منذ فجر التاريخ والعلاقة بين المثقف والسلطة تتسم بالاضطراب والتوجس، من كلا الطرفين؛ فالمثقف يحاول الاقتراب من الحياة السياسية من أجل تحقيق أهدافه الوطنية في بلاده، والساسة يسعون لاجتذاب المثقف للحياة السياسية وهدفهم الأساسي هو الانتفاع من شعبيته، وتحويل قلمه وأفكاره إلي بوق للترويج لأنظمتهم، فإذا رفض المثقف أن يكون بوقاً للحكومة انتهي به الحال إلي غياهب المعتقلات أو النفي خارج البلاد، أما في حال قبوله، نال الحظوة من الحكومة، والاحتقار من الشعب. لكن لماذا المثقفون؟ هل لأنهم يتمتعون بخصائص ليست عند العامة من الناس؟ لا أظن ذلك، فالثقافة ليست شيئاً منفصلاً عن حياة الإنسان، بأفراحها وأحزانها، وليس المثقفون قوماً يعيشون في منطقة معزولة عن الدنيا، أو هم مجموعة من الكهنة، فهم يحبون ويكرهون ويتألمون، وعالم الثقافة هو نفسه عالم الحياة التي يعيشها كل إنسان، ولكن في صورة صريحة ونقية، فهم قوم رقيقو المشاعر، يسعون دائماً لتحقيق الخير والسعادة والجمال علي الأرض، وعلي رأسهم الشعراء، فالشعر أجمل الفنون وأرقاها، بل هو جوهر الأدب كله، وهو - بالدرجة الأولي - روح تترقرق كالنسيم في كل فن جميل، ولا تستقيم الحياة بغير روح شعرية تسري في أوصاله. ويقول الأديب الفرنسي "أندريه جيد": "إذا ظهر في أي بلد شعراء مجيدون، وإذا أحب هذا البلد قراءة الشعر، فاعلم أن النظام السياسي هناك صالح قويم، أما إذا خلا البلد من الشعراء النوابغ، أو عزف هذا البلد عن قراءة الشعر، والتغني به، فاعلم أن النظام السياسي هناك فاسد معوج"، ولذا كان للشعراء والأدباء دائما باع مع السياسة، لأن السياسة قوام الحياة الاجتماعية، فإن صلحت صلح حال الناس، وإن فسدت فسدت الحياة كلها، فهذا المتنبي الذي طالما سعي خصومه للنيل منه عن طريق إفساد علاقته بسيف الدولة، ولكنه يستميت في الدفاع عن نفسه أمام سيف الدولة، لأنه رجل سياسة قبل أن يكون شاعراً، ويعلم جيداً معني أن تكون له حظوة عند سيف الدولة، فنراه يلقي بقصيدته الغراء، أمام جمع من الشعراء، في بلاط سيف الدولة، يقول فيها: "سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا/بأنني خير من تسعي به قدم"، ثم يتقدم لسيف الدولة معاتباً له، لتصديقه للوشاة: "يا أعدل الناس إلا في معاملتي/فيك الخصام وأنت الخصم والحكم"، وهو نوع من العتاب الرقيق، يخالطه الترفع والكبرياء. ويتهم المتنبي - بعذ ذلك - بالارتزاق حين مدح كافور الإخشيدي، وذلك لينال منصباً سياسياً، فلما لم ينله انقلب عليه وهجاه، وذلك في قصيدته الشهيرة التي يقول مطلعها: "عيد بأية حال عدت يا عيد/بما مضي أم لأمر فيك تجديد"، والحقيقة أن كافوراً خشي المتنبي، عندما رأي فيه تعاليه في شعره، وسموه بنفسه، فعدل عن إعطائه ولاية، خوفاً من سلطته، وهنا تتضح طبيعة العلاقة بين السلطان والمثقف، فالسلطان لا يريد من المثقف إلا أن يكون خانعاً له، متكلماً باسمه، أو بالأحري مسخراً عمله الأدبي للدعاية له، والمتنبي لم يكن مجرد شاعر، بل كان رجلاً سياسياً، صاحب مبدأ وفكرة. طه حسين هذا نموذج لمثقف من مثقفي القرن العشرين، وهو طه حسين، فقد كان - منذ بداية حياته - يخوض غمار المعارك الفكرية السياسية، كان يسعي للسلطة لتحقيق أهدافه الوطنية والثقافية، ونجح في ذلك حتي وصل إلي منصب وزير التعليم، لكن مع ثورة يوليو 1952، نري له موقفاً مختلفاً، لقد كان من أوائل من رحبوا بالثورة، بل هو أول من أطلق عليها كلمة ثورة، ومضي في كتاباته مستلهماً منها روحاً جديدة، مطالباً بمزيد من الإجراءات، وقال: "آن للمصريين أن يدركوا أن الحكم لن يكون إلا لهم، وأن الحكام لن يكونوا إلا خدماً للشعب، ينصبهم ويرزقهم أجورهم، ويسألهم عما يفعلون"، ومن ناحية أخري، كان رجال الثورة يعرفون جيداً قدر طه حسين، ولذا فقد أتاحوا له حرية الكتابة والتعبير، في الوقت الذي تعرض فيه الحزبيون والسياسيون القدامي لمحاكمات، وبعضهم حوكم في محاكم استثنائية، اختلف علي تسمياتها ما بين: "محكمة الغدر"، و"محكمة الثورة"، وراح الرجل يدعو إلي مساندة الثورة، في سبيل أن يعود الدستور، وتعود الديمقراطية، عقب انتهاء الفترة الانتقالية التي حددها مجلس قيادة الثورة، لكن سرعان ما استشعر طه حسين الخطر علي الديمقراطية التي دافع عنها منذ ثورة 1919، فالدستور الذي شارك في وضعه لم ير النور، ولم تكن الثورة جادة في احترام الديمقراطية. لم يكن طه حسين بوقاً للثورة، كما أراد رجالها منه ذلك، فالتزم الصمت، وعندما صدر دستور 1956، لم نجد مقالاً واحداً لطه حسين، ناقداً أو داعماً، فقد أخذ الدستور الجديد بمبدأ الجمهورية الرئاسية، الذي جعل اختيار رئيس الجمهورية بالاستفتاء العام، بدلاً من الانتخاب، كما خول له الانفراد بالسلطة التنفيذية، بما في ذلك تعيين الوزراء، وترؤس مجلسهم، وألغيت الأحزاب.. وهكذا توجس كثير من المثقفين من هذه السياسة، مما دعا محمد حسنين هيكل، في حوار قومي عام 1960، إلي اتهام المثقفين بأنهم لم يتعاونوا بإخلاص مع النظام. وهكذا، شعر طه حسين بأن الثورة ابتعدت كثيراً عن أهدافها التي قامت من أجلها، ونراه في نهاية حياته، يتحدث بمرارة قائلاً: "إن البلد لايزال متخلفاً وقعيداً ومريضاً وجاهلاً، وإن نسبة الأميين كما هي، والمثقفون يتناقصون بسرعة، تدعو للانزعاج، يخيل إلىّ أن ما كافحنا من أجله، هو نفسه لايزال يحتاج إلي كفاحكم، وكفاح الأجيال المقبلة بعدكم، أودعكم بكثير من الألم، وقليل من الأمل!"، ويودعه نزار قباني بقصيدته الغراء التي قال فيها: "أيها الأزهري يا سارق النار ويا كاسراً حدود الثواني..عد إلينا فإن عصرك عصر ذهبي ونحن عصر ثان..سقط الفكر في النفاق السياسي وصار الأديب كالبهلوان"، فما أحوجنا إلي إعادة قراءة أسباب هذه الانهيارات، ومع وجود هذا الفكر السلفي، نحتاج إلي فكر تنويري. شوقي وهذا أحمد شوقي الذي كان ارتباطه بالخديو توفيق مثار سخط من الشعب، ولم يكن اقتراب شوقي من السلطة عن رغبة منه، لكن بحكم نسبه، وقد كان - في ذلك الوقت - يقول مدائحه في القصر، مما أدي إلي محاربته من قبل بعض الكتاب والأدباء، مثل طه حسين والعقاد والمازني وشكري وغيرهم، كما تولدت عن ذلك جفوة بين شوقي وسعد زغلول، في بعض الآونة، ولكن شوقي لم يستطع الإفلات من قيود الذهب التي حملته في كثير من الأحيان علي الصمت علي أحداث وطنية جليلة، حتي لا يغضب مولاه، وكان اعتذاره في هذه القصة قوله: "أأخون إسماعيل في أولاده/وأنا ولدت بباب إسماعيلا؟"، ويوم زفاف علي بن شوقي، أجّل سعد زغلول البرلمان ساعة كاملة ليحضر الحفل، وهذا شيء لا نظير له في تاريخ البرلماناتً، لكن كان خلاف شوقي مع أخيه، فتحي زغلول، قاضي دنشواي، وحين رقي فتحي زغلول إلي منصب وكيل الحقانية، أقام له الوصوليون حفلاً في فندق "شبرد"، ودعوا شوقي إلي قصيدة، ولكن شوقي ظل يسوفهم، إلي أن استيأسوا من حضوره، ولكنهم فوجئوا بظرف يصل إليهم، بداخله أبيات لشوقي يقول بها: "إذا جمعتم أمركم وهممتمو/بتقديم شيء للوكيل ثمين..خذوا حبل مشنوق بغير جريرة/وسروال مجلود وقيد سجين"، فشوقي مثال المثقف الذي لم يسع للسلطة، بل هي التي سعت إليه، ولكنه آثر البقاء مع العامة والمظلومين. عباس العقاد أما عباس العقاد، فيشهد له التاريخ مواقفه الحرة التي كان يدافع فيها عن الحق، حتي ولو أدي ذلك إلي معارضة حزبه، ومن ذلك، موقفه من قضية طه حسين، حين نشر كتابه "في الشعر الجاهلي" سنة 1926، ودعا فيه إلي حرية النقد والفكر، مما أثار حنق النواب الوفديين عليه، فطالبوا بإبعاده عن الجامعة، وانبري العقاد، النائب الوفدي، يدافع عنه، انتصاراً للحرية الفكرية، وفي سنة1930، أشيع أن الملك فؤاد سيحل البرلمان، ويعطل الدستور، فخطب العقاد في مجلس النواب، خطبة نارية، صاح فيها صيحته المشهورة: "إن الأمة علي استعداد لأن تسحق أكبر رأس في البلاد يخون الدستور ولا يصونه"، وعندما أصبح إسماعيل صدقي رئيساً للوزارة، عمد إلي إلغاء الدستور، وأحل محله دستوراً آخر، يحد من إرادة الشعب، ويجعل فؤاداً حاكماً مطلقاً، ولم يلبث صدقي أن غدر بالعقاد؛ فيأمر باعتقاله، ويقدمه للمحاكمة، بتهمة عيبه في الذات الملكية، ويحكم عليه بالسجن تسعة أشهر، ولم يحد ذلك من كفاح العقاد، ونصل مع العقاد إلي عام1952، وقد بلغ ضيق الشعب من الأحزاب السياسية منتهاه، وهو ضيق ظل يضطرم منذ معاهدة 1936، التي اعترفت بشرعية الاحتلال الإنجليزي، وقد مضت الأحزاب بعدها تتخاصم علي مناصب الوزارة، وكأنما محيت كل كرامة لرؤساء الأحزاب، فهم يرتمون علي عتبات قصر عابدين تارة، وعلي عتبات قصر الدوبارة تارة أخري، ويقوم الضباط الأحرار بانقلاب في 23 يوليو، ويخفق قلب العقاد بالفرح والابتهاج، وهنا يحس العقاد أن مهمة نضاله السياسي قد انتهت، فقد تحققت لمصر حريتها السياسية، وأخذ يتحقق معها العدل الاجتماعي الذي لا تتكامل لأمة حريتها بدونه، ولكنه صدم في انحراف الثورة عن مسارها، كغيره من الأدباء والكتاب، فآثر الصمت والاستمرار في مؤلفاته. توفيق الحكيم توفيق الحكيم الذي أنزله عبد الناصر منزلة الأب الروحي للثورة، بسبب روايته "عودة الروح" التي أصدرها عام 1933، ومهد بها لظهور البطل المنتظر الذي سيحيي الأمة من رقادها، وبعد موت عبد الناصر، أصدر الحكيم عام 1972 كتابه: "عودة الوعي" الذي هاجم فيه عبد الناصر بعنف، واصفاً فترة حكمه بأنها مرحلة عاش فيها الشعب المصري فاقد الوعي، فهي مرحلة لم تسمح بظهور رأي في العلن، مخالفاً لرأي الزعيم المعبود، وفي فبراير 1972، كتب بيده بيان المثقفين المؤيدين لحركة الطلاب، ووقعه معه وقتذاك نجيب محفوظ، وساءت بعدها علاقة الحكيم مع أنور السادات، حيث قال عنه الأخير: "رجل رفعته مصر لمكانته الأدبية إلي مستوي القمة، ينحدر إلي الحضيض في أواخر عمره"، وينسي السادات أن من رفع الحكيم، هو أدبه وفنه وموهبته، ولم ترفعه الأنظمة السياسية التي يصور لها صلفها، انها الوحيدة القادرة علي المنح والمنع، والأمثلة كثيرة، مما لا يتسع لها المقام، لكن أين الأدباء والشعراء والكتاب الآن من تلك الانتخابات النيابية؟ لماذا لم يتقدم منهم أحد للحصول علي مقعد في البرلمان؟ هل وصلنا لعصر استغنت فيه الأنظمة السياسية عن رجال الأدب والفكر؟ أم أن الأدباء لم يروا خيراً يرجي من تلك الأنظمة؟ إن كان الأمر كذلك فلا فائدة ترجي، لا من نظم سياسية، ولا من أدباء وشعراء، لأنه لا أدب بدون سياسة، ولا سياسة بدون أدب.