في العديد من دور العرض بشتي أنحاء العالم، يعرض فيلم «السيدة» «The Lady» وهو يدور حول رحلة كفاح مرير، رحلة أونج سو- كيو، رائدة حركة حقوق الإنسان في بلدها، وأحد مؤسسي حركة حقوق الإنسان علي مستوي العالم هل بطريق الصدفة يجيء عرض هذا الفيلم مع زيارة هيلاري كلينتون وزيرة خارجية الولاياتالمتحدة لبورما منذ أسبوعين؟ لنبدأ القصة من أول خيوطها.. أصوات متضاربة كان عمرها عامين عندما استيقظت من نومها علي أصوات متضاربة صراخ وطلقات نارية، وأم تندفع نحو سرير الطفلة تحتضنها، كأنما دفء صدرها هو درع يحميها من بطش الطغاة. الطغاة هم حكام بورما وقتذاك، وقد ولدت الطفلة في يونية 1945 وأول ما تفتح عليه وعيها هو اغتيال والدها عام 1947 . لقد تغلغلت الحادثة في مسارب نفس الطفلة وكلما كبرت في السن كانت تلك الذكري تتحول إلي رغبة في عمل شيء ما في إيقاف المجازر التي ترتبكها مجموعة من العساكر قاموا بانقلاب عسكري وتربعوا فوق قمة الهرم الاجتماعي كل من يعرفهم يتعرض للتصفية الجسدية. فلا قضاء ولا قوي سياسية تضرب بجذورها في قاع المجتمع.. الأغلبية وتكبر الطفلة وتقفز بسرعة هائلة درجات الوعي والنضج عرفت أن والدها قد اغتيل لأنه كمحام كرس نفسه لقضية شعبه وبحثت سوكي عن مصدر الحركات السرية التي توزع المنشورات في الخفاء وتستخدم حوائط المباني لكتابة برامج التطوير نحو الديمقراطية. والتحقت بتنظيم سري وهي الآن في نهاية المرحلة الثانوية لكن العسكر لا يهدأ إلا إذا سحقوا بكل من يقاومهم ويقبض علي سوكي وتعرف ما يدور في السجون: تعذيب، اغتصاب، وحشية جنود تحركهم ميكانيزمات الجنون الجنسي متعتهم في تمزيق أي فتاة تقع تحت براثنهم لعجزهم عن ممارسة الجنس في حياتهم اليومية وهذه هي سيكولوجية أي ديكتاتور. أصداء واسعة إلا أن ما يحدث في بورما كانت له أصداء واسعة في لندن ففي انجلترا ساهم المحامي الشاب مايكل أريث في تكوين حركة الدفاع عن حقوق الإنسان علي المستوي العالمي ووصلته أنباء هذه الشابة، التي أصبحت من زعماء حركات التحرير وإرساء أسس الديمقراطية، فنظم حملة واسعة ولكي «يبيض» العسكر صورتهم من الخارج، ولابد من ذلك لأنهم سماسرة الشركات المتعددة الجنسية ولو ساد مناخ قائم علي الذعر والإرهاب سوف يسحب المستثمرون رءوس أموالهم. ولفظ النظام نفس الحدوتة التي تحال أينما وجد نظام عسكري لقد قبض علي الشابة عن طريق الخطأ وها قد حررت الأوامر بالإفراج عنها. ورأت حركة الدفاع عن حقوق الإنسان بدلا من أن تلتحق الفتاة بجامعة اكسفورد تاركة بورما لهمومها. وبنفس روح المثابرة والصمود أقبلت سوكي علي الدراسة بجامعة اكسفورد وكللت جهودها بالنجاح وفي الوقت نفسه أصبحت عضواً منتسباً لحركة الدفاع عن حقوق الإنسان وخلال المناقشات التي تدور بين أعضاء الحركة تكونت لدي الشابة استراتيجية واضحة المعالم تقوم علي تنظيم مسيرات سلمية مع انتشار الحركة في الأقاليم وكانت ترسل إلي من تعرفت إليهم في بورما وترسل إليهم بين الحين والآخر ما يرسم من الخطوط العريضة لحركة مقاومة شعبية تبدأ بالاحتجاجات السلمية. هذا هو الخارج بالنسبة للشابة، أما الداخل فهو نوع من المشاركة الوجدانية بينها وبين مايكل أريث سرعان ما تتحول إلي عاطفة إنسانية متأججة توجت بالزواج، ثم أنجبت سوكي أول أطفالها وبعد عامين طفلة، وإلي هنا يمكننا لو أخرجنا فيلماً علي الطريقة الهوليودية أن نكتب «النهاية» THE END أو تقوم الصديقات بإطلاق الزغاريد لو كنا إزاء فيلماً مصرياً. لكن لا...... رغم كل ما تستشعره المناضلة الشابة من سعادة كان التزامها بحقوق أبناء شعبها وبدورها في تفتيح وعي بسطاء الناس يدعوها إلي العودة إلي بلدها بورما فالظروف كانت ملائمة لتأسيس حزب جديد. وفي عام 1988 عادت سوكي إلي بورما وتم بالفعل تأسيس حزب جديد هو «التجمع القومي من أجل الديمقراطية». كان النظام في بورما مستمراً في إضفاء ديمقراطية شكلية تصنع داخل أروقة المخابرات وذلك لكيلا تهتز صورة البلد في نظر الاستثمار الأجنبي وتقرر إجراء انتخابات برلمانية. وكانت فرحة غامرة بالنسبة لجماهير الشعب وللصفوة من القادة الشرفاء وكانت صدمة بالنسبة للنظام هل سيؤدي ذلك إلي اقتلاعهم من رئاسة بورما؟ وثرواتهم؟ بل هل من الممكن ان تطالب الأغلبية بمحاكمات لمن تسببوا في فساد البلاد؟ لمن نهبوا لا ثروات بورما فحسب بل مستقبل أبنائها. الدفاع المحرك وفيما كان يعزم الدفاع المحرك للنظم العسكرية، عملوا علي أن يندس وسط الجماهير الفرق التي تربت في قلب أجهزة الأمن مع إعطاء رتوش تعطيهم صفة حزب معارض جديد، يقف في مواجهة حزب التجمع الوطني من أجل الديمقراطية. ثم وصل النظام العسكري إلي قمة اليأس فبدأ «يفبرك» قضايا وهمية، يتهم أعضاء حزب التجمع بإحداث الشغب ويطلب من القيادة إعلان حالة الطوارئ، وتبدأ حملات اعتقال واسعة للمناضلين الشرفاء. ولأن سوكي تحمل جنسية انجليزية وزوجة شخصية عامة في انجلترا، فقد صدرت الأحكام بأن تحدد إقامتها في بيتها تحت حراسة مشددة. كان ماكيل أريث في لندن عندما وصلت أبناء ما حدث في بورما وعبثاً يحاول اللحاق بزوجته ولم يسمح له بزيارة زوجته وأبنائه إلا خمس مرات طوال 15 عاماً. وفوجئ النظام بمنح سوكي جائزة نوبل للسلام ومع ذلك لم يسمح لها بالسفر إلي السويد لاستلام الجائزة وظلت المناضلة الشابة في سجن بيتها مع أولادها حتي عام 2005 عندما سقط النظام العسكري، سقط بعد أن اجتاحت البلاد موجات متوالية من الاحتجاجات والسخط والاعتصامات والإضرابات العامة. سقط لأن الأجيال الجديدة أكملت مسيرة سوكي ولأن شعلة الحرية لا تنطفيء أبداً مهما فعل «العسكر». تلك هي الخطوط العريضة لفيلم «السيدة» THE LADY الذي يعرض منذ نهاية نوفمبر في شتي أنحاء العالم. تكوينات تشكيلية قصدت أن أبدأ الحديث من آخر خيوط شبكة السينما الملتزمة وهي ليست محاضرات أو خطباً لشخصيات سياسية، بل هي نفاذ إلي مآرب النفس البشرية وإسقاط إلي الخارج معاناة شعب بأكمله. إننا نري حياة المناضلين من الخارج كم هي إنسانية مشاهد الفيلم التي تجسد العلاقة بين المناضل الإنجليزي مايكل اريث، وبين المناضلة الرومانية أوضحت أن ما يربطهما هو مشروع حياة، حياتها وحياة شعب بورما وحياة حركة الدفاع عن الحقوق الإنسانية لكل شعوب العالم. يعيد لنا الفيلم التكوينات التشكيلية لحركة «التعبيرية الألمانية» التي ظهرت في العشرينات حيث نجد الألوان في تباين والمعمار يطل علينا علي خلفية غابات وأراضي زراعية، طبيعة تتفتح كاشفة عن جمالها تنادي يد الإنسان ليهذبها ويزرع ما هو يابس ويشيد طرازاً جديداً من المعمار. طبيعة تنادي الإنسان فإذا بإنسان آخر تجرد من إنسانيته يصيبه الفزع عندما يري الناس وقد تفتح وعيهم مع تفتح الحياة حولهم ولأنه يدرك جيداً أنه اغتصب حياة شعب بأكمله فيلجأ إلي الإبادة، ويقلب الأوضاع: من يطالبون بحقهم في الحياة يطلق عليهم النظام صفقة الإرهابيين وهنا يشيعون الإرهاب كي يسود الذعر ويحكمون. فيلم «السيدة» هو آخر أفلام المخرج لوك بيسون LUC BESSON والفيلم امتداد لسلسلة من الأفلام التي تدور حول «ميكانيزما» النظم السياسية الفاشية.