مع زميليه للتشاور في أسلوب يثبت جدارتهم في تمثيل الأمة فاتفقوا علي تأليف ما يسمي بالوفد المصري وكعادة البناء الحاذق أو الماهر يسلمنا الكاتب إلي الفصل الثالث الذي يسردفيه حكاية الوفد المصري فمع مغيب شمس يوم 13 نوفمبر 1918 كانت مصر جديدة قد ولدت لهذا استحق هذا اليوم أن تحتفل به باعتباره يوما للجهاد الوطني وهو اليوم الذي توجه فيه نواب الأمة سعد ورفيقاه لدار المندوب البريطاني مطالبين باستقلال البلاد وفي نفس التوقيت سعت الحكومة في ذلك الوقت برئاسة حسين رشدي باشا بتشكيل وفد رسمي يتجه إلي لندن للبحث في إجراءات الاستقلال، لقد كانت الأمة كلها علي قلب رجل واحد علي حد وصف الكاتب فهذه الجملة بقدر ما هي موحية موجعة أيضا لحد الايلام فحال الأمة الآن لا يسر عدواً أو حبيباً كما يقولون. صورة درامية ويظل الكاتب في سعيه الحثيث يرسم صورة درامية للتاريخ حيث ينتقل أو يتنقل بنا بمنتهي البراعة والسلاسة لدرجة ننسي معها أننا نقرأ أصلا بل نري ونشاهد ونسمع أنها الهارمونية التي صنعها الكاتب من حكاية ثورة 1919 فنسجها وغزلها غزلا جميلا ليخرج لنا في النهاية سيمفونية شديدة الحساسية فالمتأمل للعناوين التي يحتويها هذا الكتاب سيجد بسهولة ما أرمي إليه فالعناوين اشبه بمقطوعات موسيقية شديدة الايحاء والتأثير أيضا مثل بيت الأمة، مصر في حركة، الشعب اسير في بلده، طريق الثورة، وعادت الروح، سعد في المنفي، كرة الثلج، أيام الثورة، 7 أبريل، الرجل الذي قاد سعد الثورة من خلاله واخيرا هل نجحت ثورة 1919؟ ولنتوقف قليلا أمام المقطوعتين السابقتين فمن هو الرجل الذي قاد سعد زغلول باشا الثورة من خلاله والكاتب لا يتركنا كعادته في حيرة فالإجابة حاضرة فقبل سفر قيادة الوفد لباريس تألفت لجنة مركزية للوفد في مصر لجمع التبرعات لتغطية احتياجات الوفد في الدعاية للقضية المصرية وكان رئيس البعثة هو محمود سليمان باشا وسكرتيرها العام عبدالرحمن فهمي باشا وقد لعب الأخير دورا رئيسياً في الأحداث التي اعقبت مرحلة الثورة العنيفة، بل ذهب الشطط بالبعض إلي حد اعتبار عبدالرحمن فهمي هو المحرك الأول لكل شيء داخل مصر بالتنسيق مع سعد زغلول وحتي يوضح الكاتب للقارئ مدي شطط هذا الرأي يذكر الدور الوطني لعبدالرحمن فهمي باشا ويحلله بعمق وموضوعية إلي أن يصل للسؤال الأهم وهو هل يمكن اعتبار عبدالرحمن فهمي هو زعيم ثورة 19 والإجابة تأتي علي الفور حاضرة «بالطبع لا لكل الثورات جهازها السري لكن هذا الجهاز لا يستطيع أن يقود الثورة وحده ولا أن يحشد الجماهير ويحركها»، ويصل الكاتب بلجنة الشجي إلي ذروته حينما يتساءل بفهم ووعي شددين عن هل نجحت ثورة 1919 فلقد بدأت الثورة يوم 9 مارس 1919 ردا علي نفي سعد وزملائه إلي مالطة فالمفجر المباشر للثورة هو عملية القبض إذن يعتبر الإفراج عن سعد وزملائه وسفرهم لباريس أول انتصار حقيقي للثورة أما الهدفان الكبيران للنضال وهما الاستقلال والدستور فلقد نجحت الثورة في إلغاء الحماية البريطانية علي مصر رغم اقرار مؤتمر الصلح لها «فكان لاستمرار الثورة لأسابيع وشهور بعد الإفراج عن الزعماء أثره في انهاء الحماية البريطانية علي مصر وسعي بريطانيا للدخول في مفاوضات لتحديد شكل علاقتها بمصر». لا أستطيع في النهاية أن أقول إن الحكاية قد انتهت فثورة 1919 ابدا لا تنتهي دروسها والكتاب في تصوري الخاص ما هو إلا كونشرتو في حب الوطن أو سيمفونية شديدة الحساسية في عشق الوطن.