لم أصب بدهشة أو استياء حين علمت أن محمد سعد هو كاتب سيناريو فيلمه الأخير «تك تك بوم». فالحقيقة أن محمد سعد وغيره من النجوم يلعبون دورا كبيرا في تأليف أفلامهم، إن لم يكونوا هم بالفعل المؤلفون الحقيقيون لها، بينما يحمل العمل اسم المؤلف، الذي في الغالب لم يتجاوز دوره سوي تدوين وترتيب مؤلفات السيد النجم، فتتوالي في سلسلة من الأحداث منطقية كانت أو غير، المهم أن تحظي بإعجاب سيادته وإلا استبدلها بمؤلفاتي آخر. بل إنه وبالنسبة لمحمد سعد تحديدا فربما يبدو اكتفاءه بكتابة اسمه علي السيناريو نوعا من التواضع الجم من جانب فنان يمتلك الرؤية الكاملة في مختلف عناصر الفيلم السمعية والبصرية والفنية والتقنية . إذا كنت لا تصدقني فعليك أن تراجع كل أفلام محمد سعد السابقة لتكتشف أنه صاحب خلطة وبصمة يفرضها علي كل أعماله ويستخدم فيها مختلف عناصر الفيلم في حدود فهمه وثقافته. تتشكل المشاهد من لقطات مرسومة تعتمد علي التمثيل من الوضع راقدا أو مقلوبا ومن أغنيات تتكرر في ذات نفس المكان، إما حارة مسفلتة بالطوب أو فرح شعبي مليء بصور الابتذال والمجون مع مشاهد وعظية متناثرة وكادرات مزدحمة بتفاصيل الشعبيات والعشوائيات .. الملامح الدرامية الأساسية والإخراج الفني وعناصر اللغة السينمائية إذا جاز التعبير علي مثل هذه الأفلام تكاد تكون متطابقة. بين «اللمبي وتك بوم» لكن بالتأكيد هناك ما يميز هذا العمل عن ذاك في بناء متماسك نوعا ما هنا ومتصدع تماما هناك.. وفي تتابع لا يخلو من تواصل أو تشويق في فيلم، تقابله حالة من التشتت وعشوائية الانتقالات في آخر.. وقبل كل هذا في رؤية قد تتميز بقدر من الوجاهة والمنطقية في مقابل ارتباك فني ولعثمة خطابية وسذاجة مفرطة في غيره . هذه هي المسافة التي تفصل بين أفضل أفلام سعد في رأيي «اللي بالي بالك» و«اللمبي» وبين كوارثه التي وصلت إلي أدني مستوياتها في «كركر» أو «بوشكاش» وهاهي تواصل انحدارها في فاجعة «تك تك بوم». ولكني أعترف لكم ولمحمد سعد شخصيا أنني مازلت أمتلك بعض درجات الحماس لمشاهدة أفلامه بحثا عن نمره المضحكة مضحيا بآخر عشرين جنيها في جيبي حتي نهاية الشهر، علي أمل لحظات قليلة من الضحك الصافي والإبداع المتألق لموهبة قررت أن تظهر قليلا وأن تخبوا غالبا. كل هذا وأنا أعلم شبه متيقنا أنني سوف أخرج غاضبا وساخطا علي محمد سعد وحزينا علي جنيهاتي الأخيرة التي ضحيت بها. المدخل العبقري الذي ينفذ منه محمد سعد إلي أحداث ثورة 25 يناير يأتي من خلال فكرة براقة فعلا، والله دون سخرية أو استهزاء. وهي فكرة كفيلة بدفع الدراما والإلهام بأفكار في منتهي الأهمية والسخونة رغم هزليتها . فأحداث الانفلات الأمني التي وقعت يوم 18 يناير تحدث في نفس ليلة زفاف «تك تك» بائع البومب علي حبيبته الجميلة «درة» بعد سنوات من الشوق والغرام. وتتوالي المعوقات التي تمنع الزفاف السعيد مع تصاعد أحداث الثورة. «تك تك» هو نموذج أيضا للمواطن معدوم الوعي فاقد الإدراك لأي شيء وهو يمثل ملايين المواطنين الذين يربيهم النظام لحمايته وتأمينه والإنصات لرسائله المسمومة بمنتهي السعادة والرضا والإيمان بخطابه المتخلف. وليقفوا في وجه أعدائه وليؤكدوا نظريته ومبرراته القمعية التي يسوقها للعالم بأنه يحكم شعبا من الحمقي والغوغائيين، لا تجوز معاملتهم إلا بالبطش والإرهاب. في ظل هذه الرحلة الشاقة مع أيام الثورة التي لا نري منها سوي ملامح ضبابية، وعبر اختلاط تك تك بالشخصيات وعبر تفاعله مع الأحداث كان لابد أن تهون أزمته الصغيرة في تحقيق ليلة دخلته في مقابل إدراكه لأزمة وطن كبير مشكلاته بلا حدود وزفافه علي الحرية يبدو بعيدا. هذه هي الخطوط الطبيعية التي كان يجب أن تمتد لتصل بالعمل إلي بر الأمان. جمل غير مفيدة لكن سعد نفسه لا يجد الشجاعة لقول كلمة حق. فهو يقدم فيلمه وهو يدرك جيدا أن المعركة مع الفلول لم تحسم بعد. وحساباته كنجم تجعله يلعب علي الحبال. وعلاوة علي هذا فإن وعيه الثقافي والسياسي ربما لا يختلف كثيرا عن وعي شخصية تك تك التي يؤديها . فتتضح الفجاجة الفاضحة في محاولاته التستر علي منافقة كل الأطراف. تتوقف الأحداث مع فواصل من الحكم الوعظية التي يمكن أن تقال في أي موقف أو مناسبة لتهدئة النفوس بين فريقين من البلطجية وليس بين ثورة لها مطالب ونظام ظالم وفاسد. وتتعثر محاولات سعد في أن يلفظ بجملة مفيدة واحدة مع خوفه من أن يثير غضب فئة ما أو تيار ما. فحتي مشاهد التعذيب في السجن تفتقد معناها ومدلولها . فتك تك بوم يدخل السجن ويعاني من بطش المأمور المنفلوطي الذي يتورط في مشهد عشوائي في قتل اتنين من مساعديه. ويسعي لتلفيق التهمة لتك تك. ولكن ما علاقة كل هذا بالثورة وبحكاية تك تك . وما علاقة كل هذا بمشهد مفتعل لتوصيل جاره المسيحي للمستشفي بعد إصابته علي أيد البلطجية . لا تريح نفسك بأن تتساءل ما علاقة أي شيء بأي شيء في فيلم رديء . فالخطير في الأمر أن النجم يخرج من مرحلة الفيلم الرديء إلي مرحلة الفيلم الهادف عامدا بإفساد وعي الناس وخلط مفاهيمهم حول الثورة .. والرغبة في الخلط بين الثورجي والبلطجي ..و الدعوة للهدوء وضبط النفس حتي لا يندس بين الثوار أعداء الثورة . وهو حق يراد به باطل . علينا أن نكون أكثر صراحة وبعيدا عن القوائم البيضاء والسوداء التي تستفز البعض، فهناك مجموعة من النجوم محدودي الوعي والذين تغيب عنهم بالتأكيد فكرة أن الفن ثورة يرون أن حدود واجبهم تتوقف عند انتقاد النظام ولكن الثورة عليه هي رجس من عمل الشيطان. بل إنها تبجح وتطاول علي نظام استطاعوا أن يتنجموا في كنفه . وتمكنوا من أن يحققوا نجوميتهم وشهرتهم في ظله . وتعلموا كيف يتعاملون مع الجماهير في حدود الوعي والحريات التي أتاحها لهم هذا النظام . إنهم في حالة ارتباك لا يدركون كيف يمكن أن يتعاملوا مع سقف الحريات عندما يرتفع ولا كيف يتعاملون مع هذا الشعب إذا امتلك الوعي الحقيقي وأدرك أن ما يقدمونه له لا علاقة له بالفن ولا بأي شيء وإنما مجرد خلطة مسمومة تتناسب مع المنظومة الفنية والإعلامية الرسمية وشبه الرسمية الفاسدة التي جعلت معدته تهضم الزلط ولا تمكنه من أن يدرك الفن الحقيقي. إن العلاقة بين صناع الفن الرديء والفلول هي علاقة لا تنفصل. وسوف نظل نكرر كلمة الفلول التي تستفزهم. الفلول ..الفلول الأكثر استفزازا في هذا الفيلم أن سعد يعتذر من خلاله عن أجمل أفلامه اللي بالي بالك. وعن شخصية مأمور السجن رياض المنفلوطي التي كانت أقوي كشف سينمائي عن موهبته كممثل والتي عبر من خلالها بقوة عن قدراته كممثل قادر علي معايشة شخصية بنبضها وصوتها وروحها ولزماتها وأن ينحتها ليس بمنطق النحت السينمائي ولكن بمعني النحت التشكيلي . في «تك تك بوم» يظهر المنفلوطي في صورة مشوهة ورديئة وبالغة السوقية وبأداء متخلف وبذيء وغير مثير لا للتصديق ولا للضحك . وقد لا نلقي اللوم كثيرا علي المخرج أشرف فايق مادمنا نعلم أنه يعمل في أسوأ الظروف مع محمد سعد وهو ينفرد ويجهر بالكتابة لنفسه. ولكن كان علي أشرف علي الأقل أن يصارح سعد بمساحات التطويل الرديئة وتكرار العبارات والحركات ولحظات الاندماج التي يسعد بها سعد وحده وربما لا تثير سوي ضحك منافقيه. لم يتمكن المونتاج حتي من تنبيه النجم إلي أنه يحرق نفسه ويكرر حركاته. في اللي بالي بالك كانت أفكار سعد وأحلامه وإفيهاته تجد اثنين من الكتاب الموهوبين المجتهدين سامح سر الختم ونادر صلاح الدين يضعانها في الشكل الصحيح وفي إطار منظومة درامية . وكانت الكوميديا داخل المشهد تتطور بالحيل الدرامية السليمة وبردود الفعل . وكان الحوار يعتمد علي أساليب التسليم والتسلم . وكانت المواقف الدرامية لا تخلوا من عناية ومن مواجهات قوية بين اللمبي وصول السجن حسن حسني . لكن في «تك تك بوم» لا شيء يتطور ولا موقف مرسوم ولا يجد الممثل عازفا آخر يشاركه لأن الارتجال يغلب علي كل شيء . وعندما استعان سعد بمحمد لطفي وترك له المساحة وامتدّ الزمن والمساحة بالمشاهد لم يجد لطفي ما يفعله سوي الضحك من حركات سعد. كان سعد في اللي بالي بالك يتحرك بقدر من الحرية والانطلاق في إطار بناء بصري وحركي يرسمه بدقة مخرج موهوب وطموح بمستوي وائل الإحسان . ولكن سعد قرر أن يتخلي عن أصحاب المواهب أو أن يفرض علي من يمتلكها أن يتخلي عنها لحسابه. في التراث السينمائي المصري العالمي هناك العديد من عباقرة الفن الذين جمعوا بين التمثيل والتأليف والإخراج أيضا ومنهم شارلي شابلن وبينيني واستوود وفي مصر الريحاني ومحمد صبحي . ولكن كان هؤلاء جميعا يمتلكون بدرجة أو بأخري القدرة علي الإصغاء للآخرين وترك مساحات لإبداع الآخرين واختيار مستشارين من غير منافقيهم.. وعلاوة علي هذا كانوا جميعا يعملون في ظروف إبداعية أفضل وكانوا يحسمون اختيارهم غالبا قبل الوقوف أمام الكاميرا: هل هم مع الفن والحرية والثورة أم مع الابتذال والقهر والفلول؟